وصلت الرسائل الساخنة بأبرد الوسائل المُمكنة. لقد تلاقت إرادات الأطراف جميعا؛ أقلّه حتى الآن، على إبقاء النار مطمورة بالرماد، وعدم تقليبه حتى لا يتّسع الحريقُ بما يتجاوز أهدافهم التكتيكية الراهنة. الولايات المتحدة تريدُ الشرقَ الأوسط تحت سقف الحرب الشاملة، وإيران تتجنَّب الانزلاق لمواجهةٍ لم تُحدِّد شروطَها أو تتأهّب لها، وإسرائيل تتحسَّب لتبديد المكاسب التى أحرزتها من مناوشات الحرس الثورى قبل أسبوع؛ لهذا تسير على حبلٍ مشدود بين الثأر لكرامتها، والبُعد عن تصديع التحالف المُتشكِّل حديثا فى ليلة الصواريخ والمُسيّرات، وتضبط أداءها مُؤقّتا بالمعيار الذى حدَّدته واشنطن؛ حتى لو كانت رغبة نتنياهو ومصلحته الشخصية تدفعانه للتصعيد.
ثلاثة أسابيع كاملة والغيوم تزحمُ سماءَ المنطقة. منذ هَدَّمت طائراتُ الجيش الإسرائيلى مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق على رؤوس باقةٍ من قادة حرسها الثورى. هدَّدت طهران بالانتقام، ووقف الجميع على أطراف أصابعهم فى انتظار الردّ. وحينما جاء مُتأخّرا ثلاثة عشر يوما؛ كان أقلّ ممّا بشَّر به المُمانعون وتخوَّف منه الأمريكيون. والخِفّة التى نُفِّذ بها شجَّعت «بايدن» على السعى لطَىّ الصفحة، وتشجيع مجلس الحرب فى تل أبيب على الاحتفال بالنصر المعنوىّ وتجاوز شهوة الردّ على الرد. وفى المقابل؛ رجَّحت كلُّ الإشارات ألَّا يمرّ المشهدُ دون تعقيب، ولا أن تُفوِّت حكومة اليمين الفُرصةَ المُركّبة التى واتتها: أن تضع ورقة إضافية فى بريد الأعداء، وأن تُراكِم أرباحا مُضاعَفة من الرُّعاة والحلفاء.
لم تكن المُبادرة فارسيّة فى أيّة لحظة. تاريخيّا تأسَّس «حزب الله» على صيغة ردّ الفعل إزاء العربدة الصهيونية فى لبنان قبل حرب 1982 وبعدها، والتمدُّد بالعراق جاء تاليا للغزو الأمريكى، ولم تكن إسرائيل بعيدة من فلسفته الساعية لإعادة ترتيب المنطقة، وكذلك الحال فى سوريا كجبهةِ حربٍ اعتياديّة وساحة نزاع على الأرض والأمن. وحاضرا؛ فإنَّ الأذرُع الشيعيّة تتلقَّى ضربات العدوّ لسنواتٍ دون ردع، وتعتصمُ بعنوان «الصبر الاستراتيجى» كلَّما اشتدَّت الهجمةُ وتفجَّر النزيف. والبديل الجاهز دوما إمَّا المُناوشات المُتقطّعة من الخارج على نقاط التَّمَاس، أو الاقتراب الخافت من الداخل عبر ورقة المُقاومة الفلسطينية وفصائلها المنضوية تحت راية المحور؛ إلى أن تنازعت الرؤى واختلفت الحسابات، فكان «طوفان الأقصى» بميقات السنوار لا خامنئى، وعلى أمل إرباك المنطقة وتسييل ساحاتها، وليس المناورة الجزئية بمنطق «البسترة»؛ أى التسخين والتبريد لإبقاء الصراع حَيّا، وخالصا للتعريف العقائدى الذى حصره فيه الإسلاميّون: سُنّة وشِيعة، بما لا يترك مجالا لمنافسة السياسة من داخل فلسطين أو دول الاعتدال، ودون الذهاب به لصدامٍ كامل لا يُمكن التنبّؤ بعواقبه، كما لا يُمكن احتمال كُلفته حالما يتداعى داعمو الاحتلال، أو يستدعيهم بجَرس المخاطر الأُصوليّة والتهديد الوجودى.
استفاقةُ إيران بعد حادثة القنصلية لم تكن مُقنعة لعدّة أسباب؛ أبرزها أنها ليست المرّة الأُولى لانكشافها بتلك الصورة المُزرية، كما أنها فوَّتت وقائع سابقة طال العدوان عُمقَ الدولة وليس امتداداتها الدبلوماسية والعسكرية بالخارج، ضباطا وعلماء ومنشآت نووية، دون ثأرٍ كامل أو حفظٍ عابر لماء الوجه. والأهمّ أن المُشاحنات الأخيرة جاءت فى سياق الحرب الغاشمة على غزّة، وقد تركها محورُ المُمانعة تصطلى بنار الاحتلال دون دعمٍ صادق أو إسنادٍ جاد، ولم يُفعِّل دعاياته عن «وحدة الساحات»؛ بل إنه فى بعض الفترات وجَّه ذراعه اللبنانية لتخفيف اللهجة بما لا يتخطَّى قواعد الاشتباك، ورَدَع ميليشيّاته فى العراق حينما تطلَّب الظرفُ مُغازلة واشنطن أو اتِّقاء شرورها. وإزاء ذلك؛ فإنّ انتخاب العملية الأخيرة دون غيرها للردِّ لا يُعبِّر عن تعديلٍ للاستراتيجية، ولا عن مساعٍ جادة لابتكار مُعادلة ردعٍ جديدة؛ إنما فى أقصى احتمالاته كان عملا سياسيّا يُخاطب الغرب ويخطُب وِدَّهم، فضلا على الأثر العاطفى الذى فرض نفسه؛ لناحية ترميم الجبهة الداخلية واستبقاء دائرة العرب المُؤازرين؛ نكاية فى تل أبيب وحاخاماتها لا محبّة لقُم وعمائمها السوداء، وربما الكيد لدول المنطقة والمُزايدة على مواقفها المُتعقّلة.
لقد كانت العمليةُ التى منحتها اسم «الوعد الصادق» إغارة على الحلفاء بأكثر ممَّا على الأعداء. من هذا المُنطلَق؛ ربما يصحُّ توصيفها باللعبة المسرحية المُنسَّقة؛ لا لأنها جَرَت على شرطِ الصهاينة ودون إيذائهم، إنما لاستهدافها غاية وحيدة تنحصرُ فى أن تسحرَ عُيونَ الأتباع والمُوالين، وتحافظ على القليل الذى فى يدها؛ ولو منحت أضعافه لنتنياهو، وبما يكفى لإخراجه من مأزقٍ عميق، واجه فيه الداخل والخارج عاريا من النصر والإقناع والمُبرِّرات المنطقية. وإذا كان الميزان العسكرىُّ مقلوبا أصلا؛ فإنّ المُبادرة السياسية انتقلت بعد ليلة المُسيَّرات من طهران لتل أبيب، وهكذا تعالى الترقُّب لردّ الفِعل الإسرائيلى مُتجاوزا نظيره فى حالة إيران؛ بل كان مشمولا بشكل استباقى بالقبول وغطاء القوَّة والدبلوماسية من العواصم الغربية الفاعلة؛ حتى مع خطابها السياسى البارد، لجِهةِ الدعوة إلى الصمت، والتشجيع على عدم الانزلاق فى مُغامرةٍ تُهدِّد بإشعال الإقليم.
