"كانوا أصحابك يُتمى في إيدين الناس" افتكرت هذه الجملة الشعرية لعبد الرحمن الأبنودي، أمس، وأنا واقف في المقابر، لا أصدق أن صديق العمر مات، وأننا نواريه التراب الآن، فعلًا كنا مثل يتامى يواسينا الناس في مصابنا الذي لا مواساة تكفيه.
أحمد إبراهيم حسن، هكذا اسمه الثلاثي الذي استقبلته أذني كاملا للمرة الأولى فى الصف الأول الابتدائى عندما كنا نصغى لسماع مخارج الحروف بالطريقة الصحيحة، ومن ثم نطقها وكتابتها وبالأمس القريب سمعته كاملا للمرة الأخيرة عندما نادى المؤذن في المسجد معلنا موت أحمد إبراهيم حسن.
شريط من الذكريات بدأ من فصل أولى أول وانتهى عندما واريناه التراب، فقد رحل طائر البهجة بعيدًا، متوقفا عن كلماته العذبة الصادقة، وبسمته المرسومة على جبين كل من يعرفه، ولم يتبق سوى صدى صوته وبقايا ضحكته.
اشتهر أحمد بقدرته الهائلة على رسم البهجة على الوشوش، وانتزاع الألم من الوجوه العابسة بابتسامته الرقيقة ووجهه الطيب، ناهيك عن مواقفه النبيلة بين أصدقائه وجيرانه.
رحل عن عالمنا وكأنه رأى فى الموت خلاصًا مما نعيشه من توتر وانتظار لما ستسفر الأيام المقبلة من راحة أو عدمها، رحل صاحب الابتسامة العريضة والضحكة المميزة والقلب الطيب وصاحب المواقف التي لا تنسى.
ليس هناك أصعب من الفقد ومن مرارة الرحيل وقسوة الفاجعة، خصوصًا إذا كان صديقاً صدوقاً وصاحباً في طريق تجاوزنا معا الأربعين عاما من التواصل والسيرة الطيبة، لكن هكذا هي سنَّة الله في خلقه، لا شفاعة في الموت ولا مفر منه، وكلنا راحلون؛ فهادم اللذات لا يعرف مريضًا أو سليمًا.
تألمت وحزنت كثيراً وانقبض قلبي عندما تلقيت خبر وفاته بعد خروجه من المستشفى بأيام زرعت فينا الأمل من جديد بأننا سنستقبله في مقهانا المعتاد، حيث جلسات السمر والضحك والهروب من هموم الحياة.
قبل وفاته بساعات أخبرنا "سنخرج سويا ونفرح ونستقبل الحياة بصدر رحب" معلنا سأنتصر على المرض وأودع الوجع، هكذا كانت كلماته الأخيرة وبعدها لم أتمالك نفسي عندما تلقيت فاجعة خبر وفاته كالصدمة وأنا أجهش بالبكاء أنا وأصدقائي..
رحلت روحه الطيِّبة المرحة وابتساماته المشرقة التي كان يشع بها من بعيد وكأنه شعاع الأمل لأصدقائه، ما إن يحل مكاناً، حتى تزدان النفوس بالبهجة لوجوده، وتنتعش القلوب بدفء مشاعره الحانية ولإطلالته البهية، وبشاشته التي لم تكن تفارق وجهه حتى في لحظات حزنه.
امتدت علاقتي بأحمد منذ الصغر ، عاش لا يعرف سوى العطاء والوفاء، رحل لكنه سيبقى في أعماق قلوبنا مثلاً وقدوة طيبة في الخير والصلاح، رحل وستبقى سيرته العطرة حيَّة وحاضرة في نفوسنا، فالطيبون الأخيار لا يرحلون، بل هم باقون.
كان صانع الفرح والسعادة على مدى سنوات طويلة في عيون ونفوس محبيه، سكن قلوب الناس بخفة الدم والظل، ولما يتفرد به من حضور، كان أحمد لا يحمل في نفسه غلًا لأحد، ولا يحب الإساءة أو الكلام عن أحد في غيابه، يتمتع بدماثة خلق وطهارة قلب، كما كان حريصا على المبادرات الخيرية والاحتساب ومساعدة المحتاجين ومواساة الآخرين..
رحل من الحياة الفانية إلى الحياة الباقية وستبقى سيرته الطيبة العطرة حية لا تموت.
نسأل الله أن يجعل وجهه البشوش ذكرى طيبة ويجبر كسرأسرته ويربط على قلوبهم، ويلهمهم الصبر والسلوان...
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة