كانت الفكرةُ أوّلاً أن تُوصَل القنواتُ المقطوعة بين مُكوّنات البيئة السياسية، ثمَّ أن تختبر القُوى بطَيفها المُتنوِّع مساحات الوِفاق والشِّقاق فى الخطابات والرُّؤى، وبالضرورة ستستفيدُ الدولةُ من حصيلة الأفكار المطروحة فى اختبار سياساتها العملية وصداها لدى الجمهور، وترقية أساليب الإدارة والاستجابة للتحدّيات، وشَقّ مسارٍ مُحدَّثٍ يتعاطى مع ضرورات اللحظة، ويُعيد تجديد تحالف 30 يونيو، وحالته الإجماعية التى تجلَّت فى التضامن المدنىِّ والشعبى إزاء هجمة الأُصولية الدينية بعد يناير 2011. ومنذ دعا الرئيس السيسى للحوار الوطنى قبل أكثر من سنتين بقليل، أحرزت التجربةُ كثيرًا من غاياتها المُعلَنة والضِّمنيّة، وأفرزت حركيَّةُ المنصَّة والمُنخرطين فيها مناخًا أكثر انفتاحًا ووقوعًا على لُغةٍ مُشتركة، لدرجةٍ سمحت بترميم الشقوق القديمة ودرء كثير من التعارضات المظهريّة الشائعة، والأهمّ أنها طوَّرت البرامج والأداءات وفق استجابةٍ عملية وموضوعية الظرف العام واشتراطاته، وبمعنى أوضح؛ فقد أنزلت النُّخَب من أبراجها العاجية، ووضعت الجهازَ التنفيذىَّ فى صُلب المشهد السوسيوسياسى وتفاعلاته، ووطَّدت الجسر الذى لم يكن فى صالح الطرفين أن يهتزّ أو ينكسر.
يعودُ «الحوار» فى حلقته الثالثة خلال يومين؛ إذ يعقدُ مجلسُ الأُمناء اجتماعًا تنسيقيًّا مطلع الأسبوع المُقبل، يتناول جُملةَ أُمورٍ فى مُقدَّمها مُخرجات الحلقتين السابقتين، والمسار المُتَّفَق عليه مع الحكومة؛ لجهة إنفاذ التوصيات ومُتابعتها عبر لجنةٍ تنسيقية مشتركة، والموقف المصرى الراهن فى ضوء المُستجدَّات الإقليمية والدولية؛ لا سيّما الأحداث الجارية فى قطاع غزّة، وما ألقته من أعباء مُباشرةٍ وغير مباشرة على سياسة الدولة ومجالاتها الحيوية. وإذا كانت سوابقُ اللقاءات قد كشفت عن مساحات اتِّفاقٍ عريضة، وصالحةٍ للتثبيت والتوسعة؛ فاللقاء المُرتقَب يحملُ إشاراتٍ شديدةَ الأهمّية فيما يخصّ فلسفة الحوار ومُنطلقاته، وحالَ التحوُّل من طاولةٍ ظَرفيَّة فرضتها الضرورة، إلى فعّاليةٍ تتَّخذ صِفةَ الدوام والمُؤسَّسية، وتلعبُ أدوارًا إسناديّة تُواكب الإدارةَ وتُغذِّى روافدها، وتُثبِّت فكرةَ التوافق الخلَّاق؛ بما يُنظِّم الصراعَ السلمى فى بيئة السياسة الداخلية، ويُحيِّد تأثيراتِه الجانبيةَ غير المرغوبة على الغلاف الوطنى الجامع؛ خصوصًا المفاصل والمُنعطفات التى لها طابعٌ استراتيجى، وتتَّصل عضويًّا بمسائل الأمن القومى ومصالح الدولة العُليا.
