في مشاهدة ثانية لعرض "فريدة" الذي لعبت بطولته منفردة القديرة عايدة فهمي بكتابة وإخراج الطموح أكرم مصطفى. مقدما على الخشبة الكبيرة بمسرح الطليعة بعد أن قدم لليال طوال داخل قاعة صلاح عبد الصبور، أيقنت أننا لسنا فقط أمام ممثلة قادرة وقديرة بل أمام عرض غزل بخيوط من مشاعر رقيقة توافق فيها المنظر المسرحي والإضاءة (صممها الفنان الخبير عمرو عبد الله) مع بناء درامي يعي كاتبه خصوصية المونودراما وصعوبتها معتمدا على الفكرة الأساسية لنص تشيكوف الشهير "أغنية البجعة" محيلا فيه ممثل تشيكوف إلى ممثلة تغني أغنيتها قبل الأخيرة وحيدة مستعيدة أمجادها القديمة ومتحسرة على حياة كانت تزخر بالأضواء والشهرة وإنتهت إلى وحدة قاتلة.
يبدأ العرض بدخول حذر لامرأة عجوز تتهادى داخل الخشبة التي يبدو أنها انتهت للتو من بروفة ما. فهاهي- الخشبة - تزخر ببقايا ديكور من أعمال مختلفة كلاسيكية وحديثة ، عالمية ومحلية ، كما تشير بعض الموتيفات المنثورة على الخشبة بترتيب أصر صانعه على أن يبدو عشوائيا. ففي المنتصف باب عتيق يجاوره شباك تراثي، على يمينهما عمود يوناني، يقابله مرآة زينة مرصعة بمصابيح صغيرة يقبع أمامها مقعد صغير مخصص للممثلين الذين ينهون تلوين وجوههم بمساحيق خاصة بكل عرض. وعلى يسارهما أريكة يقابلها في الناحية الأخرى حاملة ملابس مكدسة بأنواع شتي.
مع الدخول الأول للمرأة ووسط إضاءة شاحبة تبين معها تفاصيل الخشبة بالكاد، سيلقي بك مبدع العرض ( كاتباً ومخرجاً ) في قلب حدثه. فالمرأة العجوز ممثلة قديمة قررت فجأة أن تقطع وحدتها وتذهب إلى مسرحها تشاهد بروفة لعرض ما وتستعيد أثنائها ما كانت تحياه من مجد ومن حيوات مختلفة.
المرأة تحمل هاتفها وتتحدث إلى صديقة ( سنعرف فيما بعد أنها الوحيدة التي بقيت لها من الصديقات) تخبرها عن مكانها ولماذا؟. المكان شبه مظلم لذلك ستحاول المرأة أن تضغط زر نور هاتفها لكنها بالخطأ ستضغط على مكبر الصوت لنسمع صوت الصديقة ولتكون هذه الحركة البسيطة ( العفوية ) هي المبرر لحديث المرأة عن نفسها وعن ماضيها تجتر مع صديقتها أيامها الخوالي وتبثها حزنا دفينا ما كان له أن يخرج لولا هذه الليلة المصادفة ولولا هذا الحديث.
الصديقة مرعوبة على صديقتها التي وصفتها بالجنون، إذ أنها هنا وحيدة داخل مسرح فارغ من البشر والساعة تقترب من الثالثة فجراً، وهي تعاني من أمراض قد يصيبها أحدها بغيبوبة تدخلها فيما لا تحمد عقباه.
هنا لابد أن نتوقف قليلا لنرصد مجموعة من التفاصيل تشي بوعي كاتب النص ومخرجه. فعلى الرغم من اعتماد الكاتب على تكئة تشيكوف إلا أنه يضيف إليها ما يمنح عرضه خصوصية . أول هذه الإضافات هي ذلك الصوت الذي يأتينا عبر الهاتف مبرراً وغير مقحم. ليكون هو الدافع في استرسال الممثلة في الحديث عن نفسها. أما ثاني إضافاته فهو مرض الممثلة التي أخبرتنا به الصديقة والذي يستدعي أدوية إن لم تأخذها في موعدها ستصاب بما يشبه الهلوسة. والهلوسة ستزداد مع جرعات قليلة من قنينة خمر تحملها الممثلة في حقيبتها وتلجأ إليها رغبة في دفء مفقود على الخشبة العارية.
المرض والخمر دافعان مبرران لحديث سيأتي مسترسلا ومستعيدا لبعض أدوار أدتها الممثلة في سنوات المجد. وهنا ستأتي ببراعة الإضافة الثالثة والمتمثلة في إختيارات الكاتب لمونولوجات الأدوار. فهي ليدي ماكبث مرة، وهي ميديا مرة أخرى، وهي نعمة وبهية وقاتلة زوجها وأبيها و.. و....
