كل من يتابع المفاوضات والاتصالات المصرية مع أطراف الحرب فى محاولة إيقافه، يعلم كيف تتحرك مصر بدقة وتشعب وتتعامل مع تقاطعات وتشابكات لكل الأطراف، وتواجه مصر أيضا ابتزازا وضغوطا وتتعامل معها بما يناسبها، ومنذ بداية الحرب وبسبب مواقفها الداعمة والحاسمة، تتعرض مصر لحملات من الأكاذيب والهجوم من قبل الاحتلال على مدى الشهور، خاصة أن موقفها كوسيط هو موقف لا أحد يمكنه القيام به غير مصر، إسرائيل تحاول الإيحاء بأن مصر تنحاز للفلسطينيين وهو واقع بحكم التاريخ والموقف، لكنها كوسيط للمفاوضات تقوم بهذا الأمر بطريقة احترافية وهدفها هو حماية الفلسطينيين فى غزة من الحرب التى يمارسها نتنياهو بكل قسوة وهى حرب تكاد تصل إلى الإبادة.
الموقف المصرى - لأى مراقب - شديد الدقة، إسرائيل تتهم مصر بالانحياز للقضية الفلسطينية وفى نفس الوقت مصر تحافظ على قدرتها أن تكون وسيطا وتتعامل بكل أدوات التفاوض والتواصل عبر قنوات متعددة، وتراعى أن بعض الأطراف لهم مرجعيات أو رعاة أو وكلاء وبالتالى تتضمن العملية سعيا متعددا، وتحرص على تصدير تحذيرات من انهيار المفاوضات بشكل يهدد باتساع إقليمى قد يصعب السيطرة عليه.
مصر أيضا تتمسك بالسلام طالما يحمى أمنها القومى، ولهذا تصدر تحذيرات لأطراف مختلفة من نفاد صبرها، والتحذير من انهيار اتفاقية السلام هو تحذير جدى وحقيقى، ومن المؤكد أن الإدارة الامريكية لديها تقارير ومعلومات وتفاصيل، بجانب كون مصر الطرف الذى يمتلك مفاتيح القضية والقادر على التوسط بالرغم من المواقف الاستراتيجية وهى أمور يعرفها رئيس المخابرات الامريكية وليم بيرنز الذى شارك فى المفاوضات الأخيرة وجاء فى أكثر من جولة ويعلم بشكل كبير تفاصيل ما يجرى.
دقة موقف مصر أنها تتعرض لضغوط أو مناورات من كل الأطراف حتى بعض المحسوبين على الفلسطينيين أو غزة ممن يتم توظيفهم فى الخارج من كندا وأوروبا ويحمل بعضهم أسماء فلسطينية هم فى الغالب يعملون لصالح إسرائيل، بالأجر، ويشبهون فرق المستعربين الذين يتحدثون العربية ويلبسون عربيا، لكنهم صهاينة، الجديد هو أن فرق « المستعربين الجدد» فى منصات الإخوان أو من يقدمون أنفسهم أنهم غزاوية أو فلسطينيون بينما يهاجمون الدور المصرى، هؤلاء أغلبهم مجندون، وموظفون مستعربون لصالح إسرائيل، والدليل أن عددا من حاملى الأسماء والجنسية المصرية ممن شاركوا على مدى سنوات فى حملات التشكيك والتهجم بأموال رعاة الإرهاب، أصبحوا الآن يكملون دورهم فى خدمة الاحتلال مع مزاعم أنهم مصريون. ومعهم منسوبون إلى فلسطين بلوجرز ومتربحين ضد مصر لصالح إسرائيل.
للمفارقة فإن البعض بحسن نية يرددون مطالب إسرائيل وهم يظنون انهم يخدمون فلسطين، حيث كانت إسرائيل أول من طالبت مصر بقبول تهجير الفلسطينيين من غزة لحين القضاء على المقاومة، وإعادتهم، وهناك مصريون رددوا هذا وانتقدوا وهاجموا الموقف المصرى الحاد والرافض مع أى فلسطينى واضح ومطلع، يرفضون التهجير كمقدمة للتصفية، والمفارقة أننا وجدنا من يتظاهر بمزاعم دعم غزة، وهو يردد هتافات هى نفسها مطالب الاحتلال ، وعندما زعمت إسرائيل أن المعبر ليس مغلقا من الجهة الفلسطينية ردت مصر بالبيانات والقرائن أن المعبر مفتوح من ناحية مصر طوال 24 ساعة، وأن إسرائيل تكذب، والنكتة أننا شاهدنا «هتافين وهتافات» حنجورية يرددون أكاذيب إسرائيل، ويكررون هذا بشكل يشير إلى أنهم سقطوا فى فخ المستعربين أو أن بينهم من يقوم بدور المستعربين لخدمة إسرائيل والعدوان.
بالطبع فإن مصر تخوض حروبا متعددة قبل المفاوضات وأثناءها وتتعامل مع مطالب متنوعة هناك الاحتلال وحماس والولايات المتحدة وقطر وهناك رعاة للأطراف ووكلاء، تعرف مصر كيف تخاطبهم بالواقع والمعلومات، سعيا لوقف إطلاق النار مع التصدى لحرب إعلامية وحرب فى المفاوضات وجهود دبلوماسية وسياسية وأمنية لإقناع كل الأطراف بالتعامل مع أطراف متناقضة فى توجهاتها وأهدافها ومصالحها ومرجعياتها، وبالرغم من ذلك كاد الاتفاق أن ينجح مرات، وأفسده تعنت نتنياهو وقبله أطراف أخرى.
مؤخرا صدرت تحذيرات أمريكية تهدد وتلوح بوقف أسلحة، لكنه ضمن مواقف متناقضة، للإدارة الأمريكية، التى استخدمت الفيتو لتعطيل كل محاولات إصدار قرارات وقف إطلاق النار، وتخضع الولايات المتحدة لابتزاز إسرائيلي، ظهر فى خطابات دعائية لنتنياهو الذى قال «إذا تركتنا أمريكا سنحارب وحدنا»، او اتهام بن جفير وزير الأمن للرئيس الأمريكى جو بايدن أنه ينحاز لحماس وهو ابتزاز معروف، وإسرائيل لا يمكنها مواصلة الحرب أكثر من عدة أيام من دون جسور أمريكية وبريطانية ودعم من كل النواحى واقتصادها يكاد ينهار بعد أسبوع، وبالتالى لا يمكن الاستغناء عن أمريكا التى تلعب إسرائيل دورا كحاملة طائرات أمريكية رخيصة تسرع صفقات الأسلحة، تغذى خوفا يدعم تجارة السلاح.
كل هذا مطروح فى سياق ما يجرى، ولا توجد دولة أو جهة يمكنها القياد بدور مصر، الذى يتم بدقة وقدرة على التفهم والتفاعل مع أطراف متناقضة، ولهذا تظل الأعين مسلطة على القاهرة والدور الذى تلعبه، ولا يمكن الاستغناء عنه.
مقال أكرم القصاص فى عدد اليوم السابع