العالم الروائي الجيد هو ذلك الذي يمسك بك ويدخلك في تفاصيله، فتفرح وتحزن وتخاف وتشفق وتكره وتحب وتتمنى وتحذر، وهذا ما حدث لي مع رواية "تاج شمس" للروائي والكاتب هاني القط، والصادرة عن بيت الحكمة.
يمتد في رواية تاج شمس نفس ملحمي لا يغفله القارئ أبدًا، كما أنها رواية عن "المصائر" تلك التي تتحول وتتبدل طوال الوقت، فلا يقين في هذه الرواية، ولا نقطة ثابتة سوى شخصية "الجليلة"، أما الآخرون فيجمعون الشك بالإيمان، ويختلط لديهم الصالح بالطالح، لذا نسير مع الشخصيات ولا نعرف أين تنتهي.
والملاحظ أن الرواية تحتوى عددًا كبيرًا من الشخصيات، جميعها فاعلة ومؤثرة في أحداث الرواية التي تتحدى الزمن، وبالطبع لن نستطيع أن نتتبع جميع الشخصيات، لكن يمكن التوقف عند أنماط من الشخصيات المختلفة التي قدمتها الرواية:
عبد الحي الشهير بالميت
استوقفتني شخصية "الميت" الذي راح يتكشف مع الوقت، إنه شخصية مركبة من حيث الوصف الجسدي والشعور النفسي، شخصية تتطور مع الوقت، ومع ذلك يظل القلق يطارده، والرغبة في الوصول تؤرقه.
يمتاز الميت، الذي نعرف قرب النهاية أن اسمه "عبد الحي" بالسعي الدائم، فهو لا يتوقف عن المحاولة، حتى إن بدا مسيرًا في حياته.
أطلقت عليه أمه "شرقاوية" اسم الميت كي ينجو من الموت، وبالفعل اقترب من الموت كثيرا ونجا منه، وراح يأنس بالموتى ولا يرتاح مع الأحياء.
وامتازت شخصيته بأنها "متطرفة"؛ اقترب من الحسية حتى النهاية وتحول لرمز في ذلك، واقترب من الروحانية حتى شفت روحه ورأى ما لم يراه غيره.
قنديل .. المتطهر بالنار
رجل لا تشبه بداياته نهاياته، تحولت حياته وتبدلت من رجل عرف رذائل الحياة إلى رجل سكن فراديس المحبة والقدرة، ومر بتجربة الموت ثم تطهر بالنار، وخرج قادرًا على قول الحق وفعله، وظل إلى النهاية يعرف ما لا يعرف الآخرون.
وفي ظني أن "هاني القط" لم يرسم لنا تلك الشخصية كي تصبح رمزًا بل هي من فرضت نفسها، بل في ظني أنها فرضت تحولاتها في السرد أيضًا، وقد يكون "هاني القط" قد تفاجأ مثلنا كلما تقدم في الكتابة عن قنديل، الذي جعلنا في نهاية الرواية ننسى أنه كان خمار القرية المتغافل عن كل قيمة.
مبروك.. خلفة السوء
كلما ظهر مبروك في الرواية، فكرت في المصائر "الغريبة"، كيف أن الإنسان يحلم بولد يرثه ويكون سندًا له، فيأتي ولدٌ عاقٌ لا يعرف قيمة ولا يقيم وزنًا لمعنى.
كما أن شخصية "مبروك" بها قدر كبير من التحولات، فتحول من ذلك "المُهان" الذي يستقل به الناس إلى ذلك "المُهاب" الذي يخشونه ويتقون شره.
والغريب أنني في لحظة ما رضيت "انتقامه" ورأيته العدل، لكن مع الوقت سرقه "الشر" وأدخله في دوامة من الضياع.
مختار.. الطفولة المميتة
شخصية مختار واحدة من الشخصيات المكتملة فنيًا، المكتوبة من الميلاد إلى الموت، والكاشفة كيف يكون الإنسان ضحية طفولته المؤلمة، فلم ينس "مختار" ما جرى له في الطفولة، رغم تغير الأزمان والأحداث، ورغم أن الدنيا قد دانت له، لكن الناس الذين غفلوا عن موت أمه وما جرى لأبيه، لم يسامحهم قط.
ومن جانب آخر يظل مختار النموذج الأكثر اكتمالًا في كشف ما تحدثه السلطة بالإنسان، وكيف أن السلطة عندما تسري في الواحد فينا مسرى الدم يُعيد تفسير العالم على أساس منصبه ومكانته، فيرى الجميع متآمرًا، ويمد يد الأذى لكل من يحيط به، ولا يعرف الحب سبيلًا إلى قلبه.
الجليلة.. المبصرة
هي بصورة أو أخرى "زرقاء اليمامة" التي ترى ما لا يرى الآخرون، وتظل كلمتها "لكل شيء أوان" هي الحاكمة لإيقاع الرواية، ولحركة شخصياتها التي تتجاوز الخمسين شخصية، فالجميع يسعى إلى أوانه.
**
هذه بعض الشخصيات التي أردت أن أتوقف أمامها كنماذج على حسن الصنعة التي قام بها هاني القط في "تاج شمس" بعالمها الأسطوري الذي يشبه قصه قادمة من ألف ليلة وليلة، وفي الوقت نفسه نشعر بحس الواقعية منتشرًا في أرجائها.
أما اللغة فمن الواضح أن هاني القط كان مدركا لأهمية هذه الرواية، فلم يتساهل في شيء من بنائها، ومن ذلك اللغة، التي يرى أنها عامل مهم في العمل الروائي فلم يرض أن تأتي إخبارية فقط، بل احتفظ بتلك اللغة المفعمة بالمعاني الممسوسة بالشعر.
وفي النهاية أقول إن كل ما أشرنا إليه هو جانب من فنيات وجماليات "تاج شمس" التي تحمل مفاتيح كثيرة، وتستحق قراءات متعددة تكشف عن فنياتها وجمالياتها.