توصَّل المرفق الحوارى الوليد لهيئته التأسيسية بعد شهرين من الدعوة الرئاسية، منها عشرون يومًا للأخذ والردِّ؛ حتى الاتفاق على هُويّات الأُمناء المُختارين بتمثيلٍ مُتكافئ لكلِّ التلاوين السياسية. أُعلِنَ المجلسُ فى يونيو، واختار مُقرّرى المحاور واللجان فى سبتمبر التالى. ثمَّ احتاج أكثر من 20 اجتماعًا تالية على مدى ثمانية أشهر؛ للالتقاء على الخطوط العريضة للموضوعات، وآلية طرحها والنقاش فيها، قبل انطلاق الفعاليات رسميًّا فى مايو من العام الماضى. والنظرةُ البسيطة قد تقول إنّه قطعَ سنةً كاملةً من الجرى فى المكان، وأنفق مئات الساعات على ترتيب الطاولة فحسب؛ إنما فى الجوهر كانت تلك المُهلة مطلوبةً لمُداواة تأثيرات الماضى القريب والبعيد، ونَفض غبار الخمول الذى رافق المجال العام بعد إطاحة الإخوان. فى الواقع؛ كانت أشبهَ بالمُدرَّج الطويل لإقلاع الطائرة؛ إذ لا يستقيمُ لها التحليق دون أن تأخذ مداها الواجبَ من السرعة والعَزم، وتنشطَ مُحرّكاتُها لآخر طاقتها؛ فتكونُ مُؤهلةً لاختراق السماء باتجاه رحلتها الطويلة. والإشارةُ على ذلك؛ أنَّ السنة التى بُنِيَت فيها الدعائمُ، مَهَّدت لحصيلةٍ وافرة من الأُطروحات والبدائل مُتفاوتة القيمة والأثر فى غضون شهورٍ قليلة، أخذ بعضُها طريقَه للنفاذ، وما تزال البقيّة قيدَ الفحص واعتماد آليّات التطبيق.
أثمرت الانطلاقةُ المُبكّرة ثمانيةَ أسابيع من العمل الدؤوب: ستّةً مُوسَّعةً للمُشاركين من الساسة والتكنوقراط والشخصيات العامة، واثنين من اللقاءات الاختصاصية الضيّقة؛ لفرز الإسهامات وتمحيصها واستخلاص الوصايا منها. وبدا اهتمامُ الدولة بالورشة الجديدة عاليًا منذ البداية؛ إذ استبق مجلسُ الأمناء مُداولات الطاولة المفتوحة بمُناشدة الرئيس أن يُمدِّد الإشرافَ القضائى على الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما أُعلِنَت الاستجابةُ له بالفعل. وجَردةُ الحساب عن تلك المرحلة تتضمَّن مئات المُتحدِّثين من نحو 60 حزبًا، فضلاً على الأكاديميين وأهل الاختصاص المُستقلّين، تَوزّعوا على 44 جلسة انتظمت تحت تسع عشرة لجنة فى ثلاثة محاور، وأفرزت نحو 133 إجراءً وتوصيةً جرى ضبطها فى المنطق والصياغة، وتصنيفها موضوعيًّا، وتحديد ما كان محلَّ اتفاق وما ظل خلافيًّا تتنوّع فيه المُعالجات، ورُفعت جميعًا إلى مُؤسَّسة الرئاسة، وبدورها نقلتها للجهازين التنفيذى والتشريعى؛ لإقرار الصالح للإنفاذ من خلال الحكومة مُباشرةً، والاشتغال على ما يتطلَّب عملاً برلمانيًّا بتعديل قوانين أو اقتراح غيرها، مع التزام الضابط الذى عبّر عنه الرئيس سابقًا؛ بشأن تطبيق ما يقعُ فى نطاق اختصاصه دون قيدٍ أو شرط.
كان التوجُّس المُتبادَل مفهومًا فى بادئ المسيرة، وأحسبُ اليومَ أنَّ الجميعَ تجاوزوه بالمُمارسة وخبراتها العمليّة.. والحال أنَّ الشكوك التى لازمت الفكرةَ فى أوَّلِها تبدَّدت تمامًا، وحلَّت بدلاً منها قناعةٌ رسَّخها الاختبار بالاحتياج المُتكافئ للجلوس إلى طاولةٍ واحدة، لا فارقَ فى ذلك بين مُعارضةٍ ومُوالاة. قِيلَ وقتَها مثلاً إنَّ الدولةَ تستهدفُ تمريرَ الاستحقاق الرئاسىِّ تحت مَظّلة الوفاق؛ لكنَّ الرئيس فى تصريحه الأوَّل بعد الفوز امتدحَ الحوارَ، وأكَّد استمساكَه بما أضفاه من حيويّةٍ على البيئة السياسية، ودعا بعدها لأن يُقارب المسألةَ الاقتصادية فى ضوء الأزمة الداخلية واتًصالها بضغوطات الخارج، ثمَّ جدَّد التأكيد فى خطاب التنصيب، وفى حفل إفطار الأسرة المصرية. وتجلَّى للمُراقب والمُشارِك أنها لم تكن حالةً عابرة لشراء الوقت؛ على ما توهَم المُتوهِّمون، ولا أنَّ غرضَها تجميل المشهد العام، بقدر ما تستهدفُ تحريكَه من داخله، وعلى شرط الانفتاح والجدل المُنضبط، وإرساء قاعدةٍ للبناء المُتراكِم ضمن حاضنةٍ ترعاها الدولة فى سياقها النظامى؛ إنّما لخدمة المُجتمع المدنى فى معانيه العريضة. كأنها مَنصّةُ اختبارٍ وتدريب للأبنية الحزبية ومُرتكزاتها الأيديولوجية والاتّصالية، وإعادة تسويقٍ لها فى الشارع تحت عنوان التفاعل مع منظومة الحُكم، وليس الاختصام والمُكايدة بدعاياتٍ شعبويّة، وخطابيّة زاعقةٍ طالما خصمت من الأحزاب بأكثر ممَّا أفادتها، وكان الخَصمُ مُهينًا ومُوجعًا عندما تلاعبت بها جماعة الإخوان مثلاً؛ فاقتنصت البرلمان والرئاسة، وتركتها عاريةً دون فاعليّةٍ أو أثر، وما أنقذها إلَّا الشارع والمُؤسَّسات الصلبة التى واكبت حركتَه التصحيحيّة.
كان الاقتصادُ موضوعًا ضمن باقة العناوين العريضة للجولة الأولى؛ لكنَّ التحوّلات فَرَضتْ لاحقًا أن يستقلَّ بجولةٍ خالصة. تلقّى مجلسُ الأُمناء دعوةَ الرئيس واشتغل عليها، وعقد اثنتى عشرة جلسة على مدى أربعة أيامٍ فى أواخر فبراير الماضى، تناولت مسائلَ: التضخم، والدين العام، وعجز الموازنة، وأولويّات الاستثمار، وملكيّة الدولة والعدالة الاجتماعية، وأفرزت حزمةَ توصياتٍ أُضِيفَت لِمَا سبق وضعُه على طاولة الحكومة. والأسبوع الفائت قال رئيس الوزراء، على هامش جولته فى محافظة الإسكندرية، إنهم سيستعينون بالحوار الوطنىِّ والخُبراء المُختصِّين فى وضع تصوُّرٍ اقتصادىٍّ شامل بنهاية العام، ودعاه أمس لإنجاز خطّةٍ بشأن تحسين آلية الدعم وضمان وصوله لمُستحقِّيه الفعليِّين. وهكذا يُعظِّم السياقُ من أهمية الحالة وأثرها، ويُؤكِّد مُجدَّدًا أنها لم تكن طَقسًا شَكليًّا أو مَكلمةً لتفريغ فائض الجهد والطاقة؛ بل أُرِيْدَ لها أن تكون رافعةً حقيقيّة يُعاد بناءُ المجال السياسى من خلالها، وتكتسبُ التيَّارات المُختلفة حساسيّةَ الملفّات الحيويّة ومُقاربتها فى ديناميكيّتها اليومية، كما تُعيدُ النظرَ فى برامجها وآليَّات تعاطيها مع السياسات والأفكار، ومن قلب كلِّ هذا تتعاظمُ خبراتُها، وتصبُّ فى النهر العريض الذى ترتوى منه المرافق العامة وكوادرها، وأثمنُ ما فيه أنه يُدرِّب المُختلفين على تحييد خلافاتهم طالما كانت فى الفروع لا الأُصول، والتفكير خارج الثابت الفكرىِّ الذى قد يكون دُوجمائيًّا مُتكلِّسًا فى كثيرٍ من الأحيان، وإجادة الاشتباك مع المسائل بمنطقٍ عَمَلانىٍّ يُراعى الظروف والمُقتضيات، فلا تعودُ الخطاباتُ الحزبيّةُ مُجرّد محفوظاتٍ عُموميّة مُعلّقة فى الفراغ، ولا تُحرَم المُؤسَّساتُ وهياكل التنفيذ من أُطروحاتٍ كان يُغيٍّبها الجمود والمتحفيّة العقائدية، وبإمكانها إحداث فارقٍ ملموس حال تخلَّصت من عوائقها الذاتية، وأخلصت للسياسة بمنطق أنها جدالٌ بين الطاقات والتطلُّعات، ومُواءمة حَرجة وانتقائية بين المُمكن والمأمول.
