رغم أن الدعم العسكرى والتأييد السياسى لإسرائيل فى عدوان وحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة يأتى من "الظهير الثانى" فى دول القارة الأوروبية العجوز بعد الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجى للكيان الصهيونى، إلا أن الخطوة الدبلوماسية والسياسية المفاجئة من إعلان ثلاث دول أوروبية هى إسبانيا وأيرلندا والنرويج بالاعتراف بفلسطين كدولة جاء كالصدمة و"الزلزال السياسي" الذى اهتزت له الدوائر السياسية داخل الاتحاد الأوروبى، وفى أوساط النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة فى تل أبيب، فيما وقع "بردا وسلاما" على الدول العربية والدول الداعمة لحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
ففى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وهولندا اندلعت المظاهرات المليونية منذ الشهر الثانى لحرب الإبادة الإسرائيلية وسقوط أقنعة الزيف والخداع الصهيونى والذى مارسته إسرائيل طوال أكثر من نصف قرن.. فلم تعد هى الضحية المحاصرة وسط غابة "الوحوش والإرهابيين".. أدركت الشعوب الأوروبية أن إسرائيل هى الجلاد سفاك الدماء والهارب من العدالة الدولية، والضارب بعرض الحائط قرارات ومواثيق النظام الدولى وأنظمته بحماية أمريكية خالصة.
المفارقة فى الإعلان الثلاثى أن يأتى عقب يومين فقط من قرار المحكمة الجناية الدولية باعتبار رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو ووزير دفاعه جالانت "مجرمى حرب"، واتخاذ إجراءات طلب القبض عليهما. كما يأتى بعد أيام قليلة أيضا من اعتراف 143 دولة فى الجمعية العامة للأمم المتحدة بحق فلسطين فى العضوية الكاملة داخل المنظمة الدولية ومؤسساتها المختلفة، وهو ما تواجهه وحده الولايات المتحدة بالفيتو الرافض للقرار داخل مجلس الأمن.
المغزى السياسى والأخلاقى لإعلان إسبانيا وأيرلندا والنرويج وتصويت الجمعية العامة وقرار المحكمة الجنائية الدولية يعنى المزيد من العزلة الإسرائيلية دوليا، وينزع عنها صفة "الضحية" و"المظلومية التاريخية"، والأوهام الصهيونية المهددة براية الكذب والخداع المسماة بـ"معاداة السامية"، ويؤكد صحوة الضمير الأوروبى والعالمي -إلا قليلا ومنهم واشنطن- والتزامه بمشروعية قيام الدولة الفلسطينية وفقا للقانون الدولى والقرارات الشرعية الدولية بحل الدولتين.
لكن وبالتأكيد أن الإعلان الثلاثى هو خطوة -يعتبرها مراقبون- أخلاقية أكثر من كونها قانونية إلزامية، وتثبت "الشخصية القانونية للشعب الفلسطينى وتعزز علاقاته الدولية وفقا للقواعد القانونية مع المجتمع الدولى، ويمثل عامل ضغط مهم لأنه يترجم حق الشعب الفلسطينى فى أن يقرر مصيره.
لكن أيضا وفى الوقت ذاته تعتبر الخطوة الثلاثية الأوروبية إضافة للإجماع الدولى لدعم الحق الفلسطينى فى الحصول على العضوية الكاملة فى الأمم المتحدة، وهو ما يؤدى فى المستقبل إلى إلزام مجلس الأمن بإصدار قرارات متعلقة بمفاوضات السلام، تلزم إسرائيل بإنهاء الاحتلال للمناطق التى احتلها عام 1967 على الانسحاب منها.
العالم يتغير ويتجه إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية وهو ما يعنى نهاية لحقبة تاريخية مؤلمة ومؤسفة فى النظام الدولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وهيمنة دولة واحدة عليه لا تراعى الحقوق، ولا تلتزم بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية إلا من زاوية واحدة فقط هى زاوية مصالحها الخاصة.
الرعب الإسرائيلى من الإعلان يضاف إلى الضربات التى تتلقاها النخبة الحاكمة المتطرفة فى تل أبيب بقيادة نتنياهو خارجيا وداخليا، وتتمادى فى ممارسة سياستها العدوانية زعما بأنها الحل القادر على إنقاذ هذه النخبة من الإفلات من العدالة الدولية القادمة لا محالة يوما ليس بالبعيد.