لم يكن صلاح السعدني مجرد فنان مجتهد أو متواجد على الساحة الفنية المصرية منذ ستينيات القرن الماضي وحتى سنوات قليلة مضت، ولا هو فنان يجيد تقديم الأدوار التي تعرض عليه فيتقن أداءها ويحسن تقديمها، لكن صلاح السعدني يمثل حالة مصرية فريدة، ففي بداياته، هو كل فتى أو شاب في العائلة وهو الابن الذي يمر بكل مراحل النمو والكبر، حتى تشعر أنه خالك الصغير أو آخر حبة في عقد الأعمام والأخوال، هو جارك أو صديقك الذي تراه في هذا الشخص القريب من القلب، ويتصف بالمرح والسخرية، الفلسفة والتأمل، الطموح والتمرد، الأمل والعجز، كل شطحات الشباب وآمالهم وآلاهم، واستطاع خلال كل تلك المراحل أن يمثل أزمة شباب جيله، التي بدأت منذ الستينيات، ولا يكاد يبقى من جيلها سوى عدد ليس بالكثير - أمد الله في أعمارهم - وحين عبر عن جيل الستينيات عبر نماذج كثيرة مختلفة قدمها، بداية من الفتى الريفي الذي لا تسنده أرض ولا عائلة، لكنه يحمل من المكر ما يجعله منتشرا وموجودا في كل بيت، كما في فيلم الأرض، ومن قبله ثلاثية الضحية والرحيل والساقية، وكانت تلك بداياته، وصولا لما أطلق عليه عمدة الدراما المصرية.
صلاح السعدني عندما مر بكل هذه المراحل الفنية فإنه كان يمر أيضا بمراحل تتطابق مع المراحل الاجتماعية التي مرت بها مصر، واستطاع ببساطته وابتسامته وأدائه السهل الممتنع أن يتغلغل إلى قلوب المصريين والعرب ويحصل على شهادة تصديقه والاقتناع بإدائه، بمصريته الصميمة وصدقه الحقيقي، وإذا ما نظرنا إلى حياة هذا الفنان الكبير، سنجد أنها ربما تنقسم إلى مراحل ثلاث، الأولى مرحلة الشباب المبكر، والتواجد والانتشار وهي أداور اعتمدت على خفة ظله وبساطته في الأداء، ولعل أبرزها في أفلام الأرض وأغنية على الممر والرصاصة لا تزال في جيبي. ثم المرحلة الثانية، وهي مرحلة الثقل والتي اتسمت أعماله فيها بما يؤمن به من فكر وأيدلوچية تميل نحو الفكر اليساري، وهذا تحديداً هو ما كان يميز صلاح السعدني، أنه كان يؤدي ما يؤمن به، ومنها مسرحية الملك هو الملك وفيلم فوزية البرجوازية، وإنهم يقتلون الشرفاء والعودة والعصفور. وأما المرحلة الثالثة، وهي مرحلة النضج، فقد صال وجال فيها صلاح السعدني حتى التصق بالملاحم الدرامية في التراث المصري، والتي يشبهه بطلها كثيرا، أو ربما حين توحد هو مع كل ما هو مصري في ملامحه وصوته وقناعاته وايمانه أصبحنا نتقبله ونؤمن به كبطل شعبي صميم المصرية.
وقدم أروع أدواره التي انعكس عليها هذا النضج في الإداء وفي الفكر أيضا لعل أبرزها- في رأيي-حلم الجنوبي، والأصدقاء، والناس في كفر عسكر .
من المعروف أن الفنان الراحل صلاح السعدني هو الشقيق الأصغر للكاتب الراحل والساخر الكبير محمود السعدني، وربما يكون هذا قد تسبب في تعطل انتشار صلاح في بداية حياته بسبب ما تعرض له محمود السعدني من اعتقال في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم ما اختاره هو من هجرة ومعارضة في عهد الرئيس السادات، وبالتالي انعكست المواقف السياسية لمحمود السعدني على مشاركة وانتشار صلاح السعدني.
لقد تناول الكثيرون هذه الفترة وزايدوا وتحدثوا عنها، لكن صلاح السعدني هو الوحيد الذي لم يحاول أن يتاجر أو يدعي بطولات أو يحصل على مكاسب في أزمنة لاحقة باسم هذه المواقف، وهذه هي المواقف الحقيقية التي تسبغ احتراما كبيرا على أي فنان لا يتاجر بأفكاره ومعتقداته ومواقفه مهما كان مؤمنا بها.
سيظل صلاح السعدني فناناً متفرداً، أمتع الجمهور المصري بأدوار من دم ولحم أحبها الناس وعاشوا معها وصدقوها، وسيترحمون عليه كثيرا كلما شاهدوها وتذكروا هذا الفنان النبيل الذي رحل ، ليس في أيامنا تلك ولكنه هو من اختار الرحيل منذ سنوات عشر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة