كلُّ التفاصيل تبدو جديدةً تمامًا، ليس لعامل الزمان والمكان فقط؛ إنما أيضًا لطبيعة اللحظة الراهنة، وسياقاتها المحلية والخارجية، وللرؤية المُحدَّثة التى انتهجتها الدولة فى شهورها الأخيرة. وما تُبشِّر به الفترةُ الماضية من تحويراتٍ هيكلية فى الفلسفة وآليات العمل.. وإذا كان تنصيبُ الرئيس وافتتاحُ ولايةٍ جديدة حدثًا كبيرًا بالطبيعة والأثر؛ فإنَّ ما وراءه من معانٍ وإشاراتٍ يمنحه أبعادًا أكبر من الهالة البروتوكولية، ويتجاوزُ مسألةَ أنه عهدٌ واحد مُتّصل، إلى كونه إعادةَ تأسيسٍ لأبنية الحُكم، وتوازنات البيئة السياسية ومنظومة علاقاتها، وتأكيد الجوهرىّ فى العَقد الاجتماعى ما بعد 2013، وتحرير الظرفىّ والعارض منه وفق مُحدِّدات أكثر تجدُّدًا وحيوية. بمعنى أنه تثبيتٌ لركائز دولة 30 يونيو، وفى الوقت نفسه تصويبٌ لبعض مساراتها، وانفتاحٌ على خياراتٍ وبدائل أكفأ فى استجابتها للتحدِّيات، وتعاطيها مع التطلُّعات.
لعشرةِ قرونٍ تقريبًا، أُدِيرَت مصرُ من داخل القاهرة الفاطمية وتوسُّعاتها اللصيقة. واليوم؛ تتزحزحُ مرافقُ الحُكم لجِهَة الشرق، عبورًا إلى مجالاتٍ أرحب وأغنى بالدلالات؛ بالمعنى المادىّ للتوسُّع الأُفقى، وتَزخيم خطط الخروج من الوادى الضيِّق، وبالرمزيّة الحاضرة فى السَّير باتّجاه الشمس، كأننا إزاء رغبةٍ جادّةٍ ومُخلصة للبحث عن مزيدٍ من الدفء والنور. وبأداء الرئيس لليمين الدستورية أمام سُلطة التشريع فى مقرِّها الجديد، تُكتَبُ شهادةُ الميلاد الرسمية للعاصمة الإدارية، ويُعلَنُ عن تشغيل مرحلتها الأُولى، وانتقال العقل الإدارى لجسدٍ أكثر شبابًا وحداثة. وبمنطقِ أنَّ المظهرَ والجوهر لا ينفصلان؛ فالنقلةُ الشكلانيّة على مستوى البناء ستُرافقها بالحتميّة انتقالاتٌ فى الوعى والممارسة. فليس الأمرُ عمرانًا عصريًّا يتصالحُ مع ذهنيّةٍ ماضوية؛ لكنّه تغييرٌ فى الشكل والمضمون، بحيث لا تعود الدولةُ مُثقلةً بمواريثها العتيقة، ولا ينطبع الأداء بالتقاليد الرثّة وثقافة الزحام الخانق.
تحدَّث رئيسُ مجلس النواب عن السياق العام بإيجازٍ، وعن تحدِّيات المرحلة الماضية، والإنجازات المُتحقِّقة فى الإدارة والسياسة، وأشار إلى فوز السيسى بجائزة برلمان البحر المتوسط «بطل السلام» لعام 2024. وقد أُعلِنت قبل ساعاتٍ قليلة، ويُنتظَر تسليمُها خلال مايو المقبل، وحيثيّاتها بحسب البيان الصادر عنهم، أن الزعيم المصرى بذل جهودًا إيجابية فى تحقيق وَقف إطلاق النار فى غزّة، وإيصال المساعدات الحيوية لسكّان القطاع، كما يتفانى فى تعزيز السلام والاستقرار بالمنطقة؛ وتلك النقطة كانت حاضرةً بقوّة فى ثنايا مشهد التنصيب؛ سواء عندما أشار المستشار حنفى جبالى لعُمق المخاطر والامتحانات التى تُطوّق مصر من جِهاتها، أو عندما اختار الرئيس أن يكون ملف الجوار الساخن أوَّلَ عناصر برنامجه المُجَدَّد، بالحديث عن أولويات السياسة الخارجية ومُحدِّداتها فى «محيط إقليمى ودولى مُضطرب».