الشخصيات منوعة بين ما هو مختار من نصوص معروفة ، وبين كتابة خالصة لصاحب النص. لكنها جميعا تتفق فيما بينها أنها تعبير بدرجة أو أخرى عن طبيعة الشخصية ( فريدة ) ونفسيتها. فجميعها عن شخصيات نسائية مكلومات بدرجة أو أخرى، تعاني كل منها من خيانة أو قهر. وكأنهن عزف على موتيفة ( فريدة) الوحيدة المقهورة.
أمام كتابة كهذه كان لابد أن يبحث صاحبها عن ممثلة تمتلك من المقدرة ما يجعلها تتحول كحرباء من شخصية لأخرى بل وتعود كل حين إلى الأصل فريدة الممثلة العجوز. ومن غير عايدة فهمي يمكنها فعل ذلك وببساطة هي نتاج تدريب وخبرة ووعي بتفاصيل الشخصية؟.
منذ الدخول الأول الحذر المتردد للشخصية ستشعر أنك أمام ممثلة قادرة ، فهاهي خطواتها ثقيلة تكاد تجرها جرا، وظهرها منحنيا إنحناءة تعافر صاحبته ألا يبين، ونظراتها المتلفتة تشي بخطورة ما تفعل. هي هنا كلص يخشى أن يضبط متلبسا. هذه التفاصيل ستتناقض مع تفاصيل أخرى حين تؤدي شخصيات مسرحياتها التي قدمتها في زمان المجد. حيث سينفرد الظهر، ويتلون الصوت حسب الشخصية ، بل ويتلوى الخصر حين تؤدي ما يتطلب هذا الإلتواء. بل والأروع أنها وفي وسط هذا الإندماج تعود فجأة لما كانت عليه ، تعود إلى فريدة العجوز المتهالكة بل والسكيرة بعد عدد كبير من جرعات القنينة المعدنية.
هنا يمكن القول وبضمير مستريح أن عايدة فهمي قدمت في هذا العرض ما يمكن اعتباره درساً خاصاً في حرفية التمثيل.وهو ما كوفئت عليه بتصفيق طويل من جمهور متشوق لتمثيل حقيقي وجاد.
لكن ولأن المسرح فعل جماعي، ما كان يمكن أن تصل فريدة ومعها العرض إلى هذا الإكتمال إلا عبر مصمم منظر وإضاءة وعى بمعنى النص وبالتأويل الإخراجي له. ووعى وهو الأهم بما تعانيه الشخصية.
فكانت إضاءات عمرو عبد الله بمثابة حوار درامي مضاف. هو يحاور فريدة وتحاوره، شعاع الضوء عنده جملة حوار تستكملها عايدة فهمي سواء برجفة وجه أو بحركة يد أو بنظرة حسرة منعكسة على مرآة مغبشة.
كذلك نجح عمرو عبد الله – كمصمم للمنظر – أن يرتب إكسسواراته المختارة بعناية ترتيبا يشي بعشوائية تليق وعشوائية خشبة مسرح مهجورة. لكنها العشوانية المقننة. فالباب ( مثلا ) لا يتوسط الخشبة مصادفة، بل هو سيكون سجناً مرة وغرفة تعذيب في مستشفى للمجانين مرة أخرى، وشراعة تنظر منها الفتاة المراهقة مرة ثالثة. وفي كل مرة يمنحه عمرو عبد الله معنى مضاف بإضاءة تزيد الشخصية ألقاً وعمقاً. وكذلك كانت الأريكة والمرآة والعمود اليوناني وكل تفصيلة من تفاصيل العرض.
وسيبقى المشهد قبل الأخير حين تُطرد فريدة من المسرح فتجر أشياءها بيديها المرتعشتين. فنرى خطا من الماء ينساب من قنينتها، هو المشهد الذي سيعصر قلب المشاهد. فخط الماء المنساب من القنينة والمضاء بإضاءة خاصة سيمنحان الخمر معنى أعلى وأجل ، إنها حياة فريدة التي انسابت منها دون أن تدري. هكذا تضافرت إضاءة عمر عبد الله مع أداء عايدة فهمي فانسحق القلب.
عرض (فريدة) في ظني هو أحد أهم نتاجات مسرح الطليعة. وأتمنى لو أعيد عرضه في دورة أخرى خاصة بعد صعوده على الخشبة الكبرى والتي لائمت أكثر معناه المتمثل في زيارة ممثلة لمسرحها القديم. وأظن أن عادل حسان المدير الفنان لن يبخل بأن يمد هذا النجاح لأيام أخر.