تردَّدت إشاراتٌ عدّة تُؤكِّد أن هجوم الأسبوع الماضى أُدِير تحت القبّعة الأمريكية. ربما لم تعرف عددَ الصواريخ والطائرات الانتحارية وقواعد إطلاقها؛ لكنها كانت تعرف كلَّ ما عدا ذلك تقريبا، وتكفَّلت طهران بإيضاح الغامض قبل أن تتجاوز المقذوفات مجالَها الجوى. وتبيَّن أنّ القنوات الخلفيّة حملت رسائل تحذيرٍ وطمأنة، نُقِلَت عبر السفارة السويسرية ومن خلال عواصم عربية وإقليمية، كان اللسان الأمريكى واضحا فيها بأنه لا يُوافق على تهديد إسرائيل، ولن يتخلَّى عن دعمها، وقال الإيرانيون ما معناه أنهم سيُبيِّضون وَجهَهم دون التسبُّب فى أضرارٍ تستتبعُ التصعيد. وعلى تلك القاعدة رُسِمَت حدودُ اللعبة؛ ولم تخرج عنها الدولةُ العبريّة نفسها فى ردِّها على الرد. أمَّا المُحصّلة: مات قادة الحرس الثورى مجانا، وأُسدِل ستارٌ من الغبار والدخان على مُعاناة غزّة، وتجدَّدت سرديّة المظلومية الصهيونية مشفوعة بمنافع وقتية ومستقبلية كبيرة، ولم تتبدَّل موازين الردع رغم الدعايات المُهلِّلة لأوَّل قصفٍ مُباشر من الضفّة البعيدة للخليج العربى باتجاه الجغرافيا السليبة بين النهر والبحر.
انتظر «كابينت الحرب» خمسةَ أيام، قيل إنه تراجع فيها مرَّتين عن إطلاق ضربته الانتقامية. وحملت الأخبارُ فى ليل الخميس أصوات انفجاراتٍ فى قاعدة عسكرية بمدينة أصفهان، على مقربةٍ من مُنشأة نطنز النووية. اتّضح لاحقا، بحسب أوثق المعلومات، أنها نتاجُ ضربةٍ مُخطَّطة من الخارج، استهدفت وحدات رادار ومُضادّات أرضيّة ربما تتكفَّل بحماية المُفاعلات. إيران نفت تعرُّضَها لاستهدافٍ جوى أو صاروخى، وقالت إنها مُسيَّرات صغيرةٌ ربما انطلقت من الداخل، ولم تُخلِّف أضرارا تُذكَر. وإسرائيل لم تتبَنّ العمليةَ رسميّا، ولا تحدَّث عنها المستويان السياسى والعسكرى؛ لكنّ إعلامَها الرسمى أشار لضربةٍ من خارج المجال الجوى الإيرانى، ورجَّح خبراء غربيّون أنه صاروخٌ باليستى جديد يُطلَق من الطائرات. والخُلاصة؛ أنّ الطرفين حقَّقا أهدافهما كاملة: الإيحاء بالقوّة والردع، وصَرف المكاسب المُتاحة سياسيّا ودعائيّا، وإرجاء المُواجهة بعدما تأكَّد لهما عدم اكتمال شروطها. لكن كانت الخطابات كلّها للداخل، دون أثرٍ على السياق الإقليمى أو مساسٍ بتوازناته القائمة.
قال وزير الخارجية الإيرانى بعد الهجوم إنّ الأضرار محدودة؛ ولو فكَّرت إسرائيل فى العدوان مُجدَّدا سيكون الردُّ قاسيا. والمعنى أنهم امتصّوا الضربةَ وقَبلوا رسالتَها، ولن يذهبوا للتعقيب عليها، وعلى الأكثر قد يعودون لحروب الظلّ عبر تفعيل أذرعهم بالآليّة المُعتادة. أمَّا نتنياهو فقد استفاد من هجمته فى احتواء حُلفائه التوراتيين، وإشباع عاطفة الشارع للثأر، دون فقدان فوائض الهلع الوجودى، وفاعليّتها فى تصليب جبهته الداخلية أو تعطيل محاولات عزله، كما صَعَّد المواجهة بأقلّ التكاليف المُمكنة؛ إذ عندما وصل بصواريخه أو مُسيَّراته لعُمق إيران، اختار أن يُدمِّر تمركزاتٍ مهمَّتها كَشف الأهداف العدائية وتوجيه الدفاعات للتعامل معها، والمعنى أنه يرى والخصوم عميان، وليس بإمكانه الدخول فقط؛ إنما شَلّ قدرات الرَّدع، فتكون الأرضُ مُستباحة كالسماء، والمُضمَر فى رسالته أنَّ الذى اختار طبقات الحماية للبيئة النووية قادرٌ على الوصول للمشروع نفسه. لقد أراد الحرسُ الثورىّ أنْ يصُكّ مُعادلة ردعٍ جديدة، قُوامها الاشتباك بالأصالة لا الوكالة، ومن الجبهة الأُمّ لا عبر الساحات الرديفة؛ وما حدث أنّ المُعادلة القديمة ترسَّخت أكثر، وزاد عليها بلُغةٍ عبريّة: نَصِلُ إليكم ولا تَصِلُون، وتُحاربون وحدكم ومعنا تحالفٌ دولىّ واسع، وفى السياسة لنا غطاءٌ الشركاء وأنتم عرايا، وإن ذُكِرتم فبالإدانةِ والعقوبات.