استهلّ السيسى بيانَه للشعب من منصَّة البرلمان، بالآية 26 من سورة آل عمران، واختتمه بالآية 101 من سورة يوسف، وكلتاهما تتحدَّث عن الإرادة الإلهية فى المُلك، وهو ما لا ينفصلُ عن خطابات الرئيس طوال الوقت، ويُعبِّر عن شخصيته المُحافظة باعتدال أخلاقى إنسانى، ومركزية البُعد الروحى فى تكوينها.. ومن إعلان الشكر والتقدير للشعب «صاحب الكلمة والقرار»، إلى تجديد العهد على استكمال المسيرة، تناول النصُّ المُوجز فى إحدى عشرة دقيقة ونحو 800 كلمة، كثيرًا من تفاصيل المشهد الراهن، والامتحانات الطارئة على الدولة من داخلها وخارجها، وعرضَ ملامحَ البرنامج الرئاسى للولاية الجديدة مُوزَّعةً على سبعة محاور، لعلَّ أهمّها الإشارة الضمنية إلى «30 يونيو» وأنها كانت مفتاح التجربة الراهنة، وتجديد التمسُّك بورشة الحوار، استكمالاً وتعميقًا، وعملاً دائبًا على إنفاذ التوصيات ودعم الديمقراطية والمشاركة السياسية لكلِّ الفئات، خصوصًا الشباب.
محورُ الارتكاز فى البيان أنَّ حصانةَ مصر فى نسيجها الاجتماعى، ومناعتها الذاتية كفيلةٌ بالوقاية من كلِّ الأمراض مهما بدَت خَطِرةً ومُتفشِّية فى الإقليم، وبصياغةِ الرئيس فإنَّ «تماسُك الكُتلة الوطنية ضمانة العبور».. ويستند ذلك إلى نهج المُصارحة والمُشاركة، وغايته الوصول لبلدٍ ديمقراطىّ حديث، يتسلَّحُ بتاريخه العريق، ويشحذُ إرادته بأقصى ما يُتيحه حاضرُه العفىّ. وبين ما ركّز عليه الرئيس: أولوية الأمن القومى والعلاقات المتوازنة مع العالم، فى ضوء ثوابت الرؤية الوطنية المنحازة للسلام والاستقرار، وتعظيم القدرات والموارد وصولاً إلى اقتصادٍ صُلب فى هياكله ومَرنٍ فى تفاعُله مع الأزمات، والسعى إلى نموٍّ قوىّ ومُستدامٍ، مع التركيز على قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة والاتصالات والتكنولوجيا، ومركزية ملف الحماية الاجتماعية ودعم شبكات الأمان والتكافل، وأولوية التعليم والصحة واستكمال المبادرة الرئاسية «حياة كريمة»، مع استمرار المُخطَّط الاستراتيجى للتنمية العمرانية وتأهيل المناطق غير المُنظَّمة ومشروعات الإسكان العملاقة ومُدن الجيل الرابع. وثمَّة رهانات كُبرى فى الرؤية؛ أن تكون مصر محورًا إقليميًّا فى مجالات النقل واللوجستيات والطاقة الخضراء، وأن تُنجِز خطَّةً للإصلاح المُؤسَّسى الشامل، تُعيدُ ضبطَ الاختلالات الهيكلية، وتحسين مؤشِّرات الاقتصاد الكلى واستدامة الدَّين العام.
أَتمّ السيسى المراسمَ داخل البرلمان؛ ثم انتقل إلى ساحة الشعب ليضع إكليلاً من الزهور على النُّصُب التذكارى لشهداء مصر، ويرفع العَلَم على أعلى ساريةٍ فى المنطقة. ودلالةُ الأمرين مُتعاضدةٌ ولها معنىً واحد: تستندُ الدولة إلى ماضيها إذ تنهضُ لاقتناص مُستقبلها. ويعودُ الفضلُ فى عُلوّ رايتها إلى الأبطال المُستقرِّين فى ترابها؛ لذا فإنها تُجدِّد العهدَ مع الموتى وتحمل البشارةَ للأحياء. إنَّ مشهد العرفان يُؤكّد أنّ القيمَ التى أُرِيقَت على أعتابها الدماءُ صُلبةً وباقية، وإعلان تدشين العاصمة رسميًّا إشارة إلى أننا غير مُنفصلين عن العصر، والغاية أن نقبضَ على أجمل ما فى أيّامنا الماضية، بينما نغزلُ خيوطَ ما نتمنّاه ويليقُ بأيامنا المُقبلة.. وهكذا تتّسع الرؤية فى مشهد التنصيب الرئاسى؛ ليصير عنوانًا على حقبةٍ أدّت فُروضَها الواجبة، وتمهيدًا لمرحلةٍ لا تُطابق القديم، كما لا تتمرّد عليه أو تخاصمه بالكُلّية.
نزحت الوزاراتُ على مدى الشهور الأخيرة إلى العاصمة الجديدة. وحدثُ أمسِ إيذانٌ بانتقال البرلمان، ومن بعده مُؤسَّسة الرئاسة، وتدشين المدينة بالتقاء مُؤسَّسات الحُكم معًا. وصورة التغيير الأُولى ستكتمل بالحكومة المُقبلة، وإنفاذ الرؤية التى طرحها خطابُ الرئيس على مسمع النواب، ودوران عجلة الإدارة والتشريع والحياة اليومية بوتيرةٍ طبيعية مُنتظمة، وقد يتّخذ الحوار الوطنى مقرًّا فيها، أو يُدير بعض فعالياته فى رحابها، وعلى الأقلّ ستكون لقاءات لجنته التنسيقية لمُتابعة تنفيذ التوصيات فى مبنى رئاسة الوزراء. وبهذا تتمثّل السلطاتُ الثلاث ويحضُر المجتمع المدنى، ويُجرِّب الجميعُ لغةً مُغايرة تنبع من التجربة السياسية المُنشَّطَة، وتتناسب مع الروح الشابة التى يعكسها التغيُّر الحثيث فى البناء والأداء.
استجاباتُ القيادة لتحدِّيات السنوات الماضية؛ كشفت عن رغبةٍ فى مُداواة العِلَل الموروثة، وإعادة تفعيل مرافق السياسة، بغرض ترميم تحالف 30 يونيو بصيغته المدنية الجامعة، وإشراك كلِّ المُكوّنات الاجتماعية والتنظيمية فى اقتراح وصياغة الأُفق البديل، لمرحلة ما بعد الخطر الوجودىّ والخيارات الاضطرارية. دعوةُ «الحوار الوطنى» كانت أبرزَ الإشارات وأكثرها وضوحًا، وجاءت فى مثل هذه الأيّام قبل عامين لتُغيِّر ذكريات المجال العام مع رمضان، وقد حمل فى 2011 رياحًا ساخنة من أثر الفوضى والاضرابات، وفى السنة التالية كشف عن دناوة الرجعيّة الإخوانية، مع حادث رفح والموقف المُشين لمندوب الجماعة فى قصر الاتحادية، وبعدها ظلّ لعدَّة مواسم بركانًا يفيض بالنار والإرهاب. ولعب «إفطار الأسرة المصرية» منذ بدايته بالعام 2016 دورًا فى تلطيف الأجواء واستعادة روحانية الشهر الكريم، فى تقاطُعه مع المجال العام ويوميَّات الدولة ومُؤسَّسات الإدارة. ومراسمُ التنصيب الرئاسى تستكملُ تخليصَه من رواسب الماضى؛ ليكون مُناسبةً رسميّة لا تقلُّ فى القيمة عن طقسِها الشعبىّ ورمزيّتها الروحيّة. صحيح أننا فى سياقٍ مدنىّ لا يخصّ مُعتقدًا بعينه، ويجب ألّا ينتسب لدِينٍ دون آخر؛ إلَّا أنّ المعنى العفوىّ غير المُرتَّب يُعبّر عن أريحيّة يمتزجُ فيها العقل بالوجدان، ويتحقّق التصالُح مع كلّ مكونات الهويّة، وإن تجلَّى ذلك فى حالة الصوم حاليًا؛ فإنه قابلٌ للتكرار مع الأيديولوجيا والأحزاب والمُعارضة والمُوالاة، اليوم وفى المُستقبل.
