ليست مُجرّد ذكرى مُوجعة لاستنبات دولةٍ من العدم، واقتلاع شعبٍ من جغرافيا يتجذَّر فى أعماقها منذ قرونٍ سحيقة. النكبةُ غلافٌ دموىّ لمَتن من معارك السياسة والثقافة والهُويَّات، وفى كلِّ باب من أبوابها فصلٌ عن التزييف والاختلاق، وحاشيةٌ على الخديعة وخِفَّة الحقِّ فى مقابل ثِقَل الضلال والتضليل وغِلظتهما. ولا أدلَّ على ما تكتنزُ به من تراجيديا هازلةٍ، أو كوميديا سوداء؛ من أنها بِيعَت للعرب من جانب الدين. صاغت المسيحيّةُ الأوروبيّةُ الصفقةَ، وتقبَّلها الإسلامُ العثمانى، وخسر الطرفان معنويًّا وماديًّا؛ بينما خرج اليهودُ وحدهم رابحين، وإلى اليوم يُحاربون الثانى بسلاح الأول، ويُخلِّقون فى كلِّ محطَّةٍ نكبةً جديدة، رأسمالها الدم الفلسطينى، وتكاليفُ إنتاجها من حساب الغرب المُتحضِّر.
نُؤرِّخ للمحنة بالساعة التى أطلَّت فيه برأسها الغليظ ومخالبها الجارحة؛ لكنها أسبقُ كثيرًا فى الزمن والأسى والتأسيس والنتائج. ثمّة رواسبُ صِراعيّة غابرةٌ لم يحفظها الفلسطينيون عن جدودهم الكنعانيين؛ إنما تعهَّدها اليهودُ بالحفظ والترداد، ومنحوها ظِلالاً مُقدَّسة فى توراتهم وتلمودهم. خرجوا من التِّيه إلى دولةٍ مُنقسمةٍ بين مملكتين، ومنها إلى التيه من جديد، ولم ينسوا خصومتَهم مع العماليق، أو يتوقَّفوا عن الاحتفاء بمَقتَلة يوشع بن نون، وانتحاريّة شمشون، وخداع الأغيار بالمكر والحِيلة على نِيّة الإفناء، تقتيلاً للرجال وسَبيًا للنساء والأطفال. وبعد قرونٍ من اجتهاد التاريخ لتصحيح انحرافاته القديمة؛ ما يزالُ خطابُ العبرانيِّين القُدامى يُطلّ من حناجر أحفادهم، ساسةً وجنرالات، فلا يتجاوز الغزِّيون فى وعيهم صورةَ «الحيوانات البشرية»، ولا يملّ نتنياهو من استعادة سرديَّة جيش النور وجيوش الظلام من مسكوكات أشعياء ونبوءاته؛ ويظلّ البشر جميعًا فى عُرفِهم عبيدًا أو قرابين، طالما لم يُولَدوا من رحمٍ يهودية.
تمدَّن العالمُ فى قرونه الأخيرة؛ لكنَّ شيئًا من البدائيّة المُروِّعة ظلَّ كامنًا تحت جِلدِه.. وتأسيسُ «النكبة» أن أوروبا بينما كانت تُغادر عصورَها الوسطى، وتُفكِّك سيطرةَ الكنيسة على مرافق السياسة فى «ويستفاليا/ 1648» وما بعدها؛ تركت خيطًا يَصِلُها بالأُصوليَّة الدينيّة الرثّة، وفى أفدح صُورِها وأشدِّها رجعيّةً وتعاليًا. تحرَّك الغربُ وفى جوفه بذرةٌ مُتكلِّسة اسمها اليهود، فانفلقت التربةُ القروسطية عن دُوَلٍ وطنية واضحةٍ المَعلَم والهُويّة، وتنظيراتٍ مُحدَّثة فى الإدارة والصراع ومُسبِّبات الحروب، وظلَّت نصوص «القابالاه» وشُروحات الحاخامات على إرثها الاستعلائى الركيك.. من هنا؛ اصطدمت أوروبا فى زمنٍ لاحق بالترس المعطوب الذى يُعطِّل الآلة، وبدا لها أنه لا أملَ فى التعايش، أو تلافى التأثيرات العِبرانيّة الحارقة؛ لا سيما وقد اختلطت فى غفلةٍ من الزمن بالمسيحية، فأنتجت مَسخًا رديئًا ومُشوَّهًا من الاثنتين.
