أفضت الجهود المصرية إلى عودة الأطراف جميعًا لطاولة التفاوض، حسبما أعلن مصدرٌ مصرى رفيع المستوى. ولعلّ نشاط الكواليس ما حال دون توسيع الانتشار الإسرائيلى فى رفح الفلسطينية، مع إدانة ما تجرّأ عليه الاحتلالُ بالفعل من الهيمنة على الجانب المُقابل للمعبر.. والحال أنّ النقاش سيتجدَّد على قاعدة الورقة المصرية، وما أحرزته وساطةُ القاهرة والدوحة خلال الأسابيع الأخيرة من تقدُّمٍ بشأن تفاصيل الهُدنة وصفقة مُبادلة الأسرى، وقد تُفضى الجولةُ الجديدة إلى تليين مواقف الحكومة العبريّة وتصلُّبها غير المُبرَّر، وصولاً لاتّفاقٍ مُقنع وقابلٍ للتطبيق فى المدى القريب؛ إنما تظلّ المُعضلة الحقيقية فى نطاقٍ أبعد من الحرب الدائرة، وأعصى على التفكيك بالحوار والمُقاربات السياسية؛ لأنها مُؤطّرة بسياجٍ منيع من الأيديولوجيا والخيارات الصفريّة، ومن اختلاف الخصمين ظاهرًا واتّفاقهما فى الجوهر؛ لناحية أنهما ينطلقان من تصوُّرٍ أُصولىّ واحد، ويعتمدان التكتيك نفسه فى النظر إلى طبيعة الصراع، وإدارة حدود الاشتباك قولاً وفعلاً. بمعنى أنهما أشبه بانعكاس الصورة فى المرآة، لدرجة أقرب إلى التفاعل الطردى الذى يتعذّر معه اللقاء المُثمر؛ فعندما يرخى أحدهما طرفَ الخيط لا يشدّه الآخر، وعندما يُصعِّد يُقابله الغريم بتصعيد أكبر.
يشتبك الوسطاء مع اشتعالٍ طارئ، وغايتهم تبريد الجبهة واستعادة أجواء الاستقرار. وعلى هذا المعنى فإنّ المُداولات كلّها مُؤقّتة ومحدودة بإنهاء المقتلة وإغاثة المنكوبين؛ أمّا الحلول طويلة المدى فإنها فى نطاقٍ فكرى وتنظيمى أبعد من حدود الميدان، وتقع على أطراف الصراع المُباشرين قبل غيرهم. وإذا كانت السلطةُ الوطنية على كلِّ ما فيها من ملاحظات، تُمثّل الجسمَ الفلسطينى المحمول على روافع وطنية صافية، ولديها صفة شرعية تُرتّبها اتفاقات أوسلو ومرجعية القرارات الدولية؛ فإن الطرف الأعلى صوتًا على الأرض ينطلق من تعريفٍ عقائدى للمسألة، وبينما يتنادى المهمومون بالقضية على صياغة أجندة جامعة؛ يبدو التحوّل المأمول مرهونًا بما يجرى من تفاعلاتٍ فى جبهة العدو. يُمكن أن ندين الانقسام وتلوين فلسطين بألوان مذهبية؛ إنما البحث عن مخارج موضوعية يتجاوز فكرةَ ترتيب البيت من الداخل، شاملاً المساحة المُلتبسة بين القاتل والضحية؛ والتى يصير فيها الضعيف مفعولاً به فى النطاق المعنوى كالمادى وأكثر، لدرجة أنه قد يستعير ذهنَ العدو ويعيد إنتاج خطاباته الحارقة.
تسرَّب الصهاينة ببطءٍ لأرض فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، وعندما فجّروا قنبلةَ التأسيس فُوجئ السكّان وجيرانهم بصيغةٍ أيديولوجية عرقية؛ فاستجابوا لها أوّل الأمر بمنطقٍ عروبىّ إسلامى فى رفض قرار التقسيم ثم فى الحرب اللاحقة. ومرّت السنوات ليطفو الخطاب اليسارى فوق النكهة التوراتية قليلاً؛ ما أنتج تحوُّلاً مُساويًا فى المقدار ومُضادًّا فى الاتجاه على جبهة المقاومة الفلسطينية. تسهُل ملاحظة ذلك بالنظر إلى حركة فتح التى تأسَّست على أكتاف وافدين من حظيرة الإخوان، سرعان ما تطوُّرت رؤاهم ومالوا ناحية الخطاب القومى، وبزغت فى تلك الحقبة «الجبهة الشعبية» جناحًا يساريًّا مُقابلاً لحزبى العمل وماباى فى تل أبيب. وفيما بعد حرب أكتوبر صعَد اليمين القومى، وطعَّم خطابَه بلمسةٍ يهودية أخذت تتصاعد حتى حلَّ التوراتيون والحريديم فى بِنية الحُكم، وفى هذا المناخ الفوضوىّ تأسَّست حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، وتضخَّمت على يد نتنياهو فى ولاياته السابقة، ثمّ وقع الصدام الكاسح حينما صارت وجهًا لوجه مع نسختها التوراتية فى حكومة الاحتلال. لعلّ لعملية طوفان الأقصى مُقدماتٍ عديدةً تمتدّ لسنوات؛ إنما ليست مُصادفةً عابرة ألّا ينفرط التحالف الضمنى الطويل سوى مع ائتلافٍ يتسلَط عليه سموتريتش وبن جفير.
خاضت المنطقةُ صراعًا داميًا مع اليمين الدينى. لم يكن مُستجدًّا على أيّة حال؛ إذ تعود مقدماته الساخنة إلى ستينيات القرن الماضى، وأطلّ برأسه على أكثر الصور فجاجةً فى حادثة اغتيال الرئيس السادات، ثمّ وصل ذروته مع موجة الثورات المُسمَّاة بالربيع العربى. والأزمة التى انعقدت فى الماضى، واستفحلت بإسناد بعض مراكز الرجعية العربية لاحقًا؛ تفكَكت من القاهرة عندما تصدّت لأجندة الإخوان، وقادت مسارًا تصحيحيًّا سرعان ما تمدَّد لتونس والمغرب والسودان وغيرها، وتآكلت حظوظ الأُصوليّين فى منطقة الخليج. هكذا دفع العربُ خطاب الرجعية الدينية خارج المشهد؛ بينما استقدمه نتنياهو إلى واجهة الدولة العبرية. فكانت المفارقة أن انحسر المدُّ الإخوانى لأدنى مستوياته التاريخية، بينما تمدّد فرعُهم الحمساوى بأثر الخبل الصهيونى، وليس لميزةٍ أو اختلاف بنيوى لدى الحركة. وباختصار؛ فإنّ توسُّع اليمين بجناحيه القومى والتوراتى عند الاحتلال، يُمهّد البيئة لاتّساعٍ مُقابل فى البيئة الفلسطينية، والتشدُّد يستدعى ما يُكافئه؛ فكأنهما يتلاقيان ضِمنيًّا على خلق مُبرِّرات الوجود لبعضهما أمام الداعمين والمُشايعين، ويتنازعان عَلنًا لتحسين شروط كلّ طرفٍ فى بيئته الداخلية.
يُقدّم رئيس الحكومة الصهيونية نُسخةً قومية رديئة؛ ربما تُبرّر ذهاب البعض إلى نزعة عربية فى مقاربة المسألة الفلسطينية، وهى فى الأصل قانونية وسياسية وأخلاقية. وبالتوازى فإنه يُنافق الحريديم والمستوطنين وحاخامات الأرثوذكس، وبقدر ما يُغريهم بالمزايا؛ يُضيف لرصيد الفصائل الإسلامية فى غزّة وبقيّة أطراف المحور الشيعى. ولا يبدو تحوُّله اليوم لاختصام حماس مُقنعًا؛ إذ سبق أن استثمر فيها على حساب السلطة الوطنية فى رام الله، وتوسّط له الأمريكيون لنقل ولايتها من دمشق للدوحة، بينما تكفَّل هو بإدخال حقائب الأموال شهريًّا من مطاراته ومنافذه على مدى سنوات. أمّا أبرز الأسباب فإنه لو كان جادًّا فى تحرير الصراع من راديكالية المُقاومة؛ فعليه أن يهزم الراديكاليين فى حكومته أوّلاً، وليس أن ينبطح أمامهم ويشترى عُمرًا إضافيًّا للائتلاف بتمكينهم من رقبة الدولة ومركز قراراتها. وإزاء انحراف الليكود وزعيمه؛ فالواجب ألّا ينساق الضحايا فى لعبة الجانى أو يعتمدوا أدواته. والمعنى أن فلسطين أحوج ما تكون اليوم لنَفض العمامة الموضوعة قهرًا على رأسها، والتحرُّر فى نطاق الرؤية والفكر قبل البحث عن مسارات القوة والسياسة الصالحة لاستيلاد الدولة عنوانًا وكيانًا. أى أن تنتقل من حيِّز الخطاب القومى الدينى، إلى مُقاربةٍ مدنية علمانية تنزع الجغرافيا من امتداداتها الخارجية، وتُخلّص الديموغرافيا من رواسب الماضى العاطفى الثقيل، وتُعيد تعريف القضية بمادّتها الأساسية: أرض سليبة، وشعب منكوب، وحقوق تُثبتها القيمُ والأخلاق والقانون الدولى، لا عرقَ أصحابها أو معتقدهم.