لا قيدَ من الدستور على تكوين الرئيس لهيئته المُعاونة فى الولاية الثالثة. بمعنى أنه ليس مُضطرًّا بحُكم الإلزام الوقتىّ بتكليف حكومة جديدة. ومُقابل تلك السعة الواضحة؛ فإنَّ المُؤشِّرات تُرجِّح أن يذهب باتجاه التجديد الشامل، وأن يُعادَ تركيبُ السلطة التنفيذية على هيئةٍ أكثر حيويّة وتخصُّصًا، وبقدرٍ أعلى من الكفاءات وذوى الخبرة، ولن يبتعدَ مجلسُ المحافظين عن الرؤية نفسها. وقد تمتدّ حالةُ الزخم والفاعلية لجوانب أخرى، بهيكلةِ الهيئة الاستشارية وإلغاء مناصب أو استحداث غيرها. التصوُّر الوحيد الذى يَرقى لدرجة المعلومة؛ أنَّ القيادة راغبةٌ فى الانفتاح وتفعيل الطاقات، وبعيدًا من التفاصيل الدقيقة لما ستؤول إليه الأمورُ بعد التنصيب؛ فالأرجحُ أنّ السنوات الستّ المقبلة لن تكون كالعشر السابقة، ومُبادرة المسؤول الأوّل بمثابة فُرصة تاريخية للطبقة السياسية؛ أوّلاً بالانخراط فى ورشة الإصلاح والتأهيل عبر الحوار الوطنى وغيره من الفعاليات، وثانيًا والأهمّ بضَخّ الدماء فى الكيانات الحزبية ووَصل شرايينها بالشارع، والتحضُّر الجاد لجولات استباق على الحضور والشعبية؛ لا سيّما مع الاقتراب من الانتخابات البرلمانية أواخر العام المقبل.
طريقُ بناء الأوطان ليست مفروشةً بالورود، على ما قال الرئيس السيسى فى بيانه البرلمانى.. والمرحلةُ الأخيرة شهدت مصاعبَ وتحدِّيات قَلَّما تجتمعُ معًا بالحجم الذى كانت عليه. والمصريّون إذ يُغالبون ظروفَ الداخل، ومُفاجآت الخارج؛ فإنهم يَتَحدَّون أنفسَهم أوّلاً قبل أى خصمٍ أو أزمةٍ وعَامل ضَغط، ويتَّحِدون مُضطرّين لأنهم فى مركبٍ واحدةٍ ولهم مصير مُشترك. وإذا كانت مصر قد عبرت المخاطرَ الوجودية العميقة فيما بين 2011 و2013 رغم فداحتها؛ فإنها قادرةٌ على عبور أىِّ شىءٍ آخر، ويهونُ الأمر طالما الجبهة الداخلية مُحصَّنة والمُؤسَّسات فى أَوج عافيتها وانتظامها. ومشهدُ التنصيب أمسِ يُطَمئن إلى أنَّ الدولة على درجةٍ عالية من الكفاءة والإتقان، والقاعدة التى أُرسِيَت للمُستقبل وطيدةٌ وصالحة للبناء عليها، وفلسفةُ القيادة تنحاز للتوافق بدلاً عن الصراعات القديمة ورواسبها، وتنفتحُ على خياراتٍ غير ما حُشِرَت فيه مصر عقودًا سابقة. لقد بدأت الولايةُ الرئاسية الجديدة، وافتُتِحت أُولى مراحل العاصمة الإدارية رسميًّا، ونقتربُ من سلطةٍ تنفيذية مُحدَّثة خلال الفترة المُقبلة، والمعنى أنّ السياق بكامله جديد ومُختلف فى هيئته ورؤاه وإيقاع حركته، وعلى طبقة السياسة ونخبة الأيديولوجيا والمجتمع المدنى أن تقرأ اللحظة بلُغتها، وأن تُجدِّد خطابَها بما يُناسب المرحلة؛ لأجل أن تكتمل الصورةُ وتعُمّ الفائدة، وأن يفيدوا الوطن أوّلاً، ويستفيدوا من مناخ الانفتاح ونهج المُصارحة والمشاركة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة