قمة ثلاثية مرتقبة، بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ربما تحمل العديد من المفارقات، ربما أبرزها أنها تمثل نهجا تصالحيا، بين القوى الثلاثة، والتي شهدت العلاقات بينهم توترات، بحكم التحالفات، التي هيمنت على النظام الدولي في صورته الحالية، ذو الطبيعة الأحادية، وخصوصا حالة الصراع بين واشنطن وبكين، بينما في الوقت نفسه تمثل بادرة مهمة، لتحقيق قدر من الاستقرار الإقليمي في آسيا، خاصة مع التوترات القائمة بين طوكيو وسول من جانب، وبيونج يانج، والتي تحظى بعلاقات وثيقة، مع الإدارة الصينية، من جانب آخر، وهو الأمر الذي تربو إليه الأخيرة، والتي تسعى لتقديم نفسها باعتبارها قادرة على القيام بالدور الذي ربما فشلت فيه واشنطن في العديد من مناطق العالم، خاصة في القارة الصفراء، خاصة بعد نجاحها الأول في القيام بدور الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، والذي أسفر عن اتفاق تاريخي، بين الجانبين.
ولكن بعيدا عن المساعي الصينية، والمكاسب الإقليمية المرتبطة بالقارة الآسيوية، تبدو الحاجة ملحة إلى التركيز على الطبيعة "الثلاثية" للقمة المرتقبة، والتي تمثل في واقع الأمر نهجا دوليا مستحدثا، في ظل العديد من المشاهد الدولية والإقليمية الأخرى، ربما أحدثها مشهد الاعتراف الثلاثي بفلسطين، من قبل مسؤولي إسبانيا والنرويج وإيرلندا، بينما كان المشهد نفسه متكررا في العديد من المواقف المرتبطة بالشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، حيث تزعمته الدولة المصرية، بدءً من الشراكة الثلاثية بين مصر واليونان وقبرص، لتعزيز التعاون في مجال الغاز الطبيعي، ومن ثم تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، والذي ضم العديد من القوى الأخرى، ثم ثلاثية مصر والأردن والعراق، والتي ساهمت في بناء مؤتمر بغداد، والذي ساهم في تعزيز التعاون الإقليمي، في محاربة الإرهاب، ودعم المصالح المشتركة، مما دفع نحو حزمة من المصالحات بين الخصوم في المنطقة.
وبين المصالحات في الشرق الأوسط، من جانب والمشهد الآسيوى المرتقب من جانب آخر، وبينهما الاعتراف الثلاثي بفلسطين، نجد أن ثمة مقاربات لا يمكن تجاهلها، ربما أبرزها أن النظام الدولي في صورته الحالية بات عاجزا عن تحقيق الاستقرار العالمي، في ضوء الاعتماد المطلق على قوى واحدة مهيمنة، واللجوء إلى مجلس الأمن الدولي، وبالتالي أصبحت الحاجة ملحة إلى دور أكبر للقوى الإقليمية في مختلف مناطق العالم، لإدارة الأزمات المعقدة المرتبطة بمناطقها، بينما يبقى التنسيق فيما بينها أساسا للانطلاق نحو تحقيق اختراقات كبيرة فيما يتعلق بالقضايا الدولية الأكثر تعقيدا، على غرار القضية الفلسطينية والتي عجز العالم عن حلها منذ ما يقرب من ثمانية عقود من الزمان.
والحديث عن آلية الشراكات الثلاثية، ربما يعكس، إلى جانب كونه دليلا دامغا على نجاعة الدبلوماسية المصرية، والتي تعد أول من أرسى هذا النهج منذ العقد الماضي وبالتالي فقد نجحت باقتدار في تصديره إلى العالم، فإنه في جوهره بمثابة محاولة جادة لإصلاح المنظومة الدولية، والتي عانت في ظل إدارتها أحادية الجانب جراء الدوران في فلك القوى الوحيدة الحاكمة والمهيمنة، وهي الولايات المتحدة، مما أسفر عن فشل ذريع في معالجة العديد من القضايا، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تراكمات قد تدفع نحو الانفجار في لحظة واحدة، وهو ما يبدو في المشهد الحالي في الأراضى الفلسطينية، والذي يمثل ثمرة واضحة لاستمرار الاحتلال دون رادع، بينما تبقى جميع الأطراف مهددة، وهو ما يبدو في عملية طوفان الأقصى، والتي سببت هلعا في الداخل الإسرائيلي من جانب، بالإضافة إلى الدمار الذي تشهده غزة من جانب آخر، في حين لا يبقى الإقليم برمته بعيدا عن دائرة الصراع، التي تتوسع بصورة ملحوظة.
الأمر نفسه ينطبق على الأوضاع في آسيا، فالتوتر بين اليابان وكوريا الجنوبية، من جانب والصين من جانب آخر، لا يعطي أي مساحة لتعزيز المصالح المشتركة، والتي ترتبط بالتعاون الاقتصادي والأمني، كما لا يسمح بإدارة الأزمات الإقليمية، وفي القلب منها قضية كوريا الشمالية، والتي قدمت دليلا جديدا على فشل دبلوماسية العقوبات التي طالما تبنتها واشنطن في التعامل الخصوم، اللهم إلا خلال حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي نجح في اتخاذ خطوات واسعة في هذا الملف، إلا أن الأمور شهدت خلافات كبيرة بعد ذلك، بعدما جاءت الإدارة الحالية، لتعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
ولعل النهج المستحدث، سواء في الشرق الأوسط أو آسيا، لن يستبعد القوى الأخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تماما من المشهد، وإنما يبقى التنسيق معها ضرورة، إلا أنه يعزز قواعد جديدة، تقوم في الأساس على أن نقطة الانطلاق في حل الأزمات الدولية ينبغي أن تكون من داخل منطقة الصراع، عبر الاعتماد على القوى الرئيسية القائمة بها، وهو ما يبدو واضحا في الدور الكبير الذي تلعبه مصر في القضية الفلسطينية، وقدرتها الفائقة على تغيير المواقف الدولية، والظفر بانتصارات كبيرة من قلب المعسكر الموالي لإسرائيل، وأحدثها الاعتراف الثلاثي بالدولة.
وهنا يمكننا القول بأن التحركات الإقليمية، في إطارها الثلاثي، والقابل للاتساع، بات بمثابة نهجا تتبناه القوى الإقليمية، لإصلاح المنظومة الدولية، في إطار جماعي من شأنه إضفاء المزيد من الشرعية الدولية، لحقوق الشعوب المهدرة، وتفعيل الإرادة العالمية، في مواجهة الانحيازات الصارخة، والتي وضعت العالم على حافة الهاوية.