العالم بكامل دوله يترقب الوضع فى رفح الفلسطينية، بعد أن فاجأ جيش الاحتلال الإسرائيلي، الجميع وطلب من سكان مناطق فى شرق رفح الفلسطينية "الإخلاء الفوري"، والتوجه نحو وسط القطاع، فى ظل التلويح بشنّ هجوم برى على المدينة، حيث قال فى بيانه "على كل السكان والنازحين المتواجدين فى منطقة بلدية الشوكة وأحياء السلام الجنينة، تبة زراع والبيوك فى منطقة رفح، الإخلاء الفورى إلى المنطقة الإنسانية الموسعة بالمواصي"، مما يعنى الاستعداد لشن هجوم برى ظل نتنياهو يتوعد به منذ أكثر من شهرين، واضعا يده على أذنيه حتى لا يسمع كافة التحذيرات الصادرة من قادة دول العالم، حتى من أمريكا نفسها لإثنائه عن تلك المقامرة التى ستضع استقرار وأمن المنطقة كلها فى مهب الريح، وستفتح بابا كبيرا للتوتر والأزمات فى الإقليم، وهو ما حذرت منه مصر وكثير من دول العالم مرارا وتكرارا خلال الآونة الأخيرة.
المثير للدهشة والتساؤل أنه فى الوقت الذى قادت فيه مصر المفاوضات بين حماس وإسرائيل بحنكة واقتدار، وبذلت قصارى جهدها من أجل تقريب وجهات النظر بين الطرفين، ووضع الحلول المبتكرة للعثرات والخلافات التى شهدتها، واقترابها بالفعل من الإعلان الرسمى عن نجاح المفاوضات وتوافق الطرفين على هدنة وعودة المحتجزين تمهيدا لهدنة طويلة واتفاقا لوقف إطلاق النار، لؤاد قرار اجتياح رفح، وإنقاذ آلاف السكان الفلسطينيين، تأتى عملية معبر كرم أبو سالم التى نفذتها حماس لتشعل الموقف من جديد، وتعطى المبرر للجانب الإسرائيلى لوقف المفاوضات والعودة من جديد لفتح ملف اجتياح رفح، وكأن نتنياهو كان ينتظر هذه الخطوة، ليٌحرك ويُوعز للإعلام الغربى المنحاز له بتصوير الأمر للعالم كله على أن حماس لا تريد السلام أو المفاوضات أو حتى الهدنة، بدليل قيامها بعملية عسكرية ضد الجنود الإسرائيليين خلال الجلوس على مائدة المفاوضات فى القاهرة.
الهجوم الذى نفذته كتائب القسام ضد الجنود الإسرائيليين عند معبر كرم أبو سالم، وقتل 4 جنود إسرائليين، بدد الجهود المصرية القوية والحثيثة لإنجاح مفاوضات الهدنة، حيث كانت القاهرة تضغط بقوة للوصول إلى اتفاق يتم بموجبه سريان هدنة بين الطرفين، فى مقابل عودة المحتجزين الإسرائيليين الذين فى حوزة حماس، وبعدها يتم وضع الخطوط العريضة لوقف إطلاق نار دائم على أسس تحفظ حياة وكرامة سكان غزة، وهو الأمر الذى استغربه الكثير من المحللين، فكيف ترسل حماس وفدا للتفاوض فى القاهرة، وفى الوقت نفسه تنفذ عملية من شأنها "ضرب كرسى فى الكلوب" وقتل المفاوضات، وتبديد الجهود المصرية.
نتنياهو من ناحيته انتهز فرصة عملية "معبر كرم أبو سالم" ليواجه بها معارضة دول العالم لخطة اجتياح رفح، وطالب الجيش الإسرائيلى البدء فى إخلاء المدنيين تمهيدا لقصف المدينة واجتياحها بريا، وكأن جزار تل أبيب لم يكتف بالدماء التى أسالها من الفلسطينيين فى غزة، بعد أن أودى بحياة ما يقارب الـ 35 ألف شهيد و80 ألف جريح، السواد الأعظم منهم من النساء والأطفال بل والرضع، ضاربا بكافة القوانين الإنسانية عرض الحائط، واضعا الأعراف والقوانين والإنسانية تحت حذائه. حيث يخطط منذ أكثر من شهرين لاقتحام رفح التى تمثل آخر طوق نجاة أخير لاذ إليه أهالى غزة العزل الضعفاء، للاحتماء ومحاولة إنقاذ حياتهم وحياة من تبقى من عائلاتهم، هربا من جحيم حربا يشنها جيش الاحتلال ضدهم، ويلقى فوق رؤوسهم آلاف الأطنان من القذائف والصواريخ والمدفعية وتدمير تام لكافة المبانى والمرافق، حتى المستشفيات، ومراكز الإيواء.
إقدام الجيش الإسرائيلى على اجتياح رفح، سيكون مشهدا لمجزرة سيدونها التاريخ البشرى كمأساة من أكبر المآسى التى مرت بها الإنسانية، فعدد سكان المدينة الصغيرة يتجاوز الـ1.5 مليون نسمة، تضيق بهم مساحتها، ولكنها تأويهم من نار الحرب المستعرة فى باقى مناطق غزة التى حولها الجيش الإسرائيلى إلى أطلال ينعق فيها البوم والخراب، مما دعى كل دول العالم إلى التحذير من حدوث مذابح وخسائر بشرية فادحة وتدمير واسع النطاق للمدينة.
مقامرة نتنياهو ومجلس حربه، وإقدامهم بمنتهى الغباء العسكرى والسياسى على تلك الخطوة سيكون له عواقب وخيمة، وتأثير سلبى على علاقة مصر وإسرائيل، حيث سيؤدى ذلك إلى شرخ كبير فى قوة ومتانة اتفاقية كامب ديفيد للسلام الموقعة بينهما، لأن اقتحام إسرائيل لرفح سيدفع بسكانها إلى الفرار نحو الأراضى المصرية قسريا، هربا بحياتهم، وهو ما ترفضه مصر، وكررت ذلك الرفض مرات عديدة، وأوصلت رسائل بكل تلك المعانى لتل أبيب مفادها أن القاهرة ترفض حتى مجرد التفكير فى أى تهجير قسرى لأبناء غزة إلى أى شبر من الأراضى المصرية، وأن هذا الأمر خط أحمر للأمن القومى المصرى، لا جدال فيه.
كما أن ضرب رفح الفلسطينية، المكتظة بالسكان، وعدد الشهداء والمصابين المتوقع سقوطهم جراء هذه الحرب، سيؤجج مشاعر الكراهية والانتقام فى قلوب كافة الشعوب العربية والإسلامية تجاه ما ترتكبه إسرائيل وما تفعله ضد شعب أعزل مغلوب على أمره، مما سيؤدى إلى خلخلة الأمن والاستقرار فى المنطقة كافة. وسيزيد من احتمالية انزلاق المنطقة إلى أتون من الغضب والجحيم، مما يهدد من فرص أى اتفاقيات سلام للعيش فى أمن وأمان.
المنظمات الأممية ودول العالم، وحتى أمريكا نفسها كررت كثيرا تحذيرها لإسرائيل من مغبة اقتحام رفح، لدرجة أن أجمع يحاول بكل الطرق منذ أكثر من شهرين إثناءه عن الاقتحام الأهوج من قبل الجيش الإسرائيلى إلا أن كل نتنياهو سد آذانه عن كل ذلك وتحدى العالم كله، من أجل تحقيق نصر وهمى، لن يخلف سوى مجزرة سيكون ضحيتها آلاف السكان الأبرياء، ووضع مليون ونصف المليون مواطن فلسطينى على فوهة المدافع وتحت وابل الغارات والقذائف الإسرائيلية، مما سيزيد من انزلاق المنطقة إلى أتون أزمات عاصفة، وزلازل واضطرابات مقلقة، وسيضع كل دول الإقليم على خيط مشدود، من المحتمل أن ينقطع فى أى لحظة ويضع المنطقة بكاملها فى موقف شديد التعقيد.