لا أقولُ إنّه وضعٌ مثالىّ، ولا إنَّ الغطرسةَ الصهيونية مقبولةٌ أو مُبرَّرة؛ لكن المقصود أنَّ التوظيف السياسى للقضايا الإنسانية والأخلاقية العادلة لعبةٌ شريرة فى أصله، ولا فارقَ فيه بين من يرتدى عباءةَ الجانى ومَن يُفرَضُ عليه رداءُ الضحيّة. والواقع أنَّ إسرائيل تُمارس جرائمَ فجّة فى كلِّ ساحةٍ تطالها، ولأكثر من ثمانية عقودٍ وحشيّة على الفلسطينيين؛ لكنّ الفارق ليس كبيرا بين ما تفعله دولةُ الاحتلال، وما فعلته الميليشيات ورأسُ محورها فى أربع دولٍ عربية، وفى فلسطين نفسها. لقد استُبِيح العراقُ تحت رايةٍ مذهبية، وصار «حزب الله» فوق لبنان ودستوره، وسوريا مرتعٌ للمُرتزقة الأفغان والباكستانيين، ورأس حربةٍ ضد جيرانها باللجوء والإرهاب والمُخدِّرات، فضلا على إعادة تشكيلها ديموغرافيّا بما يُمكِّن التشيُّع من رقاب الهويّة والمواطنين. وما فعله الحوثيِّون فى اليمنيين لا يقلُّ عما يفعله الصهاينةُ بضحاياهم العرب. وكما كان الانقسامُ الفلسطينىّ مصلحة لمُتطرِّفى تل أبيب، وقد استثمروا فى الفصائل الإسلامية ودعموا انفصالَها بغزّة عن بقيّة الوطن الضائع؛ فإنَّ المُتاجرين بشعارات المُمانعة أسَّسوا رُؤيتَهم للقضية على هذا الشتات، وآخر ما يطيبُ لهم أن تتحقَّق المُصالحةُ أو تنضوى «حماس والجهاد» تحت رايةٍ مُوحَّدة؛ لا لشىءٍ إلَّا أنّ مُنظّمة التحرير فكرة وطنية صافية، ولو أصابها العطب مُؤقّتا، وليست تُربة صالحة لاستنبات بذور المذهبية وشعاراتها الرنّانة، ولا الاستتباع لمرجعيّةٍ تمزجُ العِرق بالاعتقاد، وتختلف مع العدوِّ على مناطق النفوذ وصيغة الابتلاع، وليس فى المبدأ والقِيَم الصافية.
العودةُ لحروب الظلِّ كانت أسرعَ من انطفاء الجولة المُباشرة. تعرَّضت قاعدة «كالسو» بالعراق لقصفٍ فجر السبت، وردَّت فصائلُ الحشد الشعبى بالتصويب على إيلات. فى المُقابل؛ أذاعت وسائلُ إعلامٍ عديدة أنَّ الجيش الأمريكى نشر قدراتٍ صاروخيّة قادرة على تدمير المرافق النووية الإيرانية. وعلى الأرجح؛ فإنّ رُزمة التحرُّكات الأخيرة ليست بغرض التصعيد، أو حتى التلويح به؛ بل لزحزحة الميدان إلى الحالة التى كان عليها، وضمن نطاقات الاشتباك التى لا تُهدِّد إسرائيل وجوديّا، ولا تحرمها تماما من عامل الخطر الذى تُسوِّغ به كثيرا من مُمارساتها الظالمة. ويتلاقى ذلك مع فَرض عقوباتٍ جديدة على إيران، والرغبة المُتأجِّجة لدى إسرائيل والغرب فى عَزلها، وتجذير التحالف المُضادّ لها بعد ليلة المُسيَّرات؛ ليصير فاعليّة إقليمية دائمة. وقد تستتبعه تفاهمات أكثر خشونة بين الجبهة الداعمة للاحتلال؛ لعلَّ من ملامحها مُقايضة الإدارة الأمريكية للتهدئة الحرجة مع رأس المحور، بإطلاق يد نتنياهو لإنجاز عمليّته فى جنوب قطاع غزّة، وقد يمتدُ الأمرُ لعمليةٍ مُوسّعة على الجبهة الشمالية، بغرض تحييد حزب الله، أو دَفعه لشمال نهر الليطانى، أو الفوز بمزايا القرار 1701 دون الالتزام بأعبائه الضامنة لأمن لبنان ومصالحه الحدودية والاستراتيجية.