تزحزح بعضُ اليهود قليلاً جهةَ اليسار، وغادر فريقٌ من الإصلاحيين الإنجيليين كنائسَهم القديمة؛ فالتقى خليطٌ من التيَّارين على المسيحية الصهيونية. والمُفارقةُ المُترَعة بالسخرية والأسف؛ أنهما يحملان بذورَ العداوة والشِّقاق، وفى عُمقهما التأسيسى يكمُن الصدام والإنكار المُتبادَل. إذ اليهوديةُ فى أصلها احتكارٌ كامل للصوابيّة، وتأميمٌ للسماء لأجل فئةٍ حوَّلت المُعتقَد إلى عِرق، أو العكس، وبطبيعة الحال فإنهم لا يُقرِّون الآخرَ، أىّ آخر، على صيغته المُستحبَّة فى الوصول إلى الله، ويرونه ضالاً بالضرورة والتأبيد؛ لأنه لم يُولَد من أُمٍّ مشبوكةٍ «جِينيًّا» بسلسال يعقوب. صحيح أنها مُغالطةٌ تفضحها باليتة الألوان بين الإشكيناز والسفارديم ويهود الفلاشة السُمر؛ لكنها السردية المُعتمَدة لديهم، ولا يعدَمون المُبرِّرات الواهية لتمريرها. وفى المقابل؛ فإنَّ مَسلَك المسيحيين المُتصهينين مُعادٍ لجِذريّة التوراة وحجّيتها؛ إذ يذهبون فى اقتراحات آخر الزمان إلى تنصير التوراتيِّين فى بيئةِ المسيح؛ شرطًا لعودته الأبدية، وهكذا لا يُخطِّئون الظهيرَ الأيديولوجىَّ لإسرائيل فقط؛ إنما يُضمِرون نُزوعًا مُؤجَّلاً لإعادة صياغتها، وتركيب مفاصلها على صورةٍ مُغايرة.
عودة إلى النكبة.. كان اختراعُ إسرائيل احتياجًا حيويًّا للغرب من نواحٍ عِدّة؛ لعلَّهم يُطهِّرون أراضيهم منهم؛ قَصاصًا ليسوع الذى تَشارَك شعبُ اليهود مع قيافا وعصابة السنهدرين فى دَمه، أو بالحسبة البراجماتية العصرية، يسترضون مراكزَهم المالية المُتوحِّشة، ويستعيدون تماسُكَ بيئاتهم الداخلية على ركيزةٍ مسيحيّة صافية، وفى الوقت نفسه يمتلكون قاعدةً مُتقدِّمة فى الشرق، وعلى مَقربةٍ من المقاصد الروحيّة المُقدَّسة. الرباط قديمٌ بينهما من زمن الحروب الصليبية، والصراعاتُ قديمةٌ أيضًا؛ وكلاهما تُستَحَبُّ تقويتُه أو تصفيتُه على حساب الآخرين. وأوَّل ما طُرِحَت فكرةُ الدولة اليهودية كان فى زمن نابليون بونابرت، وسعى لتحقيقها بالتزامُن مع حملته على مصر عام 1798؛ فسار إلى حدود فلسطين، وأغرى مُتنفِّذى المجامع العِبريّة بالهديّة الثمينة؛ قاصدًا على الأرجح أن يُوطِّد حُضورَه المَشرقىّ، وأن يستحوذ على ورقة الغريم الثقافى/ الحليف العقائدى، ويستأثر بها لصالح فرنسا دون بقيّة المراكز الأوروبية الناهضة؛ لكنّ مُقاومةَ المصريين وانتكاسَ الحملة حَالَا دون إنفاذ المُخطَّط كما أُريد له.
