عندما نتذوق مفردات جمال البيئة التي نعيش فيها حينما نمارس أنشطة نوعية متعددة سواء كانت سلوكية أو معرفية، حياتية أو عملية؛ فإنه من الطبيعي أن نبدي آراء فردية أو تشاركية عما نشاهد ونرى ونرصد، ويفترض أن يكون ذلك حكمًا قيميًا جماليًا، وهذا يجعلنا نعي مدى جمال ما يحيط بنا من مقدرات طبيعية نؤثر فيها ونتأثر بها، ونعي حينئذ أن حضارتنا مليئة بالعادات والتقاليد والممارسات ساحرة الجمال والرقي، وهو ما يمثل لدينا الهوية الثقافية التي ننتسب وننتمي إليها، بل ونفخر بمكوناتها الأصيلة، ومن ثم نحافظ على بريقها المستدام، ونتناقل ونتبادل عمقها ومكونها ومعانيها من جيل إلى جيل، عبر تفاصيل كل نهضة نسعى لتحقيقها.
وهناك علاقة وطيدة بين ماهية الجمال وما تنادي به تعاليم العقائد السماوية وينتجه العلم بتنوعاته وتحث عليه الأخلاق الإنسانية منذ بدأ الخليقة، وما تعلنه فرضيات الفلسفات المتنوعة؛ لأن الجمال كائن في طبيعة وفطرة بني البشر، ودومًا ما يوجهها في المسار القويم؛ كي ينال الإنسان حظه ونصيبه من متعة حقيقية تجعله محبًا لمعتقده مخلصًا لوطنه، قادرًا على مواصلة طريق الخير رغم ما قد يواجهه من تحديات ومتغيرات عديدة، وهنا تعمل القيم الجمالية على صقل العلاقة الارتباطية بين ما يدركه الفرد في مجال رؤيته وما يتخيله في وجدانه وما يقرأ تفاصيله المتعددة في عناصر الطبيعة المشاهدة بالنسبة له، وهذا ما يؤكد في إحساسه مفردات جمال الطبيعة من حوله؛ فالإنسان بطبعه محب للجمال.
وفي إطار تعضيد الهوية الثقافية لدى أبنائنا يجب أن نولى اهتماما بالتربية الجمالية؛ لنحدث عن قصد تنمية حقيقية في مسألة تقدير كل ما هو جميل وراق؛ فتنحو الانفعالات تجاهه وتستمتع بمكونه الظاهري وتتمعن في مكنونه؛ لتكتشف صفات وخصائص لا يراه إلا من تربي وتدرب على مهارات قراءتها، وتكون لديه وجدان صافي يعمل دومًا على صقل اتجاهاته في المسار الإيجابي؛ فتزداد لديه مستويات الوعي، وتصبح معتقداته حاملة بكل فخر للقيم الجمالية التي تقوي هويته الثقافية بصورة مباشرة.
وننوه بأن التربية على الجمال هي عملية شاملة تحتاج إلى الصبر والاستمرار، وتؤدي في النهاية إلى تنمية المستوى الثقافي الجمالي لدى الإنسان، وهذا يحثنا أن نقدم لأجيالنا في موائد الخبرات التعليمية والحياتية والعملية ما يجعلهم يفكرون بصورة عميقة وإيجابية فيما يطالعونه ويكتسبونه عبر المشاهدة والممارسة أو المطالعة القرائية، بما يساعد في تشكيل لبنة الإبداع الفني لديهم والتذوق الجمالي، وبما يسهم في صقل خبراتهم المرتبطة بالثقافة المجتمعية التاريخية والآنية، وبدون جدال يؤدي ذلك في مجمله لتنمية الحس الخيالي في أذهانهم، ومن ثم يصب في الهوية الثقافية المصرية لدى أبنائنا شباب وقادة المستقبل.
ولا نغالي إذا ما تحدثنا عن حتمية الاهتمام بتنمية القيم الجمالية لما لها من أهمية كبرى في تشكيل الوعي الصحيح لدى الفرد، والذي به تتكون قناعاته ويعمل ضميره كموجه له في المسار الصحيح؛ فهذا بوصف بسيط يعد موجه للسلوك البشري لشخصية تمتلكها الميول والمعتقدات والعادات التي يجب أن يكون لها ضابط يضمن تجنب انحرافها عما هو قويم، وهذا دون مبالغة يعمل على إقرار حالة التوازن النفسي لديه ويمكنه من أن يميز بين الحق، والباطل والخير، والشر، والجمال، والقبح.
وجدير بالذكر أن القيم الجمالية تعتبر أداة مجتمعية فاعلة تعمل على ضبط السلوك المجتمعي العام، ومن ثم تؤكد ضرورة الحفاظ على البيئة ومقدراتها الطبيعية، وتحرم النيل منها أو ما يمارس للتعدي عليها؛ فتصبح هناك ثوابت مجتمعية يتم التمسك بها، إلى أن ينتشر ما يسمى بالذوق العام في كافة مكونات وممارسات الحياة بمختلف تنوعاتها، وهذا يمكن المجتمع من أن يتضافر ليحافظ على اختياراته التي نبعت من ثقافته وحضارته المتوارثة؛ فللعادات والتقاليد المجتمعية مكانة تؤكد على الهوية الثقافية للمجتمع.
فالتربية الجمالية بشكل عام تساعد الفرد على تنمية الحس الجمالي والقدرة على التقدير والتعبير عن الجمال في جوانب مختلفة من حياته، وتساهم في تحسين الجودة الشخصية والثقافية للفرد وتقوي الارتباط العاطفي والروحي بالعالم من حوله، وتزخر بيئتنا المصرية بجمال ومكونات فردية تبعث في النفس الشعور بالتفكر والراحة والبهجة والسرور، وتجدد لدى الفرد الطاقة والمقدرة على العطاء، وتخلق لديه نسق الإبداع في كل ما يقوم به وما يعيشه؛ لتتربى حواسه على تذوق الجمال في صورة المتعددة، ويدرك أن قيم الجمال النابعة من داخله ومتأصلة فيه، تزيده ثقة بالنفس، وحبًا وانتماءً وولاءً لوطن يعيش في وجدانه.