تدور العجلاتُ بوتيرةٍ مُتسارعة، ولا تتحرَّك العربةُ مترًا للأمام؛ ذلك أنها مرفوعةٌ عن الأرض. والصراعُ فى جوهره ليس بين التحريك والثبات؛ بل بين التعويم المُطلَق والركوز على أوَّل الطريق، مهما بدت وعرةً وطويلة ومُتعرّجة.. و»الطوفان» من حيث أراد تحريرها؛ فإنه أبقاها مُعلَّقةً وحرمَها السائقَ الخبيرَ وراء المِقوَد، واللوثةُ الصهيونية فى الردِّ أوقعت عليها ثِقلاً هائلاً، أمَّا المُواكبة الخارجية فتبدو مَعنيّةً باستدامة عمل المُحرِّكات ولو فى الفراغ. هكذا يبدو المشهدُ مشحونًا عن آخره، والمُحصِّلة أقرب إلى الجعجعة من دون طَحنٍ. ولا فارقَ بين السلاح والسياسة والقانون الدولى؛ فكلّها أقربُ لطَمر الجمر بالرماد بدلاً من إطفائه، حتى مع إحراز اختراقاتٍ لامعة لناحية تصويب الصورة لدى الرأى العام العالمى، أو الإيحاء بتعديل وجهات نظر المُنحازين، وترضية المنكوبين بالرسائل الدافئة؛ وإن لم تُواكبها أفعالٌ مُثمرة.
أدلت محكمةُ العدل الدولية بدَلوها للمرَّة الرابعة؛ فقضت مساءَ الجمعة بحزمة تدابير ظرفيّة جديدة، أهمّها الوَقف الفورى لأيّة أعمالٍ خَشنة فى رفح الفلسطينية، والحفاظ على المعبر مفتوحًا دون عوائق، بجانب تيسير وصول أيَّة لجان تحقيق أو تقصِّى حقائق لفحص شواهد الإبادة الجماعية، وأخيرًا إفادة هيئة القُضاة الدوليين بتقريرٍ وافٍ عن الإجراءات المُتّخذة فى غضون شهر. والتحرُّك على أهميته؛ فإنه حلقةٌ فى مسارٍ من التدابير المُهدَرة: البداية أواخر يناير بعناوين شملت وقفَ أعمال الإبادة وتمكين جهود الإغاثة وعدم إتلاف الأدلّة ومُعاقبة المُتورِّطين فى الخروقات، بجانب الالتزام بالتقرير الشهرى أيضًا، ثم فى منتصف فبراير ردَّت على طلبٍ من جنوب أفريقيا بأنه لا وجه لإقرار إجراءات إضافية وما تزال الحزمةُ الأُولى ساريةً، وفى أواخر مارس دعت لضخّ المُساعدات على نطاقٍ واسع، وزيادة نقاط العبور وقدراتها مع إبقائها مفتوحةً لأطول فترةٍ مُمكنة، وكَبح قوات الاحتلال عن أيّة انتهاكات لحقوق الفلسطينيين ووضعيتهم المحميَّة باتفاقيّة منع الإبادة، مع الالتزام بالتقرير فى المُهلة المُحدّدة. والمحكمة أنجزت أقصى ما فى وِسعها منذ تلقَّت القضية أواخر ديسمبر؛ لكنها تظلُّ عاجزةً عن إنفاذ أيّة آثار فاعلة فى تركيبة الصراع بمعزلٍ عن سياقٍ دولىّ حاضن لها، ومُواكِبٍ لمواقفها، ويُعزِّز مراميها فى إطار غلافٍ مُتكامل من عناصر الرقابة والضغط، وتحييد دوائر الإسناد وما تُوفّره من غطاءٍ للمُمارسات الصهيونية.