أغلبُ الظنّ أنَّ محور الممانعة سيعود لقواعده القديمة. الأثرُ المُباشر أنَّ ثابت «الصبر الاستراتيجى» سيُعاد تفعيله عند الحدود السابقة، وربما أكثر؛ ليزداد الرهان على الوكلاء فى بقيّة الساحات الطَرَفيّة، ربما يتضاعف الرهان على ميليشيا ويتضاءل على غيرها؛ لكنها جميعا ستكون السبيل الوحيدة لإيصال الرسائل أو الردِّ عليها. يُنذر ذلك بمخاطرَ فى العراق واليمن بدرجةٍ كُبرى، وربما يلعب الوجود الروسى دورا فى ترشيده داخل سوريا، كما أنَّ لبنان بعيد نظريّا من الصدام؛ تأسيسا على أن «حزب الله» دُرَّة تاج المشروع الشيعى، ولن يُغامر آباؤه الرُّوحيّون بالزَّجّ به فى مُواجهةٍ حارقة أو نحره تحت أقدام الصهاينة؛ لكنْ يظلُّ السياق موقوفا على المُمارسات الإسرائيلية، ومدى اختراقها للخطوط الحُمر، وتعدِّيها على إيران وأُصولها فى الداخل وبامتداد الإقليم؛ ما يعنى أنَّ ثمّة لحظة حرجة قد تصدُر فيها الأوامر للضاحية وحسن نصر الله بالدخول على خطِّ النار بكامل طاقته. وقد تمتدّ يدُ المُقامرة للجوار، والفترة الأخيرة كشفت عن خطاباتٍ ساخنة تهُبّ رياحها على الجوار الأُردنى.
لعلّ الجولةَ انفضّت، ولن تتفاقم عن حدودها الراهنة. ثمّة رباطٌ عضوىّ بين الأُصوليّتين الشيعية والتوراتية، وهما شرط وجودٍ وازدهار لبعضهما، وليس من مصلحة إحداهما أن تزيح الأخرى تماما. جَردةُ الحساب تخسر فيها غزّة أوّلا، وتتضرّرُ المنطقةُ بكاملها، فى أمنها وسَلامها، وقُدرتها على توليد حلولٍ سياسية قابلة للحياة وسط الجنون والجنون المُضاد. كانت ضربةُ القنصلية الطُّعمَ الذى اصطادت به تل أبيب غريمتَها، وليلةُ المُسيَّرات شبكةَ الصيد التى أبقت المأخوذين بدعايات المُمانعة فى قَيد الافتتان والدروشة العاطفية. وبينهما راعٍ أمريكىّ سَلَّم العراق قبل عقدين للطرف الذى يختصمه فيه الآن، ويشهد لسبعة عقودٍ على المسلخ المفتوح فى فلسطين، وبين الصداقة اللدود مع إسرائيل، والعداء الأليف لإيران، ستمضى الأمورُ على حرفٍ من الخشونة المحسوبة والتسويات المُلفّقة، يُسرَقُ فيها الوقتُ لصالح أجندة تفكيك الإقليم وإعادة تركيبه، وتُختطَفُ الجغرافيا لمحاور مُتعارضةٍ فى الظاهر، ومُتطابقةٍ فى الجوهر، ولا تجمعها إلا الرُّؤى العدائية والخيارات الحارقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة