خسارة كبيرة لحقت بنا، مؤخرًا، فقد صمت المفكر الكبير نعوم تشومسكي، وأصيب بما يجعله يتوقف عن الكلام، وما حدث هو تطور فى الحالة الصحية للفيلسوف والمفكر فى عامه الـ(95)، حيث كان قد أصيب بسكتة دماغية فى 2023، لكنه اليوم تأثر صوته، وسكت تمامًا، وخسرنا صوتًا حرًا، كان يعرف الحق والعدل، ويدافع عن المظلومين ويكشف وهن منظومة الصهاينة، ويوضح للعالم كله أخطاءه، بل كان يدين العالم، ويخبرنا بأن الجميع تآمر على فلسطين، وأن الغرب يكيل بمكيالين، حيث قال إن "المفارقة هى أن قصة فلسطين منذ البداية وحتى اليوم هى قصة بسيطة للاستعمار والتشريد، ومع ذلك فإن العالم يتعامل معها على أنها قصة متعددة الأوجه ومعقدة ويصعب فهمها، بل ويصعب حلها"، نعم أيها المفكر الكبير هم يعرفون أنها قضية بسيطة عن اغتصاب الأرض والاستعمار القبيح، لكنهم لا يريدون أن يعترفوا بذلك.
وتأتى قيمة نعوم تشومسكى من كونه فيلسوفا ومفكرا عالميا وأشهر علماء اللغة فى العصر الحديث، يعرفه الجميع ويحترمون أقواله، وكذلك من كونه يهوديا يعرف الصواب والخطأ، ولم ينجرف مع التيار "المخزي" الذى نراه فى الغرب الآن، بل إنه دائما ما يقول للغولة "عينك حمراء" ولم يخش شيئا، لذا صاح: "إسرائيل فقدت عقلها".
ربما لا يعرف الكثيرون أن نعوم تشومسكى، وعلى الرغم من كونه يهوديا، فقد منعوه من دخول إسرائيل، حدث ذلك فى عام 2010، بعدما ظل ينتظر طويلاً عند معبر "اللنبي" بين الأردن والضفة الغربية، وفى النهاية تم إبلاغه بأنه لن يسمح له بالدخول، فهم يخشون محاضراته التى يتحدث فيها عما حدث فى فلسطين، وما قام به جيش الاحتلال منذ البداية، حيث يصف نكبة 48 فيقول "العالم كان يراقب ولم يفعل شيئًا، وحدث تهجير قسرى جماعى لـ750 ألف شخص (نصف سكان المنطقة)، وتم تدمير أكثر من خمسمائة قرية، وهدم عشرات المدن فى عام 1948".
لقد انشغل نعوم تشومسكى بالقضية الفلسطينية وقدم كتابا بعنوان "عن فلسطين" بالمشاركة مع إيلان بابيه، وفيه طالب بأن يتم الضغط على أمريكا وإسرائيل فى كل المحافل الدولية، لأنه يرى أن حديث إسرائيل وأمريكا عن السلام مجرد "وهم" وحيلة للمماطلة حتى تستولى إسرائيل على أراضٍ أكثر وتضمها إليها، وطالب بمقاطعة إسرائيل وأن هذا هو الحل الأقوى، ورأى أن الأفضل هو مقاطعة أمريكا أيضا، لأنها الظهير القوى للمحتل.
إن صمت نعوم تشومسكى الآن يحمل دلالة كبرى، أفهمها على أساس أنها إشارة لتراجع الحق وإفساح المجال للباطل، وهو ما يجرى بالفعل، فالأصوات العاقلة مثل تشومسكى تتراجع لصالح قساة القلوب، المتضامنين مع الظالم، وهو ما يعنى أن القضية فى طريقها للتعقيد أكثر وليس الحل.
إننا نفقد الأصوات الأجمل فى الحياة، وينتشر الرعب بيننا، ولعل آخر ما أقوله فى هذا الموضوع ما نقلته وكالات الأنباء عن زوجه تشومسكى "فاليريا" التى وصفت حالته للصحف فقالت "إنه يتابع الأخبار، وعندما يرى صور الحرب فى غزة يرفع ذراعه اليسرى، فى إشارة رثاء وغضب".