المرَّات السابقة لم تهتمّ تلُّ أبيب بالأمر كثيرًا؛ بل جاهرت منذ اللحظة الأولى بأنها غير مَعنيّةٍ بالمنطوق، ولن تتوانى عن استكمال خطَّتها الحربية فى أنحاء غزَّة. أمَّا فى النسخةِ الأخيرة فقد بدا الوَضع مُختلفًا نوعًا ما؛ صحيح أنَّ مُتطرِّفى الحكومة ظلَّوا على خطاباتهم الزاعقة بشأن التجاهُل ومُواصلة الحرب واحتلال كامل القطاع؛ لكنَّ مكتب نتنياهو أصدر مع وزارة الخارجية بيانًا غير مُعتادٍ فى لغته، سعى لإنكار الاتهامات، وتعهَّد ضِمنيًّا بأنَّ عملياته لن تتسبَّب فى الإضرار بالمدنيِّين، وبأنه سيعمل على تكثيف المساعدات وتشغيل معابرها الحيويّة. وتبعه اتِّصال بايدن بالرئيس السيسى، والوصول لتفاهماتٍ بشأن تكثيف جهود الإغاثة من خلال منفذ كرم أبو سالم بالتعاون مع الأُمَم المتحدة، لحين الاتّفاق على آليّةٍ لتشغيل معبر رفح بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية. والتحوُّل الأخير لم ينشأ عن إعادة الاعتبار لمحكمة العدل فى ذهنيّة السلطة العِبرية؛ بقدر ما أنه يُترجِمُ أثرَ دوائر الضغط المُتداخلة طوال الشهور الأخيرة، وأعبائها المُضافة بدخول الجنائية الدولية على الخطِّ، وتغيُّر التكتيكات المصرية، وانكشاف الموقف الغربىّ المُشين على بيئته الداخلية أوّلاً، ثمَّ على مُدوّنات المرافق الأُمَميّة ونظام عملها، وقد صاغه الغربُ بالأساس لرعاية مصالحه، وأن يقف اليومَ على النقيضِ معه رغم انحرافاته البنيوية كلِّها؛ فالمعنى أنَّ الصورةَ بلغت حدًّا من التشوُّه لا يُمكن إغفاله أو التغطية عليه.
قراراتُ محكمة العدل مُلزمةٌ بمُوجَب نظامها الأساسى وميثاق الأُمَم المُتّحدة؛ لكن الحجّية القانونية الثابتة لم تُعبِّر عن نفسها فى سابق الجولات. الأثرُ يتولَّد عن إجراءات الجنائية الدولية، ورغم حداثة الأخيرة فى البِنية الأُمَمية، وكَونها مرفوضةً من واشنطن وتل أبيب، ولا تملكُ الآليّةَ الكفيلة بإنفاذ إرادتها، ناهيك عن أنَّ مُذكِّرات التوقيف ما تزال موضوعًا داخليًّا فى لاهاى، وقد لا تعبرُ بوّابة اللجنة التمهيدية للمحكمة؛ فإنها مثَّلت الجناح الثانى المُكمِّل لقضية جنوب أفريقيا. قضاةُ العدل يُحاكمون الدول، والجنائيةُ تُحاكم الأفراد. وإذا كان هامشُ مُراوغة الأُولى عند حدِّه الأقصى أن تُنسَب التجاوزاتُ لأشخاصٍ من أدنى المراتب العسكرية فى الميدان؛ فإنَّ اختصام رئيس الحكومة ووزير دفاعه أمام الثانية يقطعُ بأنها جريمةُ دولة، وناتجةٌ عن سياسةٍ رسميّة بحسب ما قال كريم خان فى بيانه. وهكذا يبدو أنَّ تحرُّكَ القُضاة العدليِّين قد شجَّع الجنائيِّين، وتحرُّك الجنائيِّين عزَّز قيمة ادِّعاءات العدليِّين وإجراءاتهم؛ فكأنهم من غير ترتيبٍ أو اتّفاقٍ يصطفّون فى هيئةٍ واحدة، تُضاعفُ أثرَ الإدانة وتسدُّ أبواب الاحتيال والإفلات من المسؤوليات.
عادت إسرائيل لخيارِ التفاوض. كانت الخطوةُ قد تجمَّدت منذ قبول حماس لمُقترحات الهُدنة، ورفض نتنياهو المدموغ ببدء التوغُّل فى رفح أوائل مايو الجارى، وتجدَّد الحديثُ بعد موقف الجنائية، ثمَّ نشط استباقًا لخطوة محكمة العدل، وقد صرَّح مسؤولون فى تل أبيب بنِيَّتها المُتوقَّعَة أن تأمرَ بوَقف الحرب.. لقد فتح اعترافُ الثلاثية الأوروبية الأخيرة، إسبانيا وأيرلندا والنرويج، بالدولة الفلسطينية رسميًّا، البابَ واسعًا على النظر فى تناقضات البيئة الغربية، وإبراز صراعاتها الداخلية العميقة بين البراجماتية والقِيَم. وإذا كان السائدُ أنَّ الدولةَ العبريّةَ ظِلٌّ شرقُ أوسطىٌّ للحضارة البيضاء، بل تتَّخذُ الأُمثولةُ المعنويّةُ أبعادًا ماديّة بعضويَّتها للاتحاد الأوروبى لكُرة القدم أو مُشاركتها فى مهرجان الأُغنية الأوروبية كإحدى بلدان القارة؛ فإنَّ تيّارًا عريضًا بات يُفصِح عن عدم انسجامه مع الصيغة الصهيونية، ويتجاوزُ غضبةَ الشارع إلى داخل الحكومات والأقنية المُؤسَّسية، والنتاج بعيدُ المدى لذلك أن يُشرَخَ الغربُ بين وجهه الريادى وسُلوكه القريب من العالم الثالث، أو أن ينأى بنفسه عن حليفه وقاعدته المُتقدِّمة؛ فيصيرُ الصراع جنوبيًّا خالصًا فى مادته وأدواته وتوازنات قواه. أمَّا المُعضلة الكُبرى فأن بعض الغربيِّين اعتبروا إفلاتَ الصهاينة من العقاب بمثابة الحصانة لهم، وإذا وُضِعَ المجرمُ على منصَّة المُساءلة فلن يعود الشريكُ فى مأمنٍ من الحساب. وهكذا يبدأ مسلسلُ المراجعة كما فى مواقف ماكرون، وفى إفادات دولٍ ذات نزوعٍ صهيونىٍّ صريح بأنها لن تتقاعس عن إنفاذ القانون؛ لو زارها نتنياهو تحت طائلة مُذكَّرة اعتقالٍ رسمية.
أمينُ الأُمَم المتحدة نقل قرارات العدل الدولية لمجلس الأمن، باعتباره صاحبَ سُلطة الإنفاذ الخشن تحت الفصل السابع، حال قصَّرت الدولُ فى الالتزام الناعم. التدرُّج الطبيعىُّ أن يتكفَّل الفيتو الأمريكى بتحييد الذراع الأُمَميّة الفاعلة؛ لكنه بقدر ما يخدمُ يمينَ التوراتيِّين والقوميِّين المُتطرِّف؛ فإنه يُعظِّم انكشاف السرديّة الصهيونية، ويزيدُ تشقُّقات الأُمثولة الغربية ونقاوتها الجامعة. والواقعُ أنَّ غلالةَ الحصانة الأبدية قد سقطت عن الاحتلال، ولم يعد مُمكنًا أن يستمرئ حالةَ التفويض الدائم بإزالة خصومه بكلِّ السُّبل الوحشية؛ تعويضًا عن مظلوميّةٍ صارت من الماضى وأغلق التاريخُ دفاترها.
وإزاءَ الإفراط فى إسناد البلطجة رغم أنف العدالة الدولية؛ فقد ينتقلُ النزاعُ لداخل البيئات الغربية، بمُلاحقة القادة الصهاينة أمام أنظمة التقاضى بالبلدان التى تُقرّ الولايةَ العالمية فى مسائل حقوق الإنسان وجرائم الحرب، أو حتى مُلاحقة المسؤولين الغربيِّين أنفسهم أمام مُجتمعاتهم؛ اتّصالاً بمسؤولية الشريك الجنائية والأدبية فى جريمة الفاعل الأصلى. وسيتكفَّل التفسُّخ الآخذُ فى الازدياد، بإعادة رَصف الطريق بين ظاهر الدائرة الأورو-أمريكية وظهيرها الأخلاقى الذى كان خافتًا، لا سيِّما وقد صار الارتدادُ لمنظومة القِيَم المُستبعَدة احتياجًا أصيلاً لتجديد فاعليّة السردية وعافية نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بالرغم من كلِّ المآسى؛ فإنَّ التاريخ لا يعودُ إلى الوراء. ربما يُكرِّر نفسَه على صورٍ أشدّ هَزلاً أو تراجيديا؛ إنما فى كلِّ مرّةٍ سيحملُ داخلَه بذورَ انحرافٍ جديدٍ، يُغيِّر مسارات المُستقبل عمَّا سارت إليه الحوادثُ نفسها فى الماضى. لقد بُنِيَت إسرائيل على زعم استنقاذ اليهود من دوَّامة إهدار الوجود والقيمة؛ فصارت هى نفسُها بعد أقلِّ من ثمانية عقودٍ عنوانًا على التوحُّش والشمولية وجنون إفناء الخصوم. عاش البلدُ المُخَلَّق من العَدم على دعائيّة السموِّ الحضارى فى مُحيطٍ من البدائية الوضيعة، وآل المشهدُ إلى جيشٍ همجىٍّ مُسلَّح حتى العَظم ينحرُ النساء والأطفال كما فى ملاحم العالم الوحشىِّ القديم. الغربُ نفسُه يُواجه مأزقًا داخليًّا لم تعُد فيه القِيَم المُعلَنة تُعبِّر عن نفسها فى المُمارسات اليومية، كما لا تُقنع قطاعاتٍ واسعةً من القاعدة الاجتماعية، وما يزال على ادِّعائه للتفوِّق الأخلاقى. وإن صحّ ذلك إزاء روسيا والصين لأسبابٍ تاريخية وثقافية وأيديولوجية؛ فإنه لن يكون فعّالاً مع كامل مجتمعات الجنوب التى لم يُغادر أغلبُها آثارَ المركزية الأوروبية وتسلُّطها، وسيكون أقلَّ فاعليّةً بالضرورة فى الشرق الأوسط، وما زال يُسدِّد فواتير «سايكس بيكو» والانتداب البريطانى على فلسطين، ولم يبرأ من نزوات الولايات المُتّحدة فى العراق وسوريا وغيرهما، أو من لَمستها التى ضاعفت حضورَ الأُصوليّة الإقليمية، ومكَّنت تيَّار الميليشيات المذهبية من رقاب أربعٍ من دُوَلها على الأقل، فضلاً على بصمتها الثقيلة فى الملف الفلسطينى.
سَبَق أن ارتاحت عجلاتُ العربة على الأرض. لِنَتجاوزَ تفويتَ فُرصة الانتفاع بمزايا قرار التقسيم مع دفع أضعاف فاتورته؛ إذ كان السياقُ التاريخىُّ مُلتبِسًا، واستجاب العربُ للمسألة فى حدود معرفتهم الضئيلة وقتها بالجوانب الخَفيَّة من المشروع اليهودى ودوائره المُتشابكة. كان الانتقالُ من لبنان إلى تونس ورشةَ إصلاحٍ تاريخيّةً لعَطب المُقاومة ورؤاها، أتاحت تطويرَ الأجندة الوطنية وترشيدَ فائض العاطفة لصالح العقل، وتأسَّس عليها ضَبطُ المشروع النضالىّ، وبدء مُخاطبة العالم من منابره الرسمية، وصولاً لإعلان الدولة وإطلاق مسار الاعترافات المُتتالية، من أوَّل المحيط العربى حتى ثلاثية أوروبا الأخيرة. وكانت «انتفاضة الحجارة» شرارةَ تشغيل المُحرِّكات على خريطة فلسطين، و»أوسلو» مُفتتَحَ تسيير العَربة فى حاضنتها الوطنية. وما حدث أنَّ اليمين فى الناحيتين تواطأ على اختلاق العقبات، وتفريغ الدواليب من ضغط الهواء. واليوم تبدو القوَّتان المُتصارعتان على تجميد المسيرة أو تحريرها عاجزتين عن الاتفاق العلنىِّ، مثلما اتَّفَقتا ضِمنيًّا فى السابق. والمشكلةُ أن عدَّاد المركبة يُراكم آلاف الكيلوات فى الفراغ؛ فلا بمَقدور أحدٍ أن يُعيدَها لنُقطة الصفر، ولا الدوران يدفعُها على طريق الوصول لحلِّ الدولتين. حِبالُ الاحتلال الواهيةُ لم تعُد قادرةً على إبقائها مُعلَّقة، وأهلُ القضيّة يختلفون فيما بينهم؛ فلم ينتخبوا أحدًا للجلوس وراء المِقوَد؛ وهكذا فحتى لو انحلَّت القيودُ لن تنضبطَ القيادةُ، ولو رُسِمَ المسارُ فلا خريطة أو وِجهَة لإطلاق المَسيرة.
إجراءاتُ العدل الدوليّة مُلزمةٌ لناحية أنها دعوى خلافيّةٌ لا استشارية؛ لكنها أنتجت أثرَها القانونىَّ ولن تُنتج على الأرجح أثرًا ماديًّا. أمَّا الجنائيةُ فإنها حرَّكت المجالَ الملموسَ بقوَّةِ الرمزيّة وفائضها المعنوىِّ، ولن تنتقل لحَيِّز القانون والمُمارسة الماديَّة؛ إمَّا بعدم صُدور المُذكِّرات أصلاً، أو باستحالة إنفاذها إن صدرت؛ لا سيَّما والمحكمةُ لا تعملُ بصيغة المُحاكمات الغيابيّة. كأنَّ المسارين يتكاملان لإغلاق الدائرة؛ فما عجزت عنه المحكمةُ الأُولى أحرزته الثانية، وما لوَّحت به الثانية وضعت الأُولى بعضَه فى موضع التنفيذ، وكلاهما فى النهاية تُقيم الحُجّة على الغرب؛ بأكثر ممَّا تضعُ قدمَها فى الشرق أو تحسمُ صراعاته الهائجة. والولايات المتحدة إذ تُهدِّد واحدةً وتُقوِّض الأُخرى؛ فإنها تُعاينُ تسرُّب الحلفاء الغربيِّين من حولها، وتُناقض نفسَها فى مواقف سابقة، وتنزلقُ ناحيةَ اختبارٍ قاس؛ فإمَّا تُؤكِّد موقفَها برفض اجتياح رفح عبر دعم التدابير الاحترازية، أو تُعطِّلها بفائض قوَّتها الأُمَميّة وتطعنُ نفسَها فى سويداء مفخرتها القِيَميّة والأخلاقية. ويتضاعفُ الأمرُ بالنظر لإقرار الكنيست مشروعَ «بن جفير» وحزبه بشأن إلغاء قانون فك الارتباط بالضفّة، ما يعنى شرعنة بُؤرِ الاستيطان المُفكَّكة منذ العام 2005، ويفتحُ الباب لتكرار التجربة فى غزَّة؛ لناحية تجمُّعات نتساريم وجوش قطيف القديمة. وهكذا يُضاف احتمالٌ ثالثٌ بشأن العَرَبة الفلسطينية، فما بين التعليق والتحرير تجدُ واشنطن نفسَها أمام خيار التفجير، والذى تتشاركُه إيجابيًّا بالذخيرة، وسلبيًّا بالامتناع عن ترويض حليفها المخبول فى تل أبيب.
تكسبُ فلسطين خارجيًّا بينما تخسرُ فى الداخل؛ والحال أنه لا سبيلَ لمُعادلة كفَّتى الميزان دون الدخول فى مشروع توحيد الرؤية العالمية للصراع، والتخارُج من مشروع الانسداد المحلىِّ المحكوم بالانقسام ونزاعات السُّلطة والمكانة.
القضيّة على مُنحدَرٍ صاعد، وليس المطلوب أن تمتلك هيكلاً مُجوّفًا لعربةٍ عاطلة؛ فالمُقاومة بالسِّلم والعُنف قوَّتُها الدافعة، والسياسةُ نظامُ قيادتها وآليّة توجيهها، ولا تستقيمُ العمليّة لو وُضِعَ أحدهما مَوضعَ الآخر.. هدفُ الاشتباك مع المدِّ الدولى يُحقِّقه الوجه النظامىّ المُغلَّف بالشرعية، وتوازُنات الداخل ستحتكم للسلاح أو ثبات الصدور العارية حتمًا. أمَّا الخلل فأن يُختزَل الأمرُ فى رام الله، أو تنفرد حماس وفصائل غزَّة بلعب الدورين معًا. لقد صار القانونُ الذى أرساه الغربُ نارًا تُطوِّق أُمثولته الحضارية؛ كلَّما تعرَّت للصهاينة باستخفافٍ ووقاحة، وادِّعاءات التفوُّق الأخلاقىّ انقلبت رمادًا إمَّا يُلطِّخ وجهَ العالم أو تنبعثُ العدالةُ الضائعة من ثناياه كانبعاث الفينيق. وإذا كان النزاعُ ظاهرًا مع إسرائيل؛ فالجوهر مع متاريس الرُّعاة، وقد أُرسِىَ مِدماكٌ يصلُح لبناء سرديّةٍ مُعدَّلَةٍ أو مُغايرة؛ إنما المُهمّ أن يتحلَّى الواقفون على الثغور بالصَّبر وطُول النفس، وبالاستقامة الوطنيّة قبل كل شىء؛ إذ المرحلةُ التى يختبرونها تُشبه سوابقَ مال فيها العالمُ أو بعضُه لجِهة الضحايا، ولم نُحسِن استثمارَها فاقتنصَها الجُناة. وما لم تَنكسرُ الدوَّامة السيزيفية اليوم؛ فقد يجفُّ النزيفُ الأخلاقىُّ حالما تتوقَّف طاحونةُ الدم؛ ليُعيدَ الاحتلالُ الميلودراما من أوَّلها، ويُجدِّد الغربُ دعائم لُعبته القديمة، وينتظر الشرقُ، على حرفٍ بين المأساة والمَلهاة، جولةً جديدةً ورديئة من نزاع العَرَبة المُعلَّقة والمِقوَد الفارغ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة