حازم حسين

يتيم فى ملابس الإحرام.. عن الأضحى وطقوسه بين أب راحل وتاريخ مقيم

الأحد، 16 يونيو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

صعد مئاتُ الآلاف إلى عرفات وهبطوا، لا شىءَ هناك يتفوَّق على اللون الأبيض، بينما القلوبُ شَتّى فى ألوانها، وهكذا حالُ البشر فى الطاعات وغيرها. عيدٌ تتجدَّد معه الآمالُ فى أن يسودَ العالمَ قَدرٌ من السكينة والوئام، وأن تدور رَحَى الأيّام على كلِّ ذنبٍ ومَشقَّة ودناوةِ نَفسٍ؛ فتطحن السيِّئ فينا وتستبقى ما أراده الله من الفِطرة السويَّة، والمحبَّة الصافية، والتراحُم الذى لا يُفرِّق بين قريبٍ وبعيد، أو مُقتدرٍ وعاجز. كثيرةٌ رسائلُ الحجِّ، وأكثر منها فى طقس الأُضحية برمزيَّته ومعانيه الروحيّة، وبالتقاطُعات الدينيّة التى لا تنفصلُ فيه عن نزاعات السياسة، وإنْ تراءى لنا أن نُغلقَ الدائرةَ على أنفسنا، وأنْ نمنحَ الدينىَّ صِفةً طُهرانيّةً صافية، ونهجوَ الدنيوىَّ كما لو أنه طارئٌ على العَيش وسُموِّ الاعتقاد. وفيما بين الجوهرىِّ من الحدثِ والمظهرىِّ فى تفاصيله؛ كأنَّ لسانَ حالنا ينشدُ مع المتنبى دَاليَّتِه الشهيرة: «عِيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ/ بما مَضَى أمْ لأمرٍ فيك تَجديدُ».


جاءت الأديانُ لتَرُدَّ الناسَ إلى أُصولهم الصافية؛ لكنهم ما ارتدّوا ولا منحوها مساحةَ الفِعل الكافيةَ فى نفوسهم. والأَصلُ أنَّنا من ماءٍ واحد، وعقائدنا جميعًا من مِشكاةٍ واحدة؛ فعَلَامَ الشِّقاقُ واختصام الإرادات؟ إنما القانونُ المُجرَّد يُنشئ قِيَمًا مِعياريّةً ومراكزَ معنويّةً مُتساوية؛ وما التلوُّن واختلاف الحال، بطابع الوقت والعِرق والتفاوُت على ميزان القوَّة؛ إلَّا تعبيرًا عن انحرافٍ فى قراءة الرسالة، وتحريفٍ لمَرامِيها، واحترافٍ فى مُراوغتها والانفلات من قيودها الناعمة. الحَجُّ لحظةُ انكشافٍ بين السماء والأرض، واتّضاعٌ أمامَ الله وملكوته العريض، ووقوفٌ على المُشترَك الإنسانىِّ الذى لا يُخلى مكانًا لتنَطُّعٍ أو استعلاء، ولا يخلو دِينٌ من القيمة نفسِها وإنْ أخَذَت شكلاً آخر. كُلّنا لآدمَ وهو من التُّرابِ وإليه؛ لكنَّ الشيطان يكمُن فى التفاصيل، وبعضُ تفاصيلنا قُدِحَت من النار، فأكلت المُضغةَ الطيِّبةَ فى أرواحنا، وتركت طِينتَنا جافّةً مُتصلِّبة، تُعيدنا الطقوسُ إلى المنابع الأُولى، وتأخذُنا عوارضُ الحياة إلى شلَّالاتٍ هادرة، والدموع التى تُلطِّفُ خُشونتَنا فى لحظات الصَّفو؛ كأنها تزيدُ بأسَ الطوفان الذى يحوطنا فى ساعات الكَدَر.


لطالما ارتبطَ الأضحى فى مِخيالى بالافتقاد والوَحشة. جوهرُ المسألة مَلىءٌ بالنورانيّة واللُطف الإلهىِّ؛ إذ السماء تحنو على أبٍ طائعٍ استلَّ سِكِّينَه ليُنفذَ ما رآه أمرًا عُلويًّا مُقدَّسًا، فتُخلِّص أُبوَّته الصادقة المؤمنة من عبء التجنِّى على العاطفة الإنسانية ورباط الدم. قبلها طُرِحَ الطفلُ وأُمّه فى وادٍ غير ذى زَرعٍ؛ فكان الانقطاع الذى يخدشُ الرُّوحَ ويُعلِّم بالوحدة والغَيبَة القاهرة. وما يزالُ الأثرُ نفسُه باقيًا؛ فاستحصالُ البركة الكاملة يُوجِبُ السياحةَ فى الأرض، ومُفارقةَ الدار والأهل إلى الرحاب المُقدَّسة. كأنَّ الحاجّ الذى يذهب إلى الله تاركًا من ورائه بيتًا وعائلة، يُعيدُ قصَّة النبى إبراهيم بتمامها، ويُكرِّر مُعاناة إسماعيل فى نُسَخٍ أُخرى تفتقدُ بهجةَ العيد وحلاوة طقوسه الجامعة. أمَّا أنا؛ فقد عاينتُ المناسبةَ على صورةٍ أشدّ خشونةً. كان ذلك قبل اثنتين وثلاثين سنة، وسُنون الهجرة تلفُّ مع تقويم الميلاد لفَّةً كاملةً كلَّ ثُلث القرن تقريبًا؛ فكأننا اليومَ نعيشُ الأيّامَ نفسَها فى ربيع وصيف 1992. مات أبى الطيِّب فجأةً فجر الخميس 23 مايو، وعلى مسافة أقلِّ من ثلاثة أسابيع من موسم الحجِّ والعيد، وقد حلَّ سَنتَها يوم السبت 11 يونيو.. كنتُ طِفلاً ما تجاوزَ التاسعةَ بعد؛ فلم أعرف ماهيّةَ الفراق المُوجِع، أو أُعاين آثارَه ثقيلةَ الوَطء على موعدها، لكنَّنى عَرفتُ من يومها أنَّ الله يصطفى الأطهار فى موسمه المبارك؛ فمنهم من يُسافر ويعود، ومنهم من يُحرِمُ إحرامًا نهائيًّا من دون عَودة.


أسلمَ الرجلُ الخمسينىُّ رُوحَه بينما كان جيرانُه وصحابتُه يَحزمون حقائبَهم ويرحلون إلى الأرض الطاهرة.. استشعرتُ كأنه ذاهبٌ فى رحلة التلبية والتكبير، وعندما حلَّت أيّام الاحتفال فى «عرفة» وبعدها، كانت شاشةُ التليفزيون تقذفُ سيلاً لا نهايةَ له من المُتسربلين بملابسهم البيضاء، وأطفالُ القرية وكبارُها فَرِحين مُهلِّلين، وبيتُنا وحده يتَّشح بالسواد ولا تعلو فيه أصوات التهانى والتكبيرات. انطبعَ فى ذهنى أننا أُسرةٌ حُجَّاجُها من صنفٍ آخر، وأنَّ الموسمَ الجليل حينما وزَّع الأنصبةَ على الناس؛ منحَهم جميعًا كَبْشَ النَّبِيّين وشُعورَ الطمأنينة بالوَعد السماوىِّ، واختصَّنا بمشاعر هاجر وإسماعيل فى سنوات الفَقد وغياب إبراهيم. وكان شعورُ الوقوف أمام شاهد القبر بينما يقفُ الحجيج على عرفات ثمَّ فى مزدلفة، وتدفُّق الأَيدى تمسحُ على رأسى كيَتيمٍ لا يعرفُ أنه قُطِعَ من شجرته، إلباسًا لليوم الطيِّب البَهىِّ لباسَ الحُزن والانكسار. وقد كبرتُ وأَخَذَتْ المشاهدُ القديمةُ حَيِّزًا لا يتضاءلُ فى الذاكرة، واتَّسعت معانيها بأعمق ممَّا كنتُ أَعيه فى شَطرِها الأوَّل.
فى المسافة بين الرُّؤيا الإبراهيمية والفداء الإلهىِّ، قطعتْ البشريّةُ سَفرًا طويلاً فى فلسفة الاعتقاد والتقرُّب من السماء. كأنهما كانا يُنهيان قرونًا من القرابين الآدميّة؛ باستثناء أبى الذى ظلَّ من يومها ذَبيحًا فى وعى الطفل الذى كُنتُه، لا أعرفُ مَنْ ذَبحَه ولا قُربَى لِمَن؛ إنما امتلأتُ بإحساسِ أنَّه أُخِذَ على غِرّةٍ مِنّا، وأنه لَبَّى النداءَ طائعًا كما لو أنه يفتدى آخرين برُوحِه، أو يُسلِمُ رقبتَه للأمر العلىِّ إيقانًا بصدقِ الرُّؤيا وتحقيقًا لكمال الطاعة. والحال أننا إذ نُقيمُ الشعائر اليومَ  على مسافة قرونٍ من أصلِها، وعُقودٍ من تمثُّلها فى صورةِ أبى؛ فالأرضُ لم تَخلُ بعد من القرابين البشرية التى ينحرُها بشرٌ آخرون بالمُخالفة لإرادة خالقهم جميعًا، وما المقتلةُ الدائرةُ فى غزَّة إلَّا تكرارًا بدائيًّا لِمَا كان عليه الناس قبل إبراهيم وإسماعيل، وما استشعرتُه فى طفولتى بضربةِ القدر المَوقوت، ويُصيب أكبادَ الأطفال فى القطاع بشهوة نتنياهو والسنوار، ومُقارعات السيوف الحديدية والخشبية على منصَّةِ قتالٍ غير مُتكافئ.


انقضتْ ثمانيةُ أشهُرٍ وافتُتِحَ التاسعُ، ومئاتُ أُلوف الغزِّيين بين مطرقة الصهاينة وسِندان القسَّاميِّين. يسعى الاحتلالُ بكلِّ ما فى طاقته من بأسٍ وغُشومةٍ للتنكيل بالأبرياء، وكَىِّ الوعى وُصولاً لترميم صورة الرَّدع التى تشقَّقت وكُنِسَت شظاياها أمام «طوفان الأقصى». أمَّا قادةُ «حماس» فى الأنفاق؛ فإنهم يخوضون معركةً صفريّةً كاملة، عنوانها البقاء تحت رحمة الجنون، أو رَفع شارة النصر فوق رُكام الأطلال والجُثَث. وعلى ما نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» قبل أيَّامٍ من مُحتوى رسائل «السنوار» لقادة الحركة السياسيِّين فى الخارج؛ فإنه يضعُ القرابينَ البشريّة على قَدم المساواة مع الغايات الأيديولوجية، ولا يستنكفُ أن يسوقَ الناس كالأضاحى فى كربلائيّةٍ ننزفُ فيه الدمَ ونكسبُ الدعايات، وندفعُ باللحمِ الحىِّ كُلفةَ ما نطلبُه من الإضرار بصورة العدو وأخلاقيّاته؛ كما لو أنه أخلاقىٌّ ومَعنىٌّ بصورته أصلاً. مأساةٌ عنوانها الوحشيّة والاستخفاف؛ كأنَّ الغريمين اليَميِنيِّين يختلفان فى كلِّ شىءٍ تقريبًا، ويتّفقان على جوهرٍ واحدٍ لفكرة الأُضحية، ومُرادٍ بائس من ورائها: القاتلُ يصرفُ قُوَّتَه العاريةَ فى رقاب المنكوبين طَلبًا للنصر المُستحيل، ومندوبُ القَتلى يُترجِم ضَعفَه ذبائحَ وإعاقاتٍ؛ على أمل أن يُحبِطَ عَمَلَ الطرف الغاشم، وأن يضبطَ مُفردات السَّرديّة على هوى تيَّارِه الذى يلبَسُ الأَسودَ فى مَوسم الإحرام وبياضه الشاهق.


ليس تعسُّفًا أن نربطَ روحانيَّة الأُضحية فى السعودية بترجمتها المادية المُحرَّفة فى غزَّة. إنّه نِزاعٌ ثقافىٌّ وتاريخانىّ قبل أن يكون على الجغرافيا والأوطان، وواقع الحال أنَّ العيدَ ليس بعيدًا من المذبحة؛ لو وَصَلنا الحاضرَ الماثل بالماضى البعيد. لقد سعى اليهودُ إلى سرقة الحكاية العقائدية فى أَصلِها؛ فقالوا إنهم نَسلُ الذبيح «إسحاق»، والسماء افتَدَت جدَّهم/ الأخَ الأكبر، وليس جدَّنا/ الأصغر «إسماعيل». ثمَّ استكملوا مسيرةَ السطو بأن منحوا بركةَ البُكورةِ ليعقوب على حساب شقيقه عيسو، عندما احتالوا بجلدِ الماعز المُشعِر على شيخوخة إسحاق وضَعف بصرِه. وهكذا انتقلَ العهدُ السماوىُّ فى مرويَّتهم من إبراهيم لليهود، بالتزييف ثمَّ بالكذب البواح، وعلى الأثر ساروا فى مطامعهم لابتلاع فلسطين؛ فرتَّبوا لأنفسهم حقوقًا تاريخيّة عقائديةً فيما بين النهر والبحر، وشَرّعوا لسكاكينهم أنْ تختصمَ إسماعيل بأثرٍ رجعىٍّ؛ إنما فى نسله والمُنتمين إليه ثقافيًّا وإيمانيًّا. وهكذا؛ فبينما يقتفى حُجّاجُنا خُطى أبى الأنبياء فى مكَّة، فإنَّ أبناء العَمّ يُعايرون حِجَّتهم على ميزانٍ آخر فى إقليم الأقصى، وينحرون سلسالَ الذبيح الأصلىِّ تثبيتًا لأُسطورة الذبيح المُلفَّق.


القِيمةُ الأَسمى التى نُحصِّلها من رحلة الحج وتمثُّلاتها أننا ذاهبون إلى الله فى كلِّ الأحوال، عُراةً من كلِّ جَاهٍ ومَستورين بما فى قلوبنا من تصديقٍ وتسليم. أمَّا أُضحيات الصهيونية فإنها تضعُ السِّكّين فى يدِ الشيطان، وتستدرجُ أبناءَ إسماعيل ليُقيِّدوا بعضَهم على مذبح العدوِّ الغاشم. وصراعُ الروايات إنما ينشأُ فى الحيِّز بين الأيديولوجيا