ربما لم تنقطع الهجراتُ اليهوديّة ذهابًا وعَودة من زمن الغزوات الأوروبية؛ لكنها اتّخذت طابعًا مُتّصلاً وشِبهَ نِظامىٍّ فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. بدت الظاهرةُ واضحةً بقوَّة اعتبارًا من العام 1891، وفى غضون العقد نفسه تَوَّج النمساوى المجرى تيودور هرتزل جهودَه بانعقاد المُؤتمر الصهيونى الأول، فى بازل السويسرية صيف 1897، وفيه أُثِيرَت مسألةُ الدولة عَلنًا وشُمولاً، وعلى خططٍ سياسية وتنظيمية مُفصَّلة، وتتابعت المُؤتمرات والإصدارات؛ بينما تفتح القبيلةُ اليهودية فَمَها على آخره؛ لتضُخَّ نارَ الهجرات الكثيفة فى أرض فلسطين، وُصولاً لتأسيس الوكالة اليهودية بالعام 1908، واتِّخاذ حركة النزوح هيئةً وظيفيّة مكشوفة، على هدف التكوين السياسى الدَّوْلَتى؛ لا المُبادرة الفردية أو البحث عن ملجأ آمنٍ كما كانت سابقًا. ولم يُثِر الأمرُ فى بادئه انتباهَ السكَّان العرب أو حفيظتهم؛ فلم تَلقَ الحركةُ اللاهبةُ اعتراضًا أو مُقاومة.
تمدَّد الورمُ فى جسدٍ بدائىِّ التكوين والمناعة. أمَّا الخلايا الوحشيّةُ فكانت تمدُّ جُذورَها فى الأرض، وتُوطِّد صِلتَها بالرُّعاة المُحتملين. بزغَ نجم زئيف جابوتنسكى من رحم أفكار «هرتزل» و»بنكسر»، ومُتمرِّدًا عليها أيضًا.. أسَّس الصندوق القومى اليهودى، ودشَّن فَيلقًا حربيًّا التحق بالإنجليز فى الحرب العالمية الثانية، بل خاضها بنفسِه قائدًا لإحدى الكتائب، ثمَّ دعا لاستمرار تسليح مُستوطنى «الكيبوتس» لإسناد التوسُّع، وشَحذ الأظافر استعدادًا للمعركة المُؤجَّلة. انطلق الرجلُ من مَرجعيّةٍ أُصوليّة، بينما حمل الآباءُ السابقون وورثتُهم رايةً علمانيّة، تُوصِّف الصهيونية بالقومية أكثر ممَّا بالدين. وقعَ صِدامٌ بين الأوكرانى المُحارب، والروسى السياسى حاييم وايزمان، كسب كلٌّ منهما فيه جانبًا وخسرَ غيرَه للآخر؛ فسارت الفكرةُ على ساقين يمينيِّتين: القومية والتوراتية، وظلَّت الأمور على حالها لليوم؛ فاليسارُ الذى أسَّس الدولةَ أخلص في تطبيق التوراة دون أن يرفعها، واليمين الذى يتسلَّط عليها فى غالبية العقود الخمسة الأخيرة، يَستبقى حبلاً سُرّيًّا مع الحاضنة الغربية باستتباعٍ حينًا وباستئسادٍ أحيانًا، ويُقدِّس «الجين اليهودى» كما يحفظُ ذكرى الأسباط ونُصوصَهم المُؤسِّسة.
