يأتى الشعراء ويمرون، ويبقى منهم الأصيل فى قوله وفعله، ذلك الذى يؤمن بأن "قصيدته" أمانة، لأنها كلمة، وفى البدء كانت الكلمة، وفى النهاية ستبقى، وممن ستبقى كلماتهم دائمًا الشاعر العربى الكبير أمل دنقل الذى آتاه الله الحكمة.
اسمه محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، كان والده عالمًا من علماء الأزهر، ممّا أثر فى شخصية أمل دنقل وقصائده بشكل واضح.
وقد أطلق عليه والده اسم "أمل" بسبب النجاح الذى حققه بعد ولادته فى نفس السنة التى حصل فيها على إجازة العالمية، عُرف أمل بالنباهة والذكاء والجد تجاه دراسته، وقد التحق بمدرسة ابتدائية حكومية أنهى فيها دراسته سنة 1952.
ذهب أمل دنقل إلى القاهرة بعد أن أنهى دراسته الثانوية فى قنا وفى القاهرة التحق بكلية الآداب ولكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكى يعمل.
رحل أمل دنقل بعد عمر قصير جدا، فهو من مواليد سنة 1940 وتوفى فى 21 مايو من سنة 1983، وترك خلفه اسما كبيرا فى الشعر العربي، ورؤية واضحة لا نزال نتأملها.
كان أمل دنقل شاعرا يملك عيون زرقاء اليمامة، يبصر أكثر مما يبدو، ويرى حالنا واضحا أمام ناظريه منذ قديم، يتنبأ بما يجرى ويعيش مهموما بما يراه أمامه يقرأ واقع مجتمعه ومستقبله.
وفى ذكرى رحيله التى تمر اليوم نجد أنفسنا أمام حقيقة تحتاج بعض التوقف، فأمل دنقل بسبب عمره القصير «43 عاما» لم يترك لنا سوى 6 دواوين شعرية، لكنها كافية لتصنع أسطورة شاعر ما زال الناس بعد وفاته يرددون أشعاره وسيظلون يفعلون ذلك، وعليه فإن لا علاقة بين الشعر الحقيقى والكم، فهناك العديد من الشعراء الذين خلفوا المجلدات التى لا تنتهى وكتبوا المجموعات الشعرية التى لا يعرفون عددها، لكنهم مروا فى حياتنا كأنهم قبض ريح، ومعنى أن يردد الناس الشعر لا يعنى أنه كلام سهل أو مباشر يحكى عن حياتهم، لكنه يعنى أنه يمس أرواحهم فيبذلون الجهد الكبير فى القراءة والحفظ والتعايش مع الصورة والرمز واستدعاء الروح الشعرية، وكل ذلك تفعله قصائد أمل دنقل، فيتوقف الناس معه عند قوله فى قصيدة «من أوراق أبى نواس»:
كنتُ فى كربلاء/ قال لى الشيخُ: إن الحسين ماتَ من أجل جرعةِ ماء/ تساءلتُ كيف السيوفُ استباحَتْ بنى الأكرمين/ فأجاب الذى بصَّرَتْهُ السماء/ إنّه الذّهبُ المتلألئُ فى كلِّ عين
نحن اليوم نتذكر أمل دنقل لأنه شاعر استثنائى فى حياتنا ومثّل حلقة مهمة فى تاريخ الإبداع العربى، جاء من بلاده البعيدة فى الصعيد مع رفيقيه عبد الرحمن الأبنودى ويحيى الطاهر عبد الله، ليقدموا المختلف فى عالم الكتابة، وأصبح بعد ذلك علامة بارزة فى الكتابة الشعرية:
قلت: فليكن العقل فى الأرض/ تصغى إلى صوته المتزن... ورأيت ابن آدم وهو يجن/ فيقتلع الشجر المتطاول/ يبصق فى البئر يلقى على صفحة النهر بالزيت/ يسكن فى البيت/ ثم يخبئ فى أسفل الباب قنبلة الموت/ يؤوى العقارب فى دفء أضلاعه/ ويورث أبناءه دينه.. واسمه.. وقميص الفتن.
من اللافت فى تجربة أمل دنقل أن الشعراء والنقاد والمثقفين لا يزالون يتأملون جيدا تجربة أمل دنقل ويدرسونها ويحاولون البحث عن الأشياء التى فتحت له قنوات تواصل مع الجمهور، وأصبحت قصائده جزءا من زادهم الأدبى، ومؤرخا لجانب مهم من ثقافتهم فى تلك الفترة دون التنازل عن الفن.
ومن الملاحظ أيضا أن القصائد ذات اللمسة السياسية لم تصنع أمل دنقل، إلا بقدر ما أدخل فيها من فن، فهو لم يقف خطيبا يطالبنا بالاصطفاف والتقدم فى خطوات منتظمة ناحية المعركة، لكنه أدخلنا فى حكايات تاريخية استحضرها من الماضى ومنحها الحياة بشكل مختلف، ولعل قصيدته "مقابلة خاصة مع ابن نوح" والرؤية المختلفة التى عرضها للوطن ومحبيه قادرة على بث الروح فى نفوس مستمعى القصيدة وقرائها.
هاهم الجبناء يفرون نحو السفينة/ بينما كنت/ كان شباب المدينة/ يلجمون جواد المياه الجموح/ ينقلون المياه على الكتفين/ ويستبقون الزمن/ يبتنون سدود الحجارة/ علهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة/ علهم ينقذون ... الوطن!.
يمكن القول بسهولة إن أمل دنقل سيظل خالدًا فى الضمير العربي، وذلك لأسباب منها، إيمانه بدور الشعر فى التأثير فى المتلقين، وإيمانه بأهمية التراث العربى والعالمي، فهو يعرف أنه اللغة العربية والثقافة العربية جزء أساسى من تكوينه الشعرى والإنساني، وأن التراث بكل ما فيه يعبر عن "هويته"، أما التراث العالمي، فالشاعر لا يعيش فى قطيعة عن العالم، بل يجب أن يكون مطلعا على كل هذا التراكم الثقافى وأن يأخذ منه ويعيد توظيفه، لكن الملاحظ أن أمل دنقل كان ينحاز إلى التراث الشعبى أكثر من التراث الرسمي، وكان ينحاز إلى الشخصيات المعافرة التى عانت من أجل أفكارها أكثر من انحيازه إلى السلطة، ومن هنا نجده يمنح مساحة كبرى لقائد العبيد "سبارتاكوس" الذى تحول إلى رمز فى العالم القديم، وأعاد أمل دنقل اكتشافه من جديد وقدمه بزاوية مختلفة، لم يقدمها أحد من قبل.
ولعل موقف أمل دنقل الثابت من جيش الاحتلال مثل حلقة مهمة فى تواصله مع القراء فى كل مكان، فهو لم يقبل هؤلاء المحتلين أبدا، كما لم يقبلهم كل الأحرار فى العالم العربى أيضا، ومن هنا ظلت قصائده التى ندد بهم خالدة فى ضمير العالم العربي، وتظل قصيدته "أقوال جديدة فى حرب البسوس" ونصها الأهم "لا تصالح" التى أعاد فيها تقديم حرب البسوس لكن من رؤية جديدة تتعلق بما يحدث فى عالمنا المعاصر من ضياع لحقوق الأرض ولزوم الدفاع عن الأوطان، تظل "شعارا" يحمله كل من يكره هذا الكيان الذى بنى على الظلم والغدر والخسة والقتل.
لكن يتقف الكلام عن أمل دنقل الحكيم الخالد فى الضمير العربي، والذى سيبقى إلى أبد الشعر صفحة ناصعة فى القصيدة العربية.