تصيرُ العروبة والأُصوليّة الإسلامية سبيلاً للمقاومة؛ لأنَّ العدو أراد أن يختزل الصراع فى دائرةٍ عرقية عقائدية؛ والتحرَّر الأكثر وجوبًا أن يتمرَّد الفلسطينيون أنفسهم على ابتذال المسألة الإنسانية وحصرها فى وجهٍ أيديولوجى شديد التطرُّف والانغلاق. إنَّ نتنياهو من حيث انتهاجه هذا المسار يستمرئ لعبة الاستثمار فى الفوضى، والارتداد بالبيئة الإقليمية إلى مرحلة رجعية من الولاءات القديمة، وفى المقابل تسعى دول الاعتدال العربية إلى صيغةٍ عصرية ناهضة، تتأسَّس على مفاهيم الدولة المدنية الحديثة، وعلى فكرة التنمية والتحديث، والدخول فى العصر بشروطه ومنطقه. ما يخلقُ تعارضًا بنيويًّا عميقًا بين فلسفة السلام كما تطرحها المبادرة العربية مثلاً، والرؤية الصهيونية الساعية لتسييل القضية وإبقائها مُعلّقةً، وأقصى ما تتقبّله أن تُبرِّد الجبهةَ فى كلِّ مرَة استعدادا لتسخينٍ جديد، وأن تستنزف الوقتَ والطاقة فى بديهياتٍ يُعاد تحريرها كلَّ مرة من نقطة الصفر. كأن تقفز الآن على التزامات أوسلو، وتتبعها الولايات المتحدة بإحباط الاعتراف بفلسطين فى مجلس الأمن؛ ليعود التفاوض على مسألة الدولتين نفسها، لا على ظروف وجودهما وطبيعة علاقتهما. أى أن الدولة الفلسطينية صارت موضوعًا للخلاف، وليس ترتيباتها المرحلية والمستقبلية.
ورغم التطرّف البادى من تل أبيب؛ فإنَّ حاكمَها المُتسلّط يرقص على الحبل مع حماس بنار الأُصوليّة المُتبادَلة، ويُغازل المُعتدلين ساعيًا إلى تحصيل كلّ المكاسب المُمكنة دون التزاماتٍ من جانبه. وربما شجّعه على هذا ما أنجزه ترامب قبل عدّة سنوات فى موجة التفاهمات الإبراهيمية، وما أُثير قبل شهور عن وساطة واشنطن مع السعودية؛ بغرض أن يحلَّ الاقتصادُ بديلاً عن السياسة، وأن يكون تكامل الأسواق تعويضًا عن تسوية القضية وتمكين الفلسطينيين من حقوقهم. والثابت أنه تصوّر غير مقبول عربيًّا، ولا فرصة لأن يعيش ويزدهر؛ فضلاً على أثر «طوفان الأقصى» فى إرجائه لأجل غير مُسمّى. إن إسرائيل تتشبّه بحماس، أو العكس، ويُريدان نتائج مُضادّة لكلّ ما تُوثّقه مُناطحات الأُصوليّات فى قديم التاريخ وحديثه. ومن ذلك أنهما يُبديان خلاف ما يُبطنان، ولا يتوانى كلُّ طرفٍ عن تفخيخ الإشارات مهما بدت ورديّةً ومطمئنة؛ كأن يواصل الاحتلال بطشَه بالغزّيين بينما يخوض جولات التفاوض، أو يقصف القسّاميون مُحيط كرم أبو سالم قبل موافقتهم على الهُدنة بساعات. التشدُّد الدائم من جانب الصهاينة لم يترك للفصائل مساحةً للنزول على مقتضيات التهدئة دون شعورٍ بالانكسار، وتصعيد السنوار مسَّ بكبرياء غريمه المُهدرَة أصلاً طوال سبعة أشهر؛ ونتاج ذلك أنه كلّما تراجع طرفٌ تقدّم الآخر، على طريقة القطّ والفأر فى الكرِّ والفرّ وإفساد فرص الوئام.
وإزاء الجمود الحاكم لذهنية القاتل والقتيل؛ فإنهما يضجّان بأوضاع الميدان المُستنزِفة لهما معًا، وفى الوقت نفسه يخشيان من الهُدنة كبوّابة تنفتح على غرق كلّ فريق فى أزماته الداخلية. ائتلاف اليمين فى تل أبيب سيجد نفسه أمام موسم المساءلة والحساب، وقد يضطر لانتخابات مُبكرة تطيحه خارج السلطة، وتضع رموزه فى السجون، واليمين المُقاوم فى غزة سيصطدم بمسؤولياته السياسية والأخلاقية تجاه بيئته المتضرّرة للغاية، وعجزه عن إسناد المنكوبين أو إخراجهم من محنتهم، فضلاً على تشقُّق حالة الإجماع تحت سقف الأزمة، وبدء موسم الاستهجان والنقد والخروج على شموليّة الحركة فى القطاع. لهذا يُريد نتنياهو انتصارًا كاملاً يذهب به إلى جمهوره، أو على الأقل تعليقًا مؤقتًا للحرب على أمل العودة، لتظلّ حالة الحشد والتمترس وراء القيادة على حالها؛ إمّا طلبًا لمُهلةٍ حتى موعد الاقتراع، أو لتجديد الثقة إن اختار الاحتكام للصناديق سريعًا. بينما تستهدف حماس انتزاعَ قرارٍ بالوَقف الكامل والدائم لإطلاق النار؛ لتُسوّقه فى محيطها بديلاً عن النصر الضائع، أو تعويضًا للهزيمة الساحقة. وكلاهما لا يعرف أن الميدان قد حسم المسألة مُبكّرًا على صورةٍ مُغايرة؛ فالصهاينة كسبوا فى التكتيك وخسروا فى الاستراتيجية، وحماس حرّكت عجلة القضية لكنها على الغالب سُحِقت تحتها. والمرحلة المُقبلة ستفرز تحوّلاتٍ عاصفةً فى البيئتين، تختلفان فى الوسيلة وتتفقان فى الغاية: الديمقراطية العرجاء لدى اليهود، والظروف القهرية عند الفلسطينيين.
فى الأخير.. إن بقيت المُعادلات على حالها؛ فإنّ التطرّف فى ناحيةٍ سينتخب مُعادِلَه على الجانب الآخر ويُرقّيه، وإذا نجح تيّار الوسط فى الحلول بدلاً من حكومة المخابيل؛ فربما تنضبط بعض أداءات إسرائيل، ويُلاقيها تحويرٌ فى بنية الحُكم الفلسطينية، لناحية تمكين السلطة بعد تنشيطها وإعادة هيكلتها، وإن حافظ اليمين المُتطرِّف على مواقعه القائمة؛ فسيكون الأمر إشارةً باستمرار فاعلية الأُصوليّة الإسلامية فى فضاء غزّة وخارجها، وربما تتعزَّز قبضة ما يُسمَّى «محور الممانعة» أو تعلو نبرته. وإذا كان الولايات المُتّحدة تُعبِّر عن رغبتها الدائمة فى احتواء التمدُّد الراديكالى على أرضية شيعية؛ فالطريق تبدأ من احتواء التوراتيين والعنصريين الصهاينة فى داخل الدولة العبرية أوّلاً. لا تقف الفكرة عند حدِّ النوايا والأمنيات؛ إنما تتطلَّب عملاً جادًّا لإعادة ترسيم جوهر الصراع ومُحدِّداته، وإطلاق فلسطين من محبسها العتيق، وفق أُطر سياسية وقانونية متوازنة، مع العلم بأن الاحتلال فيما بين نهر الأردن وشاطئ المتوسط؛ كأنه يُطلّ على مرآةٍ عريضة من الجانبين، وعلى قدر ما ينتهج من خياراتٍ وإجراءات، ستنعكسُ الصورةُ وترتدّ عليه من الجانب الآخر. فإن أراد الاستقرار فعليه أن يسعى إليه، وإن أراد السلام فعليه أن يبدأ به، وإن كان مُغرمًا بالذهاب إلى حافة الهاوية واعتناق سردية الوجود الدائم على فوهة البركان؛ فسيجد ما يُناسب خياراته ويُعادل توحُّشه. اليمين اليهودى الصهيونى خطرٌ على نفسه؛ بأكثر ممَّا يُهدِّد الآخرين، وإذا قصَّر أغبياءُ الحكم فى تل أبيب عن الفهم؛ فالمسؤولية على عاتق رُعاتهم أن يُبصّروهم أوّلاً، ثمّ يردُّونهم عن المُغامرة التى لن تنتهى إلى خير أبدًا.