منذ القرن التاسع عشر بدأت في مصر نهضة تعليمية اعتمدت على البعثات، وعلى المبعوثين الذين عادوا من أوربا ولديهم تصور واضح عن الأثر الذي يمكن أن تحدثه الثقافة في أي مجتمع، فعملوا على نشر الوعي والقراءة، حين بدأت المطابع عملها في النصف الأول من ذلك القرن، وبدأت المكتبات العامة والصحف والمدارس في التأسيس لمجتمع يعلي من قيمة الوعي والثقافة.
وبالتوازي مع هذا، وربما قبله كانت فكرة القومية المصرية تزداد رسوخا في نفوس أبنائها، وكانت طريقتهم للتعبير عن تلك القومية هي تطوير ذلك المجتمع بالعلم والثقافة، حيث كان وعي المصريين بفكرة الثقافة يخرج بها عن مجرد حدود المعرفة والمعلومات، إلى الوعي الكامل بكل ما يحيط بالإنسان، وهو ما توازى كذلك مع نشأة علم المصريات الذي دعم تلك الفكرة بوضوح.
أتساءل الآن، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف على ترسيخ تلك الرؤية الواضحة، كيف تحول تعريفنا المجتمعي للثقافة لتصبح محصورة في المعلومات، لتزيد برامج مسابقات المعلومات، ويصبح الفوز فيها علامة على ثقافة الفرد، وهي المعلومات التي صارت بين أيدينا على شبكة الإنترنت ولا نحتاج لحفظها بهذا الشكل، كما أتساءل عن السبب في ترسيخ فكرة أن المثقف هو فقط من يعمل بالكتابة الإبداعية عموما، في أي فجوة زمنية تم قصر التعريفات بهذا الشكل، فصارت محدودة للغاية، وصار أثرها بالتالي أكثر محدودية، لينحصر أثر النخبة المثقفة على نفسها بفعل فاعل.
هذه التساؤلات التي أظن أنها مشروعة تأتي في الوقت الذي استرحنا فيه لتعريفات الثقافة الضيقة، وهو الوقت نفسه الذي قدمت فيه المؤسسة الثقافية في إحدى الدول الشقيقة مدعومة من مثقفيها مبادرة أسمتها "الشريك الأدبي"، هذه المبادرة التي اتخذت لنفسها شعارا هو "الثقافة أسلوب حياة"، وتمثلت المبادرة في خلق شكل تنافسي بين المقاهي الخاصة على لقب أفضل شريك أدبي، عن طريق تقديم هذه المقاهي لمجموعة من الفعاليات الثقافية لمرتاديها بالصورة التي تهمهم ويحبونها، وأفضل مقهى هو الذي يقدم برنامجا متكاملا، ويقدم تلك الخدمة الثقافية لأكبر عدد ممكن من رواده، وقد تنوعت الفعاليات بين الندوات وقراءات الكتب والجلسات الفنية وجلسات الاستماع، ليرى الجمهور عن قرب كيف يمكن للثقافة أن تكون مبهجة ومفيدة في نطاقها الواسع وفي نفس الوقت.
بالطبع لا أحلم الآن باستنساخ مثل هذه المبادرات، لكني أتوقف عند إرادة واضحة لجعل الثقافة مؤثرة في المجتمع وأتساءل عن تلك الروح التي كانت أساسا لبناء النهضة المصرية، تلك الروح التي جعلت من كل مقاهينا في الماضي مقاه ثقافية، أين ذهبت؟ وما الذي حل محلها؟، وهل أتمنى عودتها بصورة أو بأخرى في وقت قريب؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة