يبدو التوقيت هو أكثر العوامل المهمة التي ينبغي الارتكاز عليها في المرحلة الراهنة، في حقبة العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، والذي سوف يترتب عليه العديد من الأمور، ربما أبرزها مستقبل المعركة الدائرة، وإمكانية النجاح فيما يتعلق بالوصول إلى وقف إطلاق النار، أو على الأقل هدنة طويلة نسبيا، على أساس صفقة تقوم على تبادل الأسرى بين الدولة العبرية والفصائل الفلسطينية، خاصة وأن المسألة باتت تتخذ مناح عدة ربما لم تكن متوقعة على الإطلاق، لا تقتصر على مجرد تغيير المواقف الدولية، وإنما ارتبطت في جزء كبير منها بخطوات عملية، على غرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل دول كبيرة في أوروبا الغربية، وارتباك الشارع السياسي في إسرائيل، جراء العجز عن تحرير الرهائن، بل ووصلت التعقيدات إلى داخل أروقة حكومة نتنياهو في ظل انقسام صارخ يهدد بقائها، وما بين هذا وذاك، من انتصارات قضائية لصالح فلسطين.
إلا أن الاتكاء على الانتصارات سالفة الذكر، دون إدراك خطورة عامل الزمن، وما يرتبط بالمرحلة المقبلة من أحداث من شأنها تغيير دفة الأمور، يمثل خطيئة، تصل إلى حد "الكبائر" السياسية، خاصة من قبل الجانب الفلسطيني، فالوصول إلى وقف إطلاق النار، ولو بصورة مؤقتة، وإن كان أولوية لحظية قصوى، فإن لملمة الوضع الفلسطيني الداخل، على الجانب الآخر، هو بمثابة أمر طارئ لا يقل أهمية، في ضوء مسارات عدة، منها ما يرتبط بالقضية نفسها، وهو ما يدور في الأساس حول أهمية وجود سلطة شرعية يمكنها تمثيل فلسطين، في أية مفاوضات مستقبلية، وهو ما يساهم في تعزيز أحد أهم أركان الدولة، والتي سعت إسرائيل إلى تقويضها منذ أكثر من عقدين من الزمان، عبر تأجيج الانقسام.
ولعل جانب السلطة ليس المستهدف الوحيد من قبل إسرائيل، من خلال الانقسام الفلسطيني، وإنما يرتبط بركن آخر من أركان الدولة، وهو الأرض، عبر تحقيق انفصال بين الإدارة الحاكمة في الضفة ومثيلتها في قطاع غزة، وهو ما تحقق فعلا منذ عام 2007، بينما يبقى العدوان الأخير مرتبطا بالحلقة الأخيرة من حلقات القضاء على حلم الدولة، عبر دعوات التهجير، لتجريد الأرض من أهلها والسلطة من شعبها.
بينما يبقى المسار الآخر، مرتبطا بالمدى الزمني القريب، في ضوء اقتراب الانتخابات الأمريكية، ورهان الدولة العبرية على عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي حملت إدارته انسجاما ملحوظا مع الدولة العبرية، وتحديدا مع رئيس وزراءها الحالي بنيامين نتنياهو، وهو ما يمثل أحد أهم أهداف الأخير وراء رغبته الملحة في إطالة أمد الحرب في غزة، خاصة وأن مواقف بايدن، وإن كانت تتماهى مع ثوابت الدبلوماسية الأمريكية الداعمة لتل أبيب، لكنها ثمة خلافات تبدو كبيرة، فيما يتعلق بإدارة نتنياهو للمعركة، وما آلت عنه من خسائر كبيرة لإسرائيل على المستوى الميداني أو السياسي أو الدبلوماسي، ناهيك عما تسببت فيه من حرج أخلاقي للولايات المتحدة، جراء دعمها المطلق لحليفتها في الشرق الأوسط، في العديد من المحافل الدولية، رغم ما يرتكب من مجازر قوضت في واقع الأمر الشعارات التي طالما تبنتها واشنطن فيما يتعلق بالدفاع عن حقوق الإنسان.
والحديث عن احتمالات عودة ترامب للبيت الأبيض، وهي في واقع الأمر تبدو كبيرة، في ظل الوضع المنقسم في فلسطين، يمثل معضلة كبيرة، خاصة أمام الفصائل، والتي ربما لديها رهاناتها الإقليمية، للبقاء في الصورة خلال المرحلة المقبلة، والتي تدفعها في بعض المراحل إلى إبراز قدر من التعنت في المفاوضات، حيث تبقى أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانتصار لفلسطين ومستقبلها، أو الانتصار لمكاسب شخصية وحزبية ضيقة، وهو ما يعني التضحية بدماء المزيد والمزيد من المدنيين الفلسطينيين، بل وتعزيز الرؤية الإسرائيلية القائمة على دفع سكان القطاع نحو الهرب من جحيم القصف المتواتر، مما يقوض في نهاية المطاف حلم الدولة المنشودة، وبالتالي حزمة الانتصارات التي تحققت خلال الأشهر الماضية.
وفي الواقع، تبدو ثمة حقائق ينبغي أن يدركها جميع أطراف الصراع في غزة، فالفصائل ينبغي أن تدرك أن السلطة الفلسطينية تبقى الكيان الشرعي الوحيد الذي يحق له تمثيل الفلسطينيين كما ان المحيط العربي يبقى الداعم الرئيسي للقضية، بينما إسرائيل ينبغي أن تدرك أن غزة جزء من فلسطين، ولا ينبغي النظر إليها بعيدا عن الدولة المستقبلية، وأن الفصائل تبقى مكون رئيسي من مكونات الشعب الفلسطيني، في حين تبقى السلطة الفلسطينية نفسها في حاجة ملحة إلى لملمة البيت من الداخل، والعمل يدا بيد مع الجميع، سواء مع الدول العربية، أو أطراف المعادلة السياسية في فلسطين، من أجل إعادة بناء غزة، وتحقيق الاستقرار في الداخل، تمهيدا لخوض مفاوضات صعبة.
وهنا يمكننا القول بأن كل المعطيات السابقة، حال استثمارها في نطاقها الزمني الصحيح، ستمثل خطوة عملاقة على طريق البناء على ما تحقق من انتصارات للقضية الفلسطينية، حيث يبقى توحيد الصف الفلسطيني، وكذلك تعزيز التعاون مع الدول العربية، أولويات قصوى، في المرحلة المقبلة، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في المستقبل القريب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة