بالطبع صلاح السعدنى كان فنانا شاملا، قدم كل الأدوار، لكنه ربما ارتبط بأدوار تحمل شكلا ومضمونا لمثقف أو إنسان مسؤول، ومع هذا يظل الكوميديان بالنسبة له الأيقونة المهمة ربما لأن الكوميديا كتابة وتمثيلا تحمل صعوبة وندرة وتتطلب إمكانات أعلى، خاصة بالنسبة للكوميديا القائمة على النصوص الأدبية أو السيناريو وليس كوميديا المضحكين التى تقوم على «الإفيهات» والكاركترات «المسخرة»، والتى ارتبطت لفترة ليست قصيرة بجيل من الشباب، ذهب إليه الرهان وإن كان تنوعا بين نجاح ومجرد أفلام محروقة من الثقل والادعاء.
ولهذا عندما نتحدث عن صلاح السعدنى، وجيله من الفنانين بتنوعاتهم مثل عادل إمام أو نور الشريف وأحمد زكى، نحن أمام من يمكن تسميتهم جيل الفنان المثقف، وذلك ضمن مفارقة كبيرة تصنعها علاقة الفن بالثقافة، حيث يرى البعض أحيانا أن الفنان المثقف يتعطل فى رحلته عن الفن، وأن الثقافة عموما تشكل نوعا من القيد أحيانا على الفنان، وأن الفنان الصنائعى أو المشخصاتى أفضل لأنه يكون موهوبا بدرجة تمنحه القدرة على التقمص بشكل كبير.
وطبعا فإن تقييم الشخص بأنه مثقف أو لا هو أمر نسبى ويخضع للكثير من المعايير، لكن الواضح أن المثقف الحقيقى لا يتحول إلى ببغاء أو يفخر دائما بما قرأه أو عرفه، وإنما الثقافة الحقيقية غالبا ما تظهر وحدها من دون جهد ولا محاولة للتفاخر، والفرق واضح ربما بين المدعى للثقافة وبين المثقف.
بمناسبة رحيل فنان بحجم وقيمة صلاح السعدنى، والذى يصفه البعض بأنه كان بجانب فنه وموهبته مثقفا، قارئا وساعيا للمعرفة التى تظهر عليه من دون أن يعلنها، والواقع أن صلاح السعدنى وعادل إمام ونور الشريف وأحمد زكى كانوا من أصحاب الحظ الجيد لأنهم شبوا فى مرحلة مهمة كانت الثقافة فيها تلعب دورا مهما بجانب وجود عشرات المثقفين من الكتاب والأدباء والشعراء الكبار وقتها والفنانين أيضا الكبار الدراسين والمتعلمين والذين تعلم بعضهم وعاد من بعثات بكبار الجامعات فى العالم، فقد عاصر هؤلاء لويس عوض وزكى نجيب محمود ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح جاهين والأبنودى وأحمد فؤاد نجم وفنانين كبارا مثل مدبولى وفؤاد المهندس وزكى طليمات ونعمان عاشور وعبد الرحمن الخميسى وكامل الشناوى ومطربين ومطربات كبارا وملحنين مثل عبدالوهاب وسيد مكاوى والسنباطى، إلى آخره.
صلاح السعدنى ونور الشريف وجيلهم من المثقفين بين الفنانين والقراء المداومين على قراءة الأدب والشعر والأفكار والفلسفة والمجلات والصحف وقتها، فقد كانوا أيضا يجالسون الكبار من المثقفين ويستمعون ويقرأون، ويتناقشون مع الأدباء والروائيين والشعراء الكبار، فقد كان العصر نفسه مليئا بالتفاصيل والعناصر، ولهذا لن يكون غريبا أن نجد عادل إمام وسعيد صالح وسمير غانم وصلاح السعدنى تخرجوا من كليات الزراعة أو جامعة القاهرة ولمعوا وهم لا يزالون طلابا بالجامعة على العكس من أجيال أخرى واجهت معارك لمجرد عرض مسرحيات أو أفلام، وعاصروا معارك ضد الفن تكفره، بل وفنانين وفنانات تركوا الفن وانسلخوا منه، بل وبعضهم وبعضهن وجهوا له خطابا عدائيا وتبرأوا منه، صحيح أن منهم من عاد بعد ذلك لكنهم كانوا ضمن عصر مرتبك شهد هجوما من المال والتطرف المعادى للثقافة عموما وللفن على وجه الخصوص، كان هناك من يكفر الأدب والأدباء، والكتب والأفلام وربما لهذا شبت أجيال لديها خلط بين الفن والإباحية، وبعض من العاملين بالفن يتركونه أو يتعاملون معه باعتباره شرا وأكل عيش.
أقول هذا لأن بعض ممن تناولوا سيرة صلاح السعدنى وجيله، أشاروا إلى أنهم جيل لن يتكرر، وأنه لا يوجد فى الأجيال التالية من هم بنفس الدرجة أو النوع من الثقافة، والواقع أننا نعود إلى نسبية الطرح، وأيضا فرق الأجيال والتوقيتات والظروف الذاتية والموضوعية، والاجتماعية، بل وحتى فترات الهجرة إلى المال شملت أجيالا أسبق من نفس أجيال الكبار الذين نتحدث عنهم، فقد كانت الهجمة أقوى وأطاحت وغيرت وتلاعبت، ورسمت أشكالا وأنواعا من الفن، هو ابن زمنه.
وللمفارقة أن هذه القضايا وغيرها ناقشها كتاب وأعمال قام ببطولتها صلاح السعدنى وغيره، أعمال مثل حلم الجنوبى، من خلال شخصية نصر وهدان القط، معلم التاريخ المثقف الذى يحافظ على تاريخ بلده ويحاول من خلال مهنته تعريف الطلاب بحضارتهم وتاريخ بلادهم..أو فى أرابيسك أو حتى دوره المثقف فى شحاذون ونبلاء، وغيرها مع الأخذ فى الاعتبار أن الدور يرسمه الكاتب أولا، وإن كان يرتبط أكثر مع النجم إذا كان يقدمه بعمق ويعطيه من روحه.