قبل نهاية الثمانينات وفي مساء أحد الليالي الصيفية ومن فوق خشبة المسرح الحديث-مسرح السلام -بشارع قصر العيني يقف صلاح السعدني وهو يصرخ في الحاضرين – وكنت لحسن الحظ واحدا منهم-وفي أحد أبطال العرض:
أين أنا ومن أنا
أين نحن ومن نحن
أين الحلم وأين اليقظة
أين الوهم وأين الحقيقة
أريد أن أتحقق من التخوم التي تفصل بين الحلم واليقظة
كانت هذه الكلمات من المسرحية الفلسفية والصاخبة الشهيرة – الملك هو الملك- للمؤلف السوري المعروف سعد الله ونوس وأخرجها للمسرح مراد منير ولعب دور البطولة فيها صلاح السعدني وفايزة كمال وحسين الشربيني ولطفي لبيب وأشعار أحمد فؤاد نجم وغناء محمد منير وألحان حمدي رؤوف، هي المعبرة بصورة حقيقية بكل ما تحمله من معنى عن مشوار " العمدة ابن غانم" و" حسن ارابيسك" في علاقته بالحياة والفن التي تأرجحت بين اليقظة والحلم والوهم والحقيقة في مساره الشائك وشروطه المعقدة في الخلط بين الشيء وضده والمواقف وعكسها بموهبة فائقة ومتجاوزة حدود التربية الفنية والسياسية. عالم خاص عاشه صلاح السعدني- المولود في 23 يناير 1943ورحل عن دنيانا منذ يومين- بين المهزوم أحيانا – مثال أبو عزة المغفل في الملك هو الملك- الذي أصبح ملكا في لعبة الملك للترفيه عن حاشيته فتنقلب الأحوال من لعبة الى انتصار. ثم الى حمدي المهزوم والمهموم والمطارد من نظرات المجتمع في مسرحية الدخان لميخائيل رومان مع باقي الصيغ المسرحية التي قدمها في اثنين في قفة وبالو ثم في الشخصيات الدرامية والتي أهمها العمدة سليمان غانم وحسن ارابيسك المرتبك والحائر من طبيعة هويته.
من تابع المشوار يتثبت له أن هذا الموهوب صاحب القيمة الفنية الكبيرة لولا وجوده في هذه الأعمال بقدرته المحكمة في الأداء ما أمكن مشاهدة أعمال ذات قيمة رسخت في الذاكرة كنموذج لفنان استثنائي ومتميز يقف عنده تاريخ الفن المصري ويفتخر به.
في الحياة كما في الفن عانى صلاح السعدني كثيرا فارتباط أسمه بأخيه الكاتب الصحفي الساخر والمشاغب الكبير محمود السعدني عرضه للتضييق والإهمال والتهميش الذي كان يصل الى حد التعمد أحيانا.
فصلاح الذي التحق بمدرسة السعيدية أو ما كان يطلق عليها مدرسة المشاهير من الفنانين والإعلاميين والسياسيين والأدباء تخرج منها الى كلية الزراعة في جامعة القاهرة المجاورة لها يسعى الى تحقيق موهبته على مسرح الجامعة مع رفيق دراسته ومشواره عادل امام ويلفت اليه الأنظار بالعروض المسرحية في الجامعة مثل ثورة الموتى مع عادل. لكن وبين الحلم واليقظة والحقيقة والوهم يجد نفسه بعد التخرج عام 67 " معطلا" في بداية مرحلة الاحتراف رغم موهبته.
في كتابه "المضحكون" الصادر عام 71 يتحدث عمنا محمود السعدني عن أخيه الصغير وما يتعرض له من اهمال وتضييق ونصحه بضرورة الايمان بموهبته ومقوماته كفنان مميز ويتمسك بحلمه وطموحه.
صدى النصيحة من الأخ الأكبر ظل عالقا في الوجدان والعقل حتى لو تأخرت النجومية مثل صديقه عادل امام الذي ركب قطار الشهرة بعد التخرج مباشرة. فيقدم صلاح مجموعة من الأدوار الصغيرة من خلال مسرح التليفزيون ويشارك في بعض المسلسلات التي كان يلعب بها أداور هامشية ولكنها مؤثرة. فيشارك في مسلسل الرحيل عام 62 والضحية عام 64 ضمن خماسية "الساقية" للكاتب عبد المنعم الصاوي ويؤدي دور الأخرس بصورة جذبت اليه الانتباه من الجمهور والنقاد ثم يأتي علوان في فيلم الأرض، الفلاح الذي يمثل الطبقات الدنيا في السلم الاجتماعي لكنه قادر على التعايش مع ظروفه وأحواله القاسية بسخرية عبقرية ممزوجة بكوميديا سوداء وأظن أن هذه السخرية اكتسبها من شخصية العم محمود السعدني.
في المسرح شارك صلاح السعدني في أكثر من 35 مسرحية لم يلعب في عدد منها دور البطولة ولكن التأثير القوي الذي تركه مازال باقيا وحاضرا في الذاكرة. فمن ينسى حمدي في الدخان أو أبوعزة المغفل في الملك هو الملك والأمير في مسرحية الملوك يدخلون القرية وعباس الحلو في زقاق المدق وأدواره الأخرى المؤثرة في " الدنيا مزيكا" و" حالة طوارئ" و" حارة السقا" و" أغنية على الممر" و" زهرة الصبار" و" اثنين في قفة"
كلها أدوار كانت تنادي صلاح السعدني فيترك بصمته عليها بامتلاك زمام الشخصية ودمجها في روحه وثقافته ومواقفه السياسية وانحيازاته الاجتماعية. ويبقى هنا أن نشير الى الدور الكبير الذي لعبه المخرج مراد منير في اكتشاف كثير من عبقرية الأداء عند هذا الفنان الموهوب على المسرح من خلال تجاربه الثلاثة معه، الملك هو الملك، واثنين في قفة، والدخان.
وقدم للسينما 54 فيلما سينمائيا أهمها أغنية على الممر، الرصاصة لاتزال في جيبي، تحت الصفر، الشيطان يغني، الموظفون في الأرض، الأرض، طائر الليل الحزين، شحاتين ونبلاء، العملاق، زمن حاتم زهران، الغول، فوزية البرجوازية
وفي التليفزيون قدم مجموعة من الأعمال-حوالي 94 مسلسلا- التي سطرت اسمه بحروف من ذهب طوال مشوار فني يمتد الى نحو نصف قرن ومنها الضحية والرحيل زلا تطفئ الشمس والجوارح وقرية الرعب وحسابي مع الأيام، القاهرة والناس، أم العروسة، أبنائي الأعزاء شكرا، صيام صيام، وقال البحر، أبواب المدينة، عصر الحب، الرحاية، ليالي الحلمية، ارابيسك، حلم الجنوبي، الناس في كفر عسكر، الأصدقاء، أوراق مصرية، النوة، وغيرها. وللإذاعة قدم عددا كبيرا من المسلسلات والسهرات مثل فارس عصره وأوانه، وأبو عرام ومذكرات المعلم شعبان وأنا والحبيب.
ما بين المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون وطوال تاريخه الفني الممتد من عام 60 وحتى رحيله 2024 – ما يزيد عن 60 عاما قبل مرضه- كان الفن المصري أمام ممثل فذ متمكن وصنايعي لديه القدرة على تأدية كافة الأدوار بنفس القدرة على الاقناع والابداع والبراعة وبهوية مصرية واضحة لا تخطأها العين
يرحل صلاح السعدني، ارابيسك، العمدة الملك بمدرسته الفنية الخاصة والمميزة التي كان شعارها ومبدأها دائما أن الفن أداة تشكيل، وعي وتثقيف الناس والمجتمع. رحل فنان حقيقي غزير المعرفة والثقافة صاحب المواقف الواضحة والثابتة في مواجهه الفن البارد والبليد. رحم الله صلاح السعدني
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة