إن التأمل والتمعن في مشهد يوم عرفة الذي يُعد الركن الأعظم في الحج، يرى من ملامح الإنسانية ما لا يراه في موقفٍ قط؛ فهذا اليوم المهيب يتجمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في صورةٍ بهيةٍ منظمةٍ ومهيبةٍ تقوم على التضامن وفقه ماهية الأخوة الإنسانية الصحيحة التي تجعل الكبير والصغير والشاب والعجوز من الجنسين في حالةٍ من المساواة والروحانية غير المسبوقة.
وفي تلك الوقفة المهيبة تتجلى قيمةٌ إنسانيةٌ فطرنا الله عليها؛ ألا وهي المساواة بين بني البشر في مكانٍ يجتمع فيه من يؤدون الشعيرة؛ فلا فرقةٍ يحكمها مالٌ، أو جنسٌ، أو عرقٌ، أو لونٌ؛ فالأمل في هذا اليوم والرجاء طلب المغفرة والقبول من صاحب الملكوت والجبروت؛ فليس لماهية الاجتماعية ومستوياتها المشوبة مكان ومقدار على أرض عرفة الطاهرة.
وتتجلى صورة الإنسانية في اليوم المشهود من خلال صفو الوجدان والأذهان والتنزه عن أمور الدنيا الفانية وإخلاص النية والتمسك برباط الله الوثيق؛ حيث طلب المغفرة والغفران والعفو؛ أملًا في شمول عفو لكل من وطأت قدمه هذا الموضع الشريف، كما يتجدد الأمل في النفوس في ضوء تجديد العهد مع صاحب العزة العلي القدير لبدأ الإنسان حياةً مليئةً بفيض السماحة والتراحم وفعل الخيرات وهجر المنكرات.
وعطفًا على ما سبق من خلال وقفة عرفة يدرك الإنسان سر وجوده على الأرض الكائن في الاستخلاف الذي يقوم على فلسفة الإعمار والتعمير ما بقيت السماوات والأرض؛ فتلك أمانةٌ عظيمةٌ تحملها بنو البشر، وهذا يحقق غاية المقصد وأسباب ومسببات الحياة التي ينبغي أن يدور جل التفكير حول فلك العمل والبناء؛ فعندما تسمو الروح وتخلص النية ويصلح المسعى فإن مقومات الخير قد توافرت في الإنسانية قاطبة.
ونرى في هذا اليوم العظيم أن لغة التفاهم والحوار باتت سهلة المنال لتوحد المقصد والغاية، وهذا يؤكد على أن الطبيعية الإنسانية تنحو في فطرتها للتعارف والإيخاء والمحبة والتسامح والتفاهم رغم تباين اللغة، ومن ثم ينغرس في الأذهان أن الوحدة والتعاون سر البقاء في المجتمعات وبين أفرادها، وأن قوة الوحدة تكمن في تماسك وترابط النسيج البشري وفي المقابل تعد الفرقة والتشرذم بدايةً للهلاك والفناء دون شكٍ ففي الاتحاد قوةٌ.
إن نجاح تواصل الإنسان مع أخيه محققٌ بصورةٍ جليةٍ، وقد رسمته ملامح يوم عرفة بكل وضوحٍ ويسرٍ؛ فنرصده جليًا في سهولة التواصل والتجمع المنظم وتبادل الخبرات والمنفعة والإيثار والصبر وتقديم المساعدة ابتغاء وجه الله؛ فما أعظمه من يومٍ تتفتح فيه القلوب لتستوعب بعضها البعض، وتتقد الأفئدة لروحانياتٍ غير مسبوقةٍ؛ حيث الدعاء والرجاء المتصل لرب العالمين.
وفي هذا اليوم المشهود تعقد جلسات الدعاء مجتمعة أو منفردة لتطلب الرحمة والعفو وتتجلى من خلالها قيمة الخلق الحسن والذي نشاهده في طيب الكلم والحوار الذي يطرب المسامع ويهذب النفس، كما نرى تأصيل لقيمة الرحمة والتراحم والتي تبدو واضحةً في تقديم يد العون والمساعدة على الفور لمن يحتاج إليها؛ فما أعظمها من مثوبةٍ يطلبها ويسعى إليها الجميع.
إن مظاهر الخير وصور المحبة الحاضة على الخير نشاهدها في إنسانيةٍ تشارك بعضها البعض في عبادة الدعاء وتحاور في أمور الدين وتقوية العلاقات الإنسانية؛ فلا جهالةٌ أو خروجٌ لأمور الدنيا ولكن توجهٌ وخشوعٌ لله عز وجل؛ فالجميع يسعى لسمو الروح وطلب المثوبة من الله جل في علاه، ومن خلال فعاليات هذا اليوم تبنى علاقات طيبة قوية بين الحجاج؛ فيصير التعارف متصلًا حبًا في الله لا أكثر.
وطبيعة الإنسان تحثه دومًا أن يقف مع نفسه كي يقومها ومن ثم يتذوق حلاوة الإيمان ويعتاد فعل الخيرات، ويأتي يوم عرفة ليستعيد هذا الإنسان ذاته فيعاود تقييم حياته وتحديد أولويته والتخطيط لطرائق الهداية وبلوغ الغاية من خلال طاعات أمر الله بها وتجنب معاصٍ وسلوكياتٍ نهي الله عنها؛ فاليقين أضحى متعلقًا بالسعي بغية مرضاة الله تعالى في القول وترجمته لأعمالٍ، فما أجمل أن نصلح النوايا ويقترن القول بالعمل، ليمتلئ السجل بالخيرات وتمحى الذنوب والآثام بفضلٍ ورضوانٍ من العلي القدير سبحانه وتعالي.
حفظ الله بلادنا شعبا العظيم، ووعد الله كل مشتاق لزيارة بيته الحرام.