استغاث الخديو توفيق بالسلطان العثمانى عبدالحميد، ليساعده فى إخماد الثورة العرابية بقيادة أحمد عرابى، فبعث بوفد فى يونيو 1882 على رأسه مصطفى درويش باشا، حسبما يذكر الإمام محمد عبده فى مذكراته، وتكون الوفد من 58 شخصا بتقدير عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى».
كان درويش باشا من كبار رجال الدولة العثمانية، وفقا لداود بركات رئيس تحرير الأهرام فى كتابه «الثورة العرابية بعد خمسين عاما - رؤية صحيفة الأهرام»، مضيفا: «اشتهر بدهائه وواسع حيلته وبرشوته وحبه للمال، وكان ذكيا كبيرا، ومهمته حسب إعلان الباب العالى، إعادة النظام إلى البلاد المصرية وصيانة الحالة الموجودة، وتأييد سلطة الخديو بالبحث والإرشاد، وفى حالة الحاجة والاضطرار يبلغ «عرابى» بإلغاء مجلس شورى النواب ودعوة الجنود التركية إلى مصر.
كان الإنجليزى «بلنت» صديقا للعرابيين، وقريبا من عرابى والإمام محمد عبده، ويكشف فى كتابه «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا لمصر»، أن قصة حضور درويش باشا لمصر تتلخص فى رغبة إنجلترا إلى الباب العالى أن يتدخل للتخلص من «عرابى»، وكان هذا التدخل قائما على الأساليب التركية القديمة المنطوية على الخيانة والغدر، منها أن إغراء درويش لـ«عرابى» بالنزول فى إحدى السفن حتى إذا استقلها أبحرت به إلى الآستانة، وإذا لم ينجح هذا التدبير يدعو «عرابى» إلى اجتماع ثم يقتله بنفسه، وكان «درويش» من حيث الخلق والسوابق يوافق على هذه المهمة.
يكشف «بلنت» أن السلطان العثمانى كون الوفد المقبل إلى مصر بتعيين وكيلين متعارضين فى الخطة، فإلى جانب «درويش» شخص آخر يدعى الشيخ أحمد أسعد إمام المحمل التركى ونائب الخليفة، وكان من مشايخ الطرق فى الآستانة، ويستخدمه السلطان فى المهمات الخاصة بالمسائل العربية، وكان هذا الشيخ مواليا لـ«عرابى».
وصلت البعثة إلى الإسكندرية يوم 7 يونيو 1882، ويذكر داود بركات: «فى 8 يونيو 1882 قصد درويش محطة السكة الحديدية، يحف به جمهور لا يحصى عدده من عامة الشعب ويهتفون: «نصر الله دين الإسلام، أهلك الله دين الكفار»، ووقف القطار فى طنطا، فنزل درويش ومن معه وزار المقام الأحمدى، وألقى هناك خطابا ترجمه الشيخ أسعد، ولما وصل إلى القاهرة بذل كل فريق «الخديو، والعرابين» ما عنده من الجهد للحفاوة به»، وينقل «بركات» عن الإمام محمد عبده أن «درويش» التقى بالخديو توفيق فى 10 يونيو، مثل هذا اليوم، 1882، واتهمته الأوساط المصرية بأن الخديو أرشاه بخمسين ألف جنيه وحلى بمبلغ 28 ألف جنيه، وقيل إن الإنجليز اشتروا منه مزرعة صغيرة فى بلغاريا بثمن فاحش ونفحوه بالهدايا الفاخرة، وأنه لم يفتر من ذلك الحين عن إعلان اشمئزازه من الضباط.
بعد اجتماع «درويش» مع الخديو، اجتمع بـ«عرابى» ومحمود سامى البارودى ووزراء آخرين، ويذكر «بلنت» أنه خاطبهم بواسطة مترجم وبلهجة المصالحة، بالرغم من أنه لم يقدم لهم القهوة أو السجائر، لكنه أجلسهم بجواره، وقال: «إننا هنا جميعا إخوان لأننا أبناء السلطان، ويمكنكما أن تنظرا إلى وإلى هذه اللحية البيضاء باعتبارى أبا لكما، ثم إن قصدنا جميعا واحد، وهو مقاومة الأجانب ومبارحة الأسطول الذى يهدد سلامة القطر المصرى «الأسطول الإنجليزى الموجود فى البحر المتوسط قبالة الإسكندرية»، ويجلب العار بوجوده هنا على السلطان، فالواجب علينا أن ننظر إلى هذه الغاية «وهنا وجه الخطاب إلى عرابى»: تنازل عن سلطتك لى ولو فى الظاهر، وتسافر أنت إلى الآستانة لكى ترضى السلطان».
يؤكد «بلنت» أن عرابى أجاب بأنه مستعد لأن يستقيل إذا تسلم خطابا تدون فيه إقالته، وتتضمن تبرئته مما عزى إليه، ثم إنه يؤجل سفره إلى الآستانة لوقت تكون هدأت فيه الحالة، وعندئذ يذهب باعتباره أحد أفراد المسلمين ليقدم فروض الطاعة.
يذكر داود بركات قصة لها مغزى حدثت أثناء اللقاء، قائلا: عند دخول عرابى والبارودى كان درويش جالسا تجاه الشباك ينظر إلى القلعة، وقال للبارودى إن منظر القلعة من أجمل المناظر، ثم التفت إلى لبيب أفندى، وطلب منه أن يتم حكاية قتل محمد على للماليك، ولما أتم لبيب أفندى الحكاية، قال درويش لعرابى: إن هذا الكلب الذى نجا إنما هو نجا بأعجوبة، فذهلا وخرجا بين أمرين، إما الخضوع للخديو وإما عصيان السلطان، وليس لهاتين الحالتين من حالة ثالثة، ولكن مذبحة الإسكندرية يوم 11 يونيو كانت تلك الحالة الثالثة التى لم تخطر على بال، تفجرت بمشاجرة بسيطة بين مالطى وعربجى مصرى، وأدت إلى مقتل مائتى شخص قتلوا ومائتى أوروبى، وأصيب قناصل بريطانيا واليونان وإيطاليا، وكان هذا الاضطراب أول حدث من نوعه بعد عام من الثورة فى مصر، ويرى «بلنت» أن هذه المذبحة جاءت بتدبير لم يكن «درويش» بعيدا عنه، لإثبات أن «عرابى» غير قادر على حفظ النظام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة