من أجمل المشاهد التي نراها في أي بلد في العالم هو الرحلات المدرسية للمواقع الثقافية سواء كانت أثرية مفتوحة أو متاحف أو معارض فن تشكيلي أو حتى أماكن طبيعية ذات لمسة جمالية، والحقيقة أن مصر تملك كل هذه الأشياء بكثرة، ولو وزعت على كثير من الدول لكانت تكفيها .
كانت تلك الرحلات جزءا مهما من المسيرة التعليمية، تظل ذكرياتها محفورة في عقل ووجدان كل طفل وشاب، وهي أيضا تزرع في الشخصية المصرية وعي وفخر بالانتماء إليها وإدراك أهميتها، ولعل هذا ما جعل الأجيال السابقة مرتبطة ارتباطاً وثيقا بقيمة الوطن وقدره .
منذ أيام قليلة شاهدت على أحد قنوات الدول العربية لقطات لأطفال صغار وقد اصطحبهم مدرسيهم إلى معرض تاريخي يقام في بلدهم ، ويقوم المدرسين بالشرح وتوصيل المعلومات للأطفال الصغار ، وقد لفت نظري أن هذا المشهد أصبحنا لا نراه في مصر كثيراً، صحيح أن المدارس تقوم بعمل رحلات في كل عام ولكن هناك نوعان من الرحلات.
النوع الأول، وهو المدارس الحكومية، التي تقوم بقليل من هذه الرحلات من باب أن الإدارة التعليمية ووزارة التعليم تطالب كل مدرسة بعمل نشاط مدرسي والرحلات هي أحد تلك الأنشطة ، لكن إدراك أهمية تثقيف الطفل وتوسيع مداركه ليس في الحسبان، فهناك أمور أهم في تحصيل المواد العلمية ، لهذا فان حصص التربية الرياضية والموسيقى والرسم لا داعي لها من الأساس، وهي إضاعة للوقت ، وحتى تحصيل المواد العلمية ليست المدرسة هي المصدر الوحيد أو حتى الأهم له ، فهناك الدروس الخصوصية وهناك المراكز الكثيفة لتحصيل الدروس والتي تعد أعجوبة من أعاجيب هذا الزمان!
أما النوع الثاني، فهو في المدارس الخاصة والدولية أو المدارس الأجنبية، والتي تعمل في جزر منعزلة عن هذا الوطن ، لكنها ملتحمة بأوطان أخرى أجنبية بعيدة عن مجتمعنا، فطلابها في الأساس يدرسون تاريخ البلاد التي تنتمي لها هذه المدارس، والرحلات الصيفية تتوجه لهذه البلاد، ويتحدثون داخل هذه المدارس لغات غير اللغة العربية، بل إن طلابها يتحدثون فيما بينهم بلغة المدرسة الأجنبية ، وهذه كارثة أخرى صنعت عزلة فوق العزلة لطلاب هذه المدارس وخلقت طبقية وقضت على الهوية المصرية.
مدارس النوع الثاني رحلاتها تتوجه إلى الملاهي والأماكن الترفيهية والألعاب التافهة، ناهيك عما يتقاضونه من مبالغ طائلة من الأهل ، فوق ما يتقاضونه من مصاريف سنوية جنونية لا قبل لأحد بها ، وفوق طاقة أي أحد مهما كانت إمكاناته ، لم أسمع أبدا أن هناك مدرسة من تلك المدارس قد نظمت رحلة إلى معرض الكتاب أو حفل صباحي في الأوبرا أو معرض فن تشكيلي.
لا أنسى أبدا منذ عدة سنوات كنت في زيارة لشقيقي في ڤيينا ، وكان ابنه الأكبر ما يزال طفلا في المرحلة الابتدائية وحكى لي بعد أن عاد من المدرسة أنه قضى يومه مع بقية الفصل في معرض لبيكاسو ، وكان موضوعه السلام ، وأخذ الطفل الصغير يتحدث معي عن مفهوم السلام وعن أسلوب بيكاسو ، يومها حزنت على أطفال مصر الذين يملكون ثروات طائلة من الجمال والفن والتاريخ والثقافة، ولا يشاهدون من حولهم إلا ما هو غث ورديء . التعليم وحده لا يكفي مهما استقام ، ولا أعرف إن كان هناك بروتوكول تعاون بين وزارتي التعليم والثقافة يوفر لطلبة المدارس المصرية بصورة دائمة تسهيل وتوفير كل الطرق والوسائل التي تجعل تردد طلاب مصر فرادى وجماعات للمواقع الثقافية أمرا ميسورا أم لا ، وإذا كان هناك بالفعل ما يوفر هذه الإمكانات فيجب تفعيلها والعمل على ترسيخها واستمرارها والاستفادة منها، هناك أمور كثيرة في بناء الشخصية المصرية يجب التنبه لها فوراً والعمل على تصحيحها، حتى لا تكون الشخصية المصرية في خطر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة