حازم حسين

هاجس الماضى وعُقدة شاليط.. لعنة الذاكرة تحول نتنياهو من قائدٍ متطرف لقاتلٍ مُختل

الأربعاء، 29 مايو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تبدأ الحروبُ وتنتهى فى ميدان السياسة. الانسدادُ يُفضى إلى الصدام، والخشونةُ تفتحُ الآفاقَ المُغلقة. هكذا يُفترَضُ أن تعملَ ماكينةُ الصراعات بين الدول؛ إنّما قد يبدو السلاحُ فى بعض الأحيان مَوضوعيًّا أكثر من الحوار، على الأقل لأنه يُحدِّد أهدافًا يُمكن اختبارها عمليًّا وقياسها بالأرقام، بينما الجدلُ يأخذ طابعًا ذاتيًّا رغم صِفته العقليّة؛ لأنه ينطلقُ من حدود فَهمِ المُتحاورين وانحيازاتهم. كثيرٌ من الحروب ما كان يُمكن أن تنشب لو تغيَّر قادتُها، وأكثر منها أُزهِقَت فى مَهدِها بفضل الفاعلين السياسيِّين؛ أمَّا بعدما تندلعُ فإنها تسيرُ فى الغالب بوتيرةٍ واحدة؛ أكان القائدُ تشرشل أو أدولف هتلر.


من هنا تبدو الشخصانيّةُ حاكمةً لمسألة تسخين الجبهات أو تبريدها؛ حتى عندما يدَّعى الخصومُ أنّهم يحتكمون لاعتباراتٍ منهجيّة ومصلحيّة لها صِفةُ العُمومية والتجرُّد. ويزيدُ من فداحة الذهاب إلى خيار القوَّة أنه مَرهونٌ باتِّفاقٍ مستحيل؛ إذ لا يكفى للنصر أن تُصيب غاياتك دون اعتراف الغريم بالهزيمة، بينما فى السياسة يصحُّ أن يكسب الطرفان أو يخسرا بالتساوى، ولا يتطلَّب الأمرُ أن ينكسر أحدُهما لصالح الآخر، كما لا يُمكن قياسُ الانكسار بمُعادلاتٍ حسابيّة تلغى إمكانية التأويل والدعاية وإسناد الذات معنويًّا أمام حاضنتها. وإذا كان اللِين يُعبِّر أحيانًا عن ثقةٍ واقتدار؛ فإنَّ المُغالاة فى إظهار البأس ربما تكشفُ عن ضعفٍ كامن، وعليه فالحربُ دليلُ هشاشةٍ، ويستحيلُ تجاوزُها إلى العقل من دون مُداواةٍ ذاتيّةٍ أوّلاً. وأوضح ما تتجلَّى فيه تلك المُقاربة؛ المشهد اللاهب فى غزّة، وارتداداته الصاخبة فى عُمق تل أبيب.


وقفَ بنيامين نتنياهو أمام الكنيست مُدافعًا عن رُؤيته الجنونيّة لقيادة بلدٍ بكامله نحو الانتحار. قال كثيرًا عن شروط النصر كيفما يتخيّلها، وما اعتبره تهديدًا وجوديًّا يُغلِّفه إمعانُ «السنوار» فى فَرض الاستسلام على إسرائيل. لم يكن مُقنعًا كعادته منذ طوفان الأقصى، وطوال ثمانية أشهرٍ من البطش الكامل بالقطاع ونازحيه العُزّل. وبدا أكثر تهافُتًا عندما تحدث زعيم المعارضة يائير لابيد، ورماه صراحةً بالفشل والفساد وأنه أُلعوبةٌ فى أيدى حُلفائه المجانين من الأحزاب التوراتية؛ بل اتّهمهم بسرقة المال العام وتأجيج الأوضاع داخل الدولة وخارجها، وتعميق الإضرار بصُورتها وانكشافها الأخلاقى عالميًّا، ودعا لانتخاباتٍ مُبكّرة ولو فى زمن الحرب؛ مُذكّرًا بأنهم أطاحوا رئيس الليكود من قبل وسيفعلونها مُجدّدًا. وبعد فواصل مُتكرِّرة من الهَرَج والمرج؛ أفضى التصويتُ إلى إفلات الحكومة من الفخِّ مُؤقّتًا، وانحاز لها نحو 50 % مُقابل 39 % ضدها؛ لكنَّ الإشارة التى لا يصحُّ تخطّيها أنه لم يكن استفتاءً على الموت والحياة، أو حتى على السلطة والمعارضة بالمعنى الواسع؛ بل كان بين رجلين بالتحديد: بيبى ولابيد.


