فى محافظة الفيوم فى إحدى قرى مركز أبشواى، وتحديدا قرية «طبهار»، أثناء صلاة الجنازة على أحد أهالى القرية اندفعت إحدى السيدات وهى تصيح أن لها فى رقبة المتوفى دينا، وهى إن لم تحصل عليه فهى تختصمه عند الله يوم القيامة، وأنها لن تسمح بخروج الجثمان حتى تسترد دينها، واقعة غريبة ربما تحدث للمرة الأولى فى مجتمعنا على حد علمى، فمن المتعارف عليه أنه فى أثناء صلاة الجنازة والدعاء للمتوفى خاصة فى الأرياف والأقاليم تتم تبرئة ساحته من الديون أو الظلم أو الإساءة لأى أحد فى حياته، ويطالب الأهل بمسامحة الراحل حتى يلقى ربه وقد تخلص من ذنوبه وخطاياه على حد اعتقاد الناس.
الغريب فى هذه الواقعة أنها أثبتت أن ما يقال فى تلك المناسبات ما هو إلا طقوس لا يدرك الناس حقيقة مغزاها، وأنها تحولت إلى مجرد أقاويل، وأن معظمهم ليسوا جادين فى تبرئة وتنقية الراحلين، فبدلا من تكاتف أهل المتوفى فى رد الظلم عن تلك السيدة، والتى أعتقد أنها فى الغالب قد تعرضت لظلم بيَّن وإلا ما كانت أقدمت على تلك الخطوة غير المسبوقة، ولا كانت عرضت نفسها لما يلاقيه أى خارج عن الأعراف خاصة فى المجتمعات الريفية، التى لا يختبئ فيها أمر ولا يوجد بها سر، والكل يعلم من الظالم ومن المظلوم، وقلما يتدخل أحد أو يناصر أحد الطرف الأضعف، بل ربما يتجنب الطرفان معا، والعائلات والبيوت مفتوحة الأبواب والأسرار، وقد تردد أن هذه السيدة كانت على خلاف مع المتوفى منذ سبع سنوات ولم تتمكن فيها من استرداد حقها.
المهم أنهم بدلا من رد مظلمة السيدة جعلوها تنصرف وسط انتقادات لاذعة بانتهاكها لحرمة الموت وهيبة الجنازة، وأنها لا تراعى صلة القرابة بينها وبين المتوفى، وهو أمر غريب يدعو للدهشة، ويؤكد أن حياتنا ما هى إلا مظاهر كاذبة لا صلة لها بجوهر الدين، وهذا يتناقض تماما مع ما نراه من اكتظاظ المساجد بالمصلين، وخلو الشوارع وقت إفطار رمضان، والتسابق لأداء الحج والعمرة، والتباهى بالأضاحى وموائد الرحمن، وغيرها من التسابق إلى التظاهر بالتقوى، بينما نحن نبتعد لسنوات ضوئية عن ديننا الصحيح.
لو كان المشاركون فى هذه الجنازة قد اجتمع كبراؤهم ووعدوا السيدة ولو حتى بمحاولة الوقوف إلى جوارها ومساندتها فى استرداد حقها إن كان لها حق، أو حتى العمل على عقد جلسة عرفية مما اعتاد عليه أهل الريف والقبائل لكان للأمر وقع آخر، أو حتى واجهوهها أنها تدعى ولا حق لها، لكان الأمر مقبولا، ولكن أن يتحولوا لانتقاد السيدة التى ضاع حقها ومات من اختصمته فهذا شىء غريب فى مجتمع يغلفه التدين ويتطلع أهله لحسن الختام.
ليست تلك السيدة وحدها من ضاعت حقوقها ولم تستطع استرجاعها، فهناك آلاف وربما الملايين من السيدات اللاتى لا يحق لهن أن يحصلن على نصيبهن من الميراث، وهناك من يطردن من بيوتهن قصرا وجبرا بعد الطلاق، وهناك من يتعرضن للعنف وللاعتداء الجسدى، نماذج كثيرة نراها فى كل يوم تمزق القلوب، والمجتمع ينظر إليها ويدير بصره، ربما لأنه لا يملك الشجاعة أو لأنه لا يعرف صحيح الدين.
لهذا فإن ما فعلته تلك السيدة فى قرية طهبار بمحافظة الفيوم هو حقها، الذى حتى وإن لم تحصل عليه فهى تستحق الاحترام لأنها استخدمت رخصتها الدينية فى أن تختصم من ظلمها عندما يلاقى ربه، وهى الساعة التى لا يدرك هولها كل ظالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة