فى كل الحروب السابقة، كانت مصر قادرة على تقديم مبادرات والتواصل مع كل الأطراف للوصول إلى هدنة، وخلال الأيام الأخيرة بلورت مصر مبادرة لوقف الحرب على غزة، تنتظر اللمسات الأخيرة، بالطبع فإن مساعى الدولة المصرية تتعامل مع كل الخطوط والتقاطعات وأطراف ظاهرة، وفاعلة، بجانب تحركات سياسية ودبلوماسية ومعلوماتية، تتم بدقة وتتعامل مع كل الاحتمالات والمصالح، خاصة وقد وصل العدوان إلى مرحلة حرجة، وبعد أكثر من 6 أشهر على الحرب، لا يمكن قراءة وتقييم مكاسب وخسائر أى من أطرافها الآن، وربما لا يتم الكشف عن النتائج قبل أعوام قادمة.
المؤكد أن هذه الجولة من الحرب هى واحدة من أخطر فصول الصراع على مدى عقود، فقد سبق وجرت مواجهات بين الاحتلال والفلسطينيين منها أكثر من 5 مواجهات فى العقد الأخير وحده، آخرها كانت فى ربيع 2021، أو صيف 2022، وفى الحالتين كانت الحرب تتوقف بمبادرة مصرية، وتدخل من القاهرة، وحتى الهدنة الأولى نجحت مصر فى إنجازها، وخلال الشهور الماضية جرت أكثر من محاولة لوقف الحرب، لكنها تعثرت ليس فقط بسبب تعنت الاحتلال ورغبة نتنياهو فى تحقيق أهداف سياسية، لكن أيضا بسبب غياب المرجعية من أطراف الصراع، حيث يفترض أن تكون لدى كل طرف أهداف من الحرب، تنتهى إليها، تمهيدا لتفاوض، وفى الحالة الأخيرة لا توجد أى أهداف ظاهرة لأى من طرفى الصراع.
ثم إن كل المواجهات السابقة لم تكن بهذا العنف والرغبة فى الانتقام والإبادة، من قبل حكومة نتنياهو المتطرفة، والتى تستقطب متطرفين، بجانب أن هذه الحرب كادت تتحول إلى صراع إقليمى، أو هى بالفعل دخلت فى جولات مواجهة مباشرة بين كل من إيران وإسرائيل، بعد أن بقى الصراع بينهما قائما على حروب بالوكالة، وليس مباشرة المواجهة بين إيران وإسرائيل، لم تكن فقط بين طرفى نزاع بينهما خصومة طويلة، لكنها بدت جزءا من تحولات متنوعة تفرضها الحرب فى غزة، بجانب وجود اسم إيران كطرف فى عملية 7 أكتوبر، بما صعد من المواجهة فى منطقة ملتهبة بطبعها، لكن المواجهة حتى وإن بقيت محدودة تمثل تحولا نوعيا فى شكل الصراع، وتزيح الستار عن مصالح أخرى تعكسها الحرب، ليست بالضرورة مرتبطة بمصالح الشعب الفلسطينى أو حتى المصالح العربية، وبجانب إيران كطرف مباشر للمرة الأولى، ومرجعية داخل جولات التفاوض بين الأطراف.
كما أن جولات المسيرات والصواريخ تضاعف من سباقات التسلح فى المنطقة وتفرض على الدول كلها تطوير وتحديث أنظمة مضادة للصواريخ والمسيرات، ومن هنا فإن مصالح الدول الصناعية وصناع ومنتجى السلاح فى العالم مترجمة فى هذه الحرب بشكل أو آخر.
من هنا يمكن النظر إلى الموقف والدور المصرى، الذى تقدمه الدولة المصرية وسط هذا التشابك والتقاطع للمصالح والأهداف، وتتعامل القاهرة مع تفاعلات أكثر من عقد كامل من الاضطرابات والصراعات الداخلية والبينية فى المنطقة، ومع هذا تظل قادرة على التعامل بتوازن ودقة وسط خيوط معقدة.
وليس من قبيل المبالغة القول إن مصر تخوض منذ ما قبل 7 أكتوبر حروبا داخل الحرب فى غزة، وهى حروب معلومات وسياسة ودبلوماسية، وبعضها لا يخلو من خشونة وفرض وجهات نظر، حيث تضع القاهرة قوتها العسكرية ونفوذها، فى خلفية صورة لا تخلو من تهديد وشرارات قابلة للاشتعال، لأن مصر الدولة بكل مؤسساتها تتعامل مع كل الأطراف المباشرة وغير المباشرة، وتتواصل من خلال القنوات، بجانب أن مصر هى التى رعت ولا تزال المصالحة الفلسطينية، وعليها أن تتعامل مع الأطراف مباشرة، ومع مرجعيات قد لا تكون ظاهرة للعيان.
وعلى مدى شهور لم تتوقف مصر عن إرسال رسائل مباشرة لكل الأطراف، وحدد الرئيس السيسى خطوط مصر الحمراء، وحرص على التواصل مع كل الأطراف الإقليمية والدولية، الأصلية والوسيطة، والمرجعية، وشرح القضية بتفاصيلها، بجانب التحرك بحسم فيما يتعلق بالأمن القومى.
لم تتوقف مصر عن التواصل الدقيق مع أطراف متقاطعة ومتشابكة، بالكثير من السعى والصبر، والتعامل مع كل القنوات والاتجاهات، ضمن تحركات بدأت منذ اللحظات الأولى سواء إدخال المساعدات أو التوصل إلى هدنة ووقف لإطلاق النار، وهى مساع تقترب من التحقق، وتتقاطع بالطبع مع رغبات ومصالح كل طرف من الأطراف.
وتتحرك الدولة المصرية وسط كل هذه التشابكات، سعيا لدعم المصالح الفلسطينية، ومواجهة التصفية والتهجير، ودفع الأطراف الفلسطينية إلى التوحد والتحرك معا، ووضع مصالح الشعب الفلسطينى فى المقدمة.. التفاوض مسألة صعبة ومعقدة، تتعلق بأطراف معلنة وأخرى مخفية، بل أيضا بمصالح متنوعة لأطراف متعددة.