جَرَت وقائعُ المَهزلة تحت بصر السلطنة العجوز فى الآستانة/ اسطنبول. تطيبُ للمُنافحين عن فكرة الخلافة تبرئة مُعتمرى عِمامتِها، وأكبر شُهودهم على المأساة ومراحل تخليق فُصولِها. أُدِيرَت الخطّة النِّظاميّة بدأبٍ لأكثر من ثلاثة عقود، وبَصَم عليها بالقَبول أو الصمت أربعةٌ من أحفاد سليم الأول: عبد الحميد الثانى، ومحمد الخامس، ومحمد السادس، وعبد المجيد الثانى. ربّما ذهب الصهاينة كما يُشاع إلى عبد الحميد وأغروه برشوةٍ ذهبيّة تُسيل اللُعاب، ولعلّه رفضها فعلاً؛ لكنه لا هو ولا خُلفاؤه الثلاثة ثاروا فى وجه الهِجرات المُتتابعة، أو نظّموها، أو أخلوا سبيل الفلسطينيين مُبكّرًا ليُرتِّبوا صُفوفَهم بمرجعيّةٍ وطنيّة، وبعيدًا من تُرّهات الأُمميّة والراية الجامعة؛ وقد خذلتهم القوميّةُ العثمانية باسمِها أوّلاً، ثم بتَشويه الصراع وصَبغه بتلاوين عقائديّةٍ ثانيًّا.
النكبةُ إذًا خسارةٌ فى التاريخ قبل الجغرافيا، وانحدارٌ ثقافى تُرجِمَ إلى انكسارٍ واندحار وهزائم مُذِلَّة.. يقعُ الأمرُ فيما قبل تأسيس العدوِّ دولته، وقبل الشروع فى التنكيل والقتل، وإزاحة الناس تَوطِئةً لتلويث الهواء، وتشويه الخريطة وكَنسِ ذاكرتها العتيقة. المِحنةُ لا تنفصلُ عن الرجعيَّة والانغلاق، ومُحاربة العثمانيِّين للعلم والثقافة ومَنعهم المطابع والاختلاط بالمدنيّة الحديثة، والإصرار على إبقاء المُجتمعات فى حال البداوة والتشرذم، وألَّا تستكشفَ نفسَها أو تُؤسِّس قُواها الذاتيّة من داخلها. انتقلت أوروبا من تسلُّط الراديكاليّة العَقَديّة على القَصر والسياسة، ولم ينتقل العرب؛ فصاروا دُوَلاً وظللنا أقاليم وتوابع، يُصرِّفها سلطانٌ فاسدٌ أو فاشل كيف يشاء. من هنا بدأت النكبةُ؛ ولهذه العِلَّة وحدها خسرنا مَعنويًّا قبل أن نُهزَم ماديًّا، وسُرِقَت الأرضُ بالهَندسة الاجتماعية والسَّبق المعرفىّ والتكتيكى؛ قبل أن تُنزَع عنوةً وبقوَّة السلاح.
مقامُ الخلاف مع الصهيونية الكاسرة لا يمنعُ الإقرارَ بأنهم ديناميكيون. يُجيدون قراءة السياقات والتعاطى معها، ويُطوِّرون أدواتهم دومًا. وكلّ بيئةٍ امتُحِنوا فيها أتقنوا شروطَها كأهلها؛ ولم يخلعوا عباءتهم أو يُقصِّروا فى توارث تراثهم بكلِّ بشاعته. وفوق هذا؛ فإنهم رُزِقوا رُعاةً جادّين؛ وخُذِلنا من حُلفائنا. لقد كافأهم الإنجليزُ على فيلق الحرب بوعد بلفور، ثمّ إعلان الانتداب حتى تكتمل أسباب التأسيس والترقِّى، وعندما كرَّروا المُجاملة فى الحرب العالمية الثانية؛ رُدَّت بأحسن منها. استُصدِر قرارُ التقسيم من الأُمَم المُتّحدة؛ وللمُفارقة فقد أُنشئت لأجل إحقاق الحقوق وقَطع طريق الصراعات الخشنة، وبعدها رُفِعَت الوصايةُ ليُعلِنَ آباء الكيبوتسات والعصابات عن دولتهم الوليدة.
الإعلانُ واحدةٌ من مساخر العصر، وصياغةٌ حداثيّة للمرويّات الشائعة عن اليهود، ومكرهم الساذج، وأكاذيبهم الصارخة. فى الشكل؛ صاغه ما سُمِّى «مجلس الدولة» وكان سُلطةً مُؤقّتة لغرض الإنشاء، وفى المضمون كان جِماعًا من عناوين لا رابطَ بينها، ومرجعيّات أرادوها مُتجانسةً بينما تتصادمُ مفاهيمُها، كما خلطَ بين الأضداد بخِفّةٍ واستخفاف؛ كأنه يطمئنُّ إلى مُتلقِّيه ويأمنُ النقدَ والتفنيد. هكذا بُنِى على أساسٍ توراتىّ، واعتمر سَقفًا حداثيًّا، وادَّعى للدولة ما ليس فيها، وتعهَّد بأشياء لا كانت فى يدهم ولا سعوا لتحقيقها لاحقًا. نُكتةُ سخيفة بالكامل؛ وأسخفُ ما فيها أنهم استعاروا خلافَهم مع النازيّة ومنحوه صفة «النكبة»، واعتبروه مُسوِّغًا قانونيًّا وأخلاقيًّا لقَضم فلسطين.
قال «بن جوريون» و37 آخرون وقّعوا معه؛ إنَّ إسرائيل «سترعى تطوُّر البلاد لمنفعة جميع سُكّانها دون تفرقةٍ فى الدين أو العنصر أو الجنس»، وكانوا وقحين بزيادةٍ ليعُلنوا ضمان «حرية الدين والعقيدة واللغة والتعليم وحماية الأماكن المقدسة لجميع الديانات»، ويُناشدوا العربَ بأن «يُشاركوا فى بناء الدولة على أساس المواطنة التامة القائمة على المساواة والتمثيل المناسب فى جميع المُؤسَّسات المُؤقّتة والدائمة».. كلّ هذا وكانوا يُغيِرون على القُرى لعقدين تقريبًا، ويقتلون المدنيِّين لسبعة شهورٍ بعد التقسيم، وكانت عصاباتُهم تتأهَّب بالتزامن مع البيان لإنفاذ أكبر عملية إبادةٍ وتطهير لشعبٍ فى التاريخ؛ قياسًا على التنسيب العددىّ والمدى الزمنى.
كان مُقرّرًا أن يُوضَع دستورهم فى نصف سنة، وتحديدًا عند مطلع أكتوبر 1948. مرَّت ثمانيةُ عقودٍ بدلاً من الأشهر الخمسة، ولا دستورَ أو حدود؛ كما لا مُواطنة أو مدنيَّة حديثة يحدُّها القانون على قاعدة التكافؤ والمُساواة. وغَنىٌّ عن القول أن نستذكر الجرائمَ اللاحقة؛ إذ تستعصى على الحصر، ولها مِثالٌ قائمٌ اليوم فى غزّة، نُحِرَ فيه خمسةٌ وثلاثون ألفًا، وبُتِر ضِعفُهم، وأُهيل الركامُ على آلافٍ آخرين.. النكبة على هذا المعنى؛ كانت شرخًا فى مسار التاريخ وتدرُّجه الطبيعى، وجدارًا يحول بين فلسطين، والانتقال من ولايةٍ عثمانية مُستتبَعة لدولةٍ وطنيّة بهُويّة ناضجة، وبدلاً من ذلك وُضِعَت فى مُواجهةٍ صاخبةٍ وغير مُتكافئة مع أيديولوجيا وحشيّة، أخذت وقتها الكافى تمامًا لبلورة أَبنيِتها الثقافية والاجتماعية، وأُتِيحَت لها فسحةُ التجهُّز للنزال؛ بينما كان الفلسطينيون مُكبَّلين بآبائهم فى الخلافة، ثمَّ بأعدائهم من الانتداب.
لو تيسَّر لأهل فلسطين التاريخية من النهر للبحر، أن يتجهَّزوا مَعرفيًّا وثقافيًّا؛ لَرُبّما لم تقع المأساةُ الفادحة، أو على الأقل اختلفت آثارُها. لو كانت لهم دولةٌ مُتماسكةٌ ومُؤسسيّة لأَحْكَمت سيطرتَها على الهجرات، أو احتوتها، أو قطعت طريقَ تنظيمها كيانًا مُتجانسًا ووُجودًا داخليًّا مُضادًّا. عندما قُسِّمت الأرضُ كان اليهود نحو 600 ألفٍ فقط، والعربُ أزيدَ منهم بمَرّةٍ ونصف. والتنظيم المُسبَق كان سيسمحُ بمُقاربة المسألة سياسيًّا على صورة النزوع الانفصالىّ؛ ليتَّخذ الصراعُ صيغةً قانونية تختلف عن فكرة صِدام الأعراق والأديان، وعن الطَّرح الإفنائىِّ، بدعائيّاتٍ شعبويّة من جانبنا ومُمارساتٍ عدائيّة من جانبهم؛ وإن لم يتيسَّر إطفاءُ الفكرة فرُبَّما أُتِيحَ ترويضُها تحت عنوانٍ فيدرالىّ، وفى كلِّ الأحوال لم يكن الفلسطينيون لِيَفقِدوا وجودَهم التاريخىَّ والشرعى فى معاقلهم.
كان إبطاءُ تَبلور الوطنيّات العربية نكبةً قبل النكبة، وفوقها أثرًا وخسارة. ومثلما كانت البداوةُ والتشرذم طوقًا وأداةَ إضعاف؛ فالانقسامُ الواقع اليوم بين الفصائل يُعيد إنتاج النكبات السابقة على صورٍ أفدح.. والحال أن الاعتصام بالثابت الأُصولىِّ لإنهاء الصراع بشروط الحرب؛ ربما يخدمُ العدوَّ ويضرُّ القضية، لا سيّما ومعيار الأفضليّة والتفوُّق فى صالحه اليوم، مثلما كان بالأمس. وإن تعذَّرت على العرب قراءة السياق فى صدر الأزمة؛ فرفضوا خيارَ التقسيم وامتنعوا عن إنفاذ شِقّه المُفيد للفلسطينيين على الأقل؛ فلا عُذر للواقفين على الثغور الآن أن يقرأوا من الكتاب القديم.
كانت الديموغرافيا فى صالح أصحاب الحقِّ، وما تزال. استعان اليهودُ بالهجرات، ولجأ الفلسطينيّون للمُقاومة البيولوجية. وبعد 70 مجزرةً أزهقت 15 ألف روحٍ فى زمن النكبة، و134 ألف شهيدٍ إجمالاً منذ 1948، فإنهم أغلبيّةٌ فى أرضهم، من الضفَّة لغزّة والخطِّ الأخضر، وأكثر من اليهود خارجَها، فى المخيَّمات والمنافى والأوطان البديلة. يصحُّ أن نُؤرِّخ للنكبةِ بكلِّ جريمةٍ وقطرة دم، وأن يحتفظَ الأحفادُ بالرواية ومفاتيح البيوت، ولا يُفرِّطوا فى حلم العودة؛ إنّما الأَصحُّ أن نُفكِّك المسألةَ من وُجوهِها التاريخية الثقافية، كما من وجه الحرب والنزاع الخشن؛ لكى لا نكرر أخطاء الماضى، أو نظلّ على حالنا البائسة؛ ما نكاد نُغادر نكبةً؛ إلَّا ونصطدمُ بأبشع منها.