يعودُ المجلسُ إلى نشاطه وعلى لائحته عِدّةُ نقاط: مُخرجات المرحلة الأولى وما اتُّخِذَ بشأنها، واستكمال المسائل المُرجَأة أو التى نُوقِشَت جزئيًّا، والأفكار الاقتصاديّة المطروحة فى ضوء التطوُّرات اللاحقة، مثل صفقة «رأس الحكمة» وتحرير سعر الصرف وحزمة اتفاقات التمويل والشراكة الدولية، ولجنة التنسيق المُشتركة مع الحكومة لمُواكبة التوصيات بالتنفيذ والمُتابعة والتقييم، مع تسريع وتيرتها، والأهمّ إجراء دعوة الرئيس فى الإفطار الرمضانى إلى بحث المسائل الاستراتيجية المُصنّفة تحت لائحة الأمن القومى، اتّصالاً برُزمة موضوعاتٍ أعلاها صوتًا ما يحدث على الحدود الشمالية الشرقية، وليست أقلَّ أهمية منها الحرب الدائرة فى السودان، وانسداد الأفق السياسى فى ليبيا، والمناوشات الجارية عند فَم البحر الأحمر وأثرها على حركة الملاحة وتدفُّقات السياحة وقناة السويس، وبالتأكيد ملفّ اللاجئين الذين تحتضن مصر نحو تسعة ملايين منهم، يُكلِّفون الدولة قُرابةَ عشرة مليارات دولار، بحسب تصريحات مُحدَّثة لرئيس الوزراء.
المُتغيّر المُلفتُ هنا أن مُؤسَّسة الحوار الوطنى فى زمن بنائها الأوَّل، وباتّفاقٍ حُرٍّ بين مُكوِّناتها المُتنوِّعة فكريًّا وسياسيًّا، أجمعت على استبعاد مسائل السياسة الخارجية والأمن القومى من موضوعات النقاش؛ تأسيسًا على أنها فى عُهدة القيادة السياسية، يُعاونها إطار من المؤسسات الصلبة المُتمرّسة، وتتّصل بكثيرٍ من القضايا والاعتبارات، كما تنكشفُ على معلومات وتفاصيل من صُلب الأسرار والدقائق شديدة الحساسية؛ فضلاً على أنَّ الشاغل المحلىَّ كان أكثر إلحاحًا وأولويّة، على الأقل من زاوية أنَّ المنصّة المُستحدَثة كانت تُؤسِّس لتجربةٍ غير مسبوقة فى الذاكرة القريبة، وقد يُفيدها الانخراطُ فى الموضوعات المصلحية المُرتبطة مُباشرةً بالأحزاب والأقنية المدنية، وبحال الشارع واهتماماته اليومية، بدلاً من الذهاب فى مساراتٍ لها صفة التعقيد والتداخل، وتتطلَّبُ إلمامًا عميقًا بباقةٍ عريضة من المعارف والخبرات شديدة النوعيّة والتخصُّص. وأن تُعاد المسألةُ التى كانت مُجنَّبةً اختياريًّا إلى الطاولة، وبإرادةٍ رئاسية؛ فالمعنى أن الدولة تسعى لترصيص الصفوف فى امتحانٍ غير مُعتاد، وهى إن كانت مُلمّة بالتحدِّيات الماثلة والمُحتملة، وبالخيارات والبدائل المُمكنة فى التعامل معها؛ فإنها تتقصَّد بالدرجة الأكبر أن تضع المجال العام فى صورة الحدث، وتوافيه بالمُتغيِّرات، وبطبيعة الحال تُرقِّى تجربة الحوار فى المُمارسة والتدرُّج الصاعد، ليُصبح شريكًا كاملَ الأهلية فى كلِّ الأبواب والمسارات.
الرجوعُ عن المحظور السابق فرضته اعتباراتٌ طارئةُ فى الإقليم والعالم؛ لكنه يُؤكِّد بين جُملة معانيه أنَّ الحوار الوطنى صار مَنصّةً ديناميكيّة ناضجة، وتتوافر لديه القدرة على لعب أدوار أكبر ممَّا سَلَف، وأن يُعاضِدَ الدولةَ فى الميادين الساخنة قبل الباردة. وفى تلك شهادةُ ثقةٍ للمُتحاورين أوّلاً، ولنظام الحُكم الذى يُحدِّث رؤيتَه للمشهد السياسى، ويرفدُه بالرسائل والإلماحات المُشجّعة على تكثيف حالة الاتصال، واختبار كلِّ المناطق دون تحفُّظٍ أو ارتباك. إنما بقدر ما فى الخطوة من دلائل الإيجابية والتقدُّم فى بِنية السُّلطة وشُركائها السياسيِّين، مُعاونين كانوا أم مُناوئين؛ يُرتِّب الوضعُ التزاماتٍ مُضاعَفةً على الطرفين: سيكون واجبًا على الدولة أن تُغذّى الحدثَ بمفاتيح تضمن الفهمَ والاستيعاب الكاملين للواقع الجديد، وعلى المُتحاورين أن يُغادروا المناطق الدعائية الآمنة فى إثارة القضايا المركزية للدبلوماسية والأمن القومى، ومُجافاة الخطابة والشعبوية؛ لصالح النزول على أرضٍ عقلانية مُمهّدة، تختبرُ المُثيرات وتستكشف مآلاتها بعقلٍ بارد، وتدرسُ الخيارات والبدائل بنزوعٍ وطنى يتكامل مع الأجهزة، ولا يسعى لتسجيل النقاط الرخيصة بالمُكايدة والابتزاز. الأيام الماضية مثلاً شهدت ذهاب بعض التيَّارات إلى مُطالبات ساخنة تشى بطفوليّةٍ فى النظر للوقائع، أو الوعى بمُحرِّكات العلاقات الدولية، وعليها أن تنسجمَ مع الأُطر المُؤسَّسية لبحث الملفّات شديدة الاحتدام بقدرٍ وافر من الرصانة والهدوء، بمعنى أن يكونوا «رجالَ دولة» فى المسؤولية والرشادة، وأن يُنحِّوا أهواء المُزايدة وثقافة النضال بالحناجر جانبًا.
المطلوب من الحوار الوطنى فى حقبته الجديدة أن يكون عضدًا وساعدًا للفاعلين الرسميِّين، وأن ينظر من منظار الدولة على صفة الجبهة الواحدة فى مُواجهة المخاطر والتحدِّيات، وليس من منظار الخصوم السياسيين على نِيَّة الإحلال أو الاستبدال. إننا برغم أيّة مُلاحظات أو تمنّيات أفرزتها الشهور الحوارية السابقة؛ نقف إزاء منصّةٍ مكّنت السياسيِّين والتكنوقراط والعامّة ممَّا لم يكن مُتاحًا لوقت طويل، وأرست أُسسًا يُمكن البناء عليها فى مسيرة طويلةٍ لتطوير كفاءة الاتصال بين السلطة والشارع، وتطوير البيئة السياسية من داخلها. ولا مُغالاة لو قلنا إننا ربحنا ميدانًا صالحًا لتلاقُح الأفكار، ولتدريب طبقاتٍ رديفة من الكوادر والمُسَيَّسين؛ هذا لو أحسن المُنخرطون فيه استغلال الحالة وترفيعها لتكون مَحفلاً دائمًا، وتتّسع مرافقُها نطاقًا وموضوعًا، وأن تشتبك مع النقابات والأحزاب والمُجتمع المدنى، ومرافق التثقيف والتأهيل، ومُنتديات التطوُّع والبحث وكلِّ فعاليات الاتصال الجماهيرى. البديل الذى رفضته الدولةُ أن يظلَّ المناخ العام مأزومًا، والهياكل الحزبية خاويةً على عروشها، والمُتسلِّطون عليها عاجزين عن تنشيطها داخليًّا، أو إخراجها من غُرفها المُغلقة، والطرقُ كلها تبدأ بخطوةٍ واحدة، مهما بدت طويلةً ومُتعرّجة، ولعلَّ الحوار الوطنى قطعَ فى شهوره القليلة ما يفوقُ تعداد أيَّامها من الخُطى والقفزات، ويتبقى اغتنام الفرصة بحقِّها، وأن يكون المُتحدّثون على قدر الحدث.