للوهلة الأُولى يبدو السياق شعبويًّا وغير مُنسجمٍ مع دعايات الصهاينة عن أنفسهم ونظامهم الديمقراطى الناضج؛ لكنَّ العارفين بدواخل الدولة العبرية وبيتها التشريعى، يعرفون بالضرورة أنه مشهدٌ مَكرورٌ ومُعتاد، ووصل فى بعض الحالات إلى الشتائم والتحرُّش البدنى وطَرد المُخالفين. أمَّا السعى لسَحب الثقة فإنه واقع مُتجدِّد أسبوعيًّا، والحال أنها مُنازلةٌ على التكتيك لا الاستراتيجية، ويكادُ الخلاف يغيب تمامًا على مسائل إكمال الحرب، واجتياح رفح، ومُواصلة مهمّة إفناء حماس؛ رغم ما يبدو فيها من استحالةٍ ولا منطقيّة. وإذا كان الاشتباكُ محصورًا فى عنوانىّ استعادة الأسرى وترتيب صيغة الإدارة السياسية للقطاع مُستقبلاً؛ فإنه ممَّا يُمكن التوافُق عليه داخل الكابينت أو فى مجلس الحرب، ولو بولادةٍ مُتعسِّرة ومُكاسرةٍ بين الرؤى والإرادات. أمَّا الحادثُ فإنّه اختصامٌ لنتنياهو فى شخصِه؛ طالما أنَّ مُخالفيه لا يختلفون على جوهر المسار منذ بدايته، وبعضهم لا يشذّون عنه فى موضوع السيطرة الأمنية على الفضاء الغَزِّى، ولا فى وجوب كَسر إرادة المقاومة وتطويع خياراتها التفاوضية تحت النار.


رهانُ نتنياهو الكبيرُ اليوم ليس أن يُمرِّر خطّته الحربية، وهى محلُّ إجماعٍ بالفعل، ولا أن يقنعَ الجمهورَ بأنَّ مصلحتَه الشخصية تتلاقى مع المصالح العليا، وتكاد تُطابق الشواغل الوجودية للدولة فى نزاعٍ داخلى يقترب من التوسُّع إقليميًّا. إنَّ كلَّ ما يشغله أن ينقلَ المسؤوليةَ السياسية والعسكرية عن كاهله إلى أكتاف الحكومة، وأن يظلَّ مُنفردًا بالقرار دون التزامٍ بُمسبِّباته الأُولى أو ما تتولَّد عنه من تداعيات. وإذ يخوضُ حربَه الخاصّةَ مع حلفائه ومُعارضيه على السواء؛ فإنه يُعيدُ تكييفَ النزاع الدائر فى الجنوب على صورةٍ شديدة التداخل والتركيب: هو وإسرائيل ضد حماس، وهو وحماس ضد تيّارٍ على إسرائيل، وبمفرده ضد السنوار وجانتس ولابيد والتوراتيِّين على التوالى. باختصار؛ يقفُ زعيمُ الليكود المُؤمنُ بأنّه آخر ملوك اليهود وأكثرهم دهاء، والنبىّ الذى لم تُوثّقه التوارة، وما يُحرِّكه ظاهرًا طموح السلطة، وضِمنيًّا خوف المُساءلة، وجوهريًّا التعقيد النفسىّ الذى يُوشك أن يصير مَرضًا عُضالاً؛ أو لعلَّه صار بالفعل.


صحيح أنَّ مشهد الكنيست ليس جديدًا؛ لكنّه يتّخذ أبعادًا غير ما كان معهودًا فى السابق. التكرار الدائم مع توالى الإخفاقات يُهدِّد بتعديل تركيبة التصويت فى أيّة لحظة؛ لا سيّما أنه فى نزاعٍ ديناميكىٍّ هادر مع بيئته الائتلافية؛ بل وفى داخل حزبه. إصرار «لابيد» يتركُ الباب مفتوحًا على كلِّ الاحتمالات الخطرة، وتتضاعف الخطورة مع تحوُّلات جانتس وآيزنكوت فى مجلس الحرب، واتِّضاح أنَّ الدائرةَ الأمريكية تتّسع داخل الحكومة، بينما الأغلبيةُ مُحصّنة بخمسة مقاعد يُمكن أن تميلَ لأىِّ إغراءٍ طارئ. لكنَّ أصعب ما فى اللعبة أنها تكشفُ عن تفكُّك الإجماع الناشئ بعد طوفان الأقصى، وهو من ثوابت الدولة ودعائم عقيدتها فى زمن الأزمات، والرسالةُ أنَّ الخلافات صارت أعمقَ من انعكاساتها الشكلانية القديمة، وأعقدَ من آليّات المُراوغة والترضيات الظرفية؛ وإذا كان الإسنادُ الغربىُّ الكاسح أوَّلَ الأمر انبنى على سرديّة المجتمع المأزوم وتحصَّن بها، إذ يُهدِّده الإرهاب ويُؤلِّفه الاتحاد؛ فالأوضاعُ آلت إلى انقساماتٍ يتعذّر إخفاؤها، وجنونُ الآلة العسكرية أعاد بناء الصورة بمُقوِّمات أخلاقيّة مُغايرة، يقف فيها الصهاينة موقفَ الجانى لا الضحية، والبلدَ المارق من القانون والمواثيق وأعراف النظام الدولى، وما كان يُمكن التغاضى عنه لصالح بيئةٍ سياسية واجتماعية مُتّحدة ومُتضامنة؛ لا مُبرِّرَ لتمريره فى أجواء التشرذم، ولفائدة طرفٍ لم يعُد يُمثِّل الدولة بأكثر ممَّا ينخرط فى حسبته الذاتية.


رسالةُ الهجوم الصاخب من «لابيد» تنعكس بأشكالٍ شديدة الإزعاج فى مرآة نتنياهو. وأوّلُ مدلولاتها أنَّ التضامنَ معه ضدّ مُذكّرة المُدّعى العام للجنائية الدولية شَكلىُّ لا جوهرىّ، أو فى أفضل التوصيفات دفاعٌ عن المكانة السياسية لا عن الشخص وقيمته، وحال إرخاء عباءة السلطة عنه فسيكون عاريًا أمام بيئته والخارج، وقد يفقدُ حصانتَه الحاليّةَ وقتما ترى واشنطن، وربما تل أبيب نفسها، أنَّ كُلفةَ الدفاع عنه لا تُكافئ أعباء استثارة العالم والضغط على ضميره النازف.

والحال أنَّ المُنازعةَ الجنائية شخصيّةٌ بالكامل، ولا تسقُط بالتقادُم، وإذا لم يُوظِّف وضعيته الحالية على رأس الحكم فى تسويتها؛ فقد يقضى ما تبقَّى له من العُمر تحت طائلة المُلاحقة ومُخاوف المُساءلة والعقاب؛ لا سيَّما أنه قد يتصوُّر مُستقبلَه البعيد خارجَ إسرائيل؛ هربًا من قضايا الرشوة والفساد وما قد يُستَجَدّ عن سلسلة الإخفاقات المُتتالية بعد الطوفان. ويُضافُ لذلك أنه تأكَّد ممَّا كان يُقاربه بقدرٍ من الريبة، وتحديدًا عَرض المُعارضة السابق بمَنحه شبكةَ أمانٍ لإبرام صفقة التبادُل؛ على أن تُغطِّى ائتلافَه بمقاعدها فى الكنيست؛ حال انسحاب الأحزاب الدينية. والآن ينظرُ للمسألة على الأرجح باعتبارها فخًّا أُريدَ دَفعُه فيه، ما يعنى أنه سيكون أشدَّ تحفُّظًا تجاه بقيّة الأغيار السياسيِّين، وأكثر اندماجًا مع الدائرة التوراتية المُواكبة لنزواته الجنونية.


يُغرِق الجميع فى الشِّقّ النَّفعىِّ وراء تعطيل نتنياهو لصفقة الأسرى؛ لكنهم يتجاهلون العاملَ النفسىَّ تمامًا. الغالبُ قطعًا أنه لا يُريدُ التهدئةَ سعيًا لإرجاء مَوسم الحساب؛ لكنه يعرفُ تمامًا أنَّ المساءلةَ ستقعُ حتمًا ولو فى مَوعدٍ مُؤجّل؛ ولعلَّه أَعدَّ عُدَّته للإفلات منها، ورتَّب أوراقَه كى يُحمِّلها للآخرين؛ والشاهد فى نزاعاته وتعريضه الصريح بالأجهزة الأمنية طوال الوقت. وحالة جنون العظمة التى تسلّطت عليه؛ لا تتركُ منفذًا بالتأكيد لافتراض أنه يتصالحُ مع فكرة النزول عن العرش إلى البيت أو السجن. الأرجحُ أنّه لا يسعى لإطالة بقائه فى السلطة عبر الحكومة الحالية فحسب؛ بل يُخطِّط للعودة مُجدَّدًا ولو أُطِيح فى أقرب انتخابات، وقد فعلها من قبل عدّة مرَّاتٍ، وبات واثقًا فى نجاعة أدواته.


هكذا يبدو أنَّ ما يمنعُه عن الهُدنة المُستدَامَة أكبرُ من إسقاط الائتلاف، أو الاضطرار لمُغامرة الصناديق فى أجلٍ قريب؛ ولعلَّها الخبراتُ السابقة والذاكرةُ الحَيّة بشأن الصفقات الشبيهة. باختصارٍ؛ يخافُ اليمينىُّ المُتفاخِر دَومًا بإزهاق المشروع الفلسطينى وتركيع سُلطته وفصائله، من التوقيع على ورقةٍ تمنح «حماس» وذراعها الحربيّة انتصارًا معنويًّا؛ لكنها تفتحُ الباب لحلقةٍ جديدة من الأخطاء التراجيدية التى سبق أن مهَّدت لطوفان الأقصى، وخلقت حالَ الاختناق القائمة؛ حتى صارت الأنفاقُ العميقة فى غزّة، تفرضُ ديمومةَ الارتباك والفوضى والهلع على الغُرف المُضيئة فى تل أبيب.


لا ينسى الرجلُ الذى شَيّع «رابين» لمثواه الأخير بالتحريض، ودفن معه آخر ما تبقَّى من أنفاسٍ فى جسد أوسلو المريض، أنه قبل ثلاث عشرة سنةً ذهب فى مسارٍ كالذى يُعانده اليوم. وقتها كان الجندىُّ جلعاد شاليط فى الأَسْر منذ خمسة أعوام، وأفضى ماراثون المفاوضات الطويل إلى استعادته مُقابل الإفراج عن 1027 من الأسرى والمحكومين الفلسطينيين، وما حدث أنَّ المئات خرجوا من أبواب السجون إلى أحضان القسَّام، وصاروا مُقاتلين وقادةً فى السنوات التالية وإلى اليوم، وكان منهم: روحى مشتهى الفاعل المؤثّر فى غزّة، وفرسان خليفة الذى قتله الاحتلال فى القطاع بعد ستة أسابيع من الطوفان، وآخرون قضوا أو يقفون على الثغور المُلتهبة؛ أمَّا أخطرهم فكان رجلاً عاديًّا للغاية حملَ رقم 98 فى أحد الكشوف، وقضى قُرابةَ رُبع القرن فى سجونه على ثلاث فترات، أحدثها كانت وفق حُكمٍ بأربعة مُؤبّدات بدءًا من العام 1988، وقد انصرف للقراءة والمُذاكرة وتعلُّم العبرية، وكتب روايةً وحيدة فى محبسه، وإجمالاً بدا مُرتدعًا وكَسير الإرادة، وأنَّ الزنازين فعلت فيه ما تعجز الحياةُ العاديّة عن مُداواته. كان الرجل: يحيى سنوار إبراهيم حسن؛ وحدث العكس تمامًا من كلِّ الفروض والتصوُّرات.


خرج «السنوار» من الخنوع إلى الانطلاق، ونشط بقوّةٍ كأنّه يُعوِّض سنوات الغياب. ترقَّى سريعًا فى دولاب الحركة إلى أن فاز برئاسة مكتبها السياسىِّ بعد ستّة أعوام فقط. الخدعةُ الأُولى أنَّ نتنياهو أخرج لحماس قائدًا لا أسيرًا مُرتدعًا؛ ثمَّ الثانيةُ أنه تعرَّض من خلال الغريم المُحرَّر لواحدةٍ من أعقد عمليات الخداع الاستراتيجى. لقد أبدى الارتداعَ بالفعل، وأنه يتنعَّمُ بمنافع الانقسام والرعاية العبريّة، والأموال القطرية المُتدفّقة من مطارات إسرائيل شهريًّا، ونأى رجالُه بأنفسهم عن مُناوشاتٍ سابقة بين الاحتلال وحركة الجهاد، وكانوا يتفاوضون على زيادة أعداد العُمّال المسموح لهم بتجاوز المعابر إلى داخل الخطِّ الأخضر ومُستوطنات الغلاف. اقتنع الصهيونى المُمتلئ غرورًا بأنَّ خصمَه تحت الطوع، وصار اقتصاديًّا ينشغلُ بتنمية القطاع وتحصيل المكاسب؛ بدلاً عن التزامات المُقاوم أو إخلاصه لأحقاد الماضى ورغبة الثأر لنفسه على الأقل. وعندما تبدَّدت الأوهام؛ لم يكتشف «بيبى» أنه ابتلع الطُّعمَ فحسب، ولا أنَّ رُؤاه السياسية والأمنية بلغت من الهشاشة مَبلغًا يُلطِّخ صورتَه فى الماضى وينسفُ جدارته بالحاضر؛ بل اصطدم بحقيقة أنه أخرج النِّمرَ الجارحَ بيديه من القفص، وصارت كَربًا نفسيًّا يُلازمه إزاء «السنوار» الحالى، ويردعه عن المُغامرة بالسير نحو صناعة سنوار جديد.


يتحرَّك ذئبُ الصهيونية بإلحاح الحاضر وضغوطه؛ لكنه لا يبرأُ من أثقال الماضى وعُقدة الذنب التى تُطوِّق عنقَه لدرجة الاختناق. ومن هنا؛ يبدو فى مُمارساته المُرتبكة والمُتناقضة أقرب للدفاع عن نفسه بفلسفةٍ مزدوجة: الثأر من «الطوفان» الذى لطَّخ واقعه بعدما اتَّخذ هيئتَه الإمبراطورية من فرط الامتلاء وإدمان السلطة والهيمنة، واختصام «السنوار» على صِفةٍ فرديّة وقد قَوَّض صُورتَه الماضويّة وأزال عنه هالة القداسة بأثرٍ رجعىّ. وبهذا لم يعُد الأمرُ محصورًا فى الطموح والأطماع فحسب؛ بل تطوُّر لصيغة تُقارب الاعتلال الذهنى، وتُغلِّفها حزمةُ مخاوف شديدةُ التعقيد والتداخُل: المُساءلة، وانتهاء المشوار، والانكسار أمام خصوم الداخل، وانتصار الغريم الشخصى، والأخطر «سنوار الأمس» الذى يتشكَّل فى نسخةٍ جديدة داخل رحم السجون، ولا يعرفُ أىَّ واحدٍ من آلاف المسجونين سيكون، ومتى يخرج عليه بالمفاجأة نفسِها ليُحاصرَ حكومةً مُقبلةً يتمنّاها، أو يستجلبَ له اللعنات فى قبره بعد سنواتٍ أو عقود.


أصبح السنوار عُقدةَ نتنياهو، والأخيرُ عُقدةَ الحرب؛ ولعلَّ التشافى يتعذّر ببقائهما معًا أو بزوال واحدٍ بمُفرده. إزاحة المُحتلِّ تُعزِّز استمساك المُقاوِم بأجندته رغم الشقوق والتناقضات، وعودة الليكودىّ المأزوم برأس غريمه ستمنحُه شرعيّةَ الإنجاز وتجديد السرديّة والحضور؛ والحال أنهما إمّا يبقيان أو يرحلان معًا. لكنَّ المسألةَ هنا تختصُّ بالظرف الراهن؛ مع إمكانية تجديده على طريقة «الديجا فو» بشخصين آخرين فى مُستقبلٍ قريبٍ أو أقلّ قُربًا. والصراع الذى افتتحَ رُبعًا أخيرًا من قرنه الأول، يحتاج للتعقُّل بأكثر ممَّا تخدمُه المُغامرات هنا والجنون هناك؛ وعليه فالحلُّ أن يتداوى الفريقان بالتزامن: الفصائل تعترف بوجوبيّة النزول على أجندةٍ وطنية تُزاوج بين السياسة والسلاح، ولا تضع أحدها فوق الآخر، وإن قدَّمت فالأولويّة للشاغل الوطنى العام، لا للشخوص والرايات الفصائلية وامتداداتها العابرة للجغرافيا وثوابت الدولة المأمولة. وإسرائيل تُقِرّ بأنه لا مناصَ من الإقرار بالحقوق الفلسطينية، والتزام مُقرِّرات الشرعية الدولية، وبدء مسارٍ واضحٍ وجاد باتجاه «حلِّ الدولتين». وإذا كان بالإمكان تحييد الخنادق جزئيًّا أو كُلّيًّا بأثر السياسيين وفاعليّة الوسطاء والضامنين؛ فالمُؤكّد أنه لا سبيلَ لخروج إسرائيل من جنونها دون ترويض نتنياهو أوّلاً، أو وضعه فى مصحّةٍ نفسية تُعالج أمراضَه؛ وتُحرِّر دولة الاحتلال من الانسحاق بين مطرقة الخوف وسندان الجنون.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة