منذ عامين تقريباً كتبت مقالاً عن ضرورة بيع الخبز بالوزن، خاصة أن هذا الأمر يحقق هدفين مهمين، الأول القضاء التام على التلاعب في وزن رغيف الخبز، الذي يتم بصورة عشوائية ولا تلتزم به أغلب المخابز، خاصة السياحية، الثاني سوف يسهل من عملية التسعير وسط التقلبات التي نجمت عن تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات المختلفة، الأمر الذي يستدعي ضرورة التسعير المرن بصورة دورية للسلع والمنتجات، خاصة الغذائية كثيفة الاستهلاك.
من الخطأ التسليم بأن الأسواق الحرة تنضبط فيها الأسعار من تلقاء نفسها، اعتماداً فقط على مؤشرات العرض والطلب، فهذا قد يكون منصفاً في الأسواق الناضجة، والدول المتقدمة، لكن الأمور تخضع لمعايير مختلفة في الدول الفقيرة والاقتصاديات الناشئة، فالأسواق يجب أن تخضع لفكرة لجان التسعير الدورية، وهذا فكر لابد أن ينتشر، ما دام الجنيه المصري "حر"، ولا تتدخل الدولة لدعمه أو التأثير على سعره بأي صورة، لذلك قد تنخفض أسعار السلع أو ترتفع بصورة يومية، وهذا يستلزم حماية المستهلك من خلال لجان التسعير، التي يجب أن تضع على الأقل تكلفة المواد الخام، وتأثيراتها على أسعار المنتجات، والأسعار العالمية، وحجم الانخفاض أو الارتفاع في الأسعار بطريقة شفافة.
حينما يعجز بعضهم عن تقديم إجابة وافية عن الأسعار أو المغالاة والاحتكار التي يقودها بعض التجار في عدد من السلع، خاصة الغذائية الاستهلاكية، فيكون الرد دائماً أن السوق حرة ولا يتدخل أحد في الأسعار! ، وهذا كلام منقوص ومعلب ويؤشر إلى فقر في مستويات الفهم والاستيعاب لمدارس الاقتصاد الحديثة، التي تتدخل دائماً لزيادة المعروض من السلع، وتتحرك لمواجهة الاحتكارات، وتفتح الطريق لمسارات العرض والطلب، والتغلب على المعوقات التي تقف أمامها، وتؤسس للتكامل بين القطاعين العام والخاص، وتعتمد على آليات تضمن مواجهة الركود أو تراجع معدلات الاستهلاك، وما قد يؤدي إليه تراجع الإنفاق على أداء الشركات وحجم الاستثمارات المستقبلية.
المدارس الحديثة في الاقتصاد الحر تضمن مسارات حقيقية للعرض والطلب، وتحرص على حقوق المستهلك من خلال رقابة فعالة، بالإضافة إلى لجان تسعير دورية للسلع الاستهلاكية، بل إن اجتماعات البنوك المركزية من وقت لآخر لتحديد أسعار الفائدة ومراجعة معدلات التضخم ليست إلا أدوات لضبط السوق، والتدخل لتصحيح مسارات الاقتصاد، وضمان إجراءات سليمة تدعم التحرك نحو مسارات فعالة تضمن استقرار قواعد التسعير، ومعدلات النمو ونسب البطالة، وانعكاسات ذلك على مستوى رفاهية المواطنين.
في تقرير لـ CNN قبل عامين، بعنوان "هل يجب على الحكومة ضبط أسعار المواد الغذائية والغاز؟" تباينت الإجابات ما بين مؤيد ومعارض، لكن كان هناك رأياً قوياً يشير إلى أنه يجب فرض ضوابط على أسعار مجموعة كبيرة من السلع، وتحديد الحد الأدنى والأقصى منها، وقد دلل التقرير على ذلك بأن ألمانيا سعت إلى الحد من مقدار الإيجار الذي يمكن لأصحاب العقارات تحصيله من المستأجرين. وفي المملكة المتحدة تم وضع حدود للمبالغ التي يمكن أن يتحملها المستهلكون مقابل الطاقة وبعض أسعار السكك الحديدية، وكذلك تجربة الأرجنتين في تجميد أسعار نحو ألف سلعة بعد تجاوز معدلات التضخم 250%، والمجر في أوروبا الشرقية التي خفضت أسعار الدقيق والسكر والزيت والحليب.
أتصور أنه لا يوجد ما يمنع الحكومات في مختلف دول العالم أن تسيطر على الأسعار ما دام التضخم خارج السيطرة، وغير قابل للتنبؤ به على المدي القصير والمتوسط، وبالنسبة لمؤشراته في مصر أظن أن الوضع لن يختلف كثيراً حتى نهاية العام الجاري، لذلك تحرك الحكومة نحو ضبط أسعار عدد من السلع صحيح وسليم، ويتفق مع التجارب الدولية، لكن تحديد الأسعار وحده ليس نهاية الطريق، بل يجب أن يعقبه رقابة فعالة ومواجهة قوية، حتى لا تتحول القرارات المستقبلية إلى حبر على ورق، ويصير الموضوع مجرد روتين، فكما ذكرت في السطور السابقة أن تحرير سعر صرف العملة سوف يستدعي تدخل الدولة بصورة دائمة في أسعار العديد من السلع، خاصة الغذائية كثيفة الاستهلاك.
مهم جداً أن نفرق بين الاقتصاد الحر، الذي تحدده الآليات السليمة للعرض والطلب، وبين "فوضى التسعير"، التي تخلقها معدلات التضخم المرتفعة، وضغوط توفير العملة الصعبة، خاصة في السلع الغذائية، التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تحجيم الطلب عليها لارتباطها باحتياجات أساسية لدى المواطن، بعكس السلع الكمالية أو الفاخرة، التي يمكن تخفيض استهلاكها أو الاستغناء عنها لدى بعض الشرائح، اتساقاً مع مستويات الدخل والإنفاق.
الأيام المقبلة اختبار حقيقي لقوة المنظومة الرقابية في الحكومة على فرض الأسعار الجديدة للخبز السياحي و ضبط السوق، وتحسين مسارات العرض والطلب والقضاء على الاحتكار، والنجاة من سيناريو "الركود التضخمي" وهو الأسوأ، كما يسميه رواد أسواق المال، صراع الدببة والثيران، عروض البيع لا تتلاقى مع عروض الشراء، في ظل وجود التضخم والركود في الوقت ذاته، وهذا قد نراه جلياً في القطاع العقاري خلال الفترة المقبلة، فالمستهلك مازال يري الوحدات السكنية في خانة الآلاف، بينما المستثمر العقاري يضعها في خانة الملايين، والنتيجة المنتظرة ركود حركة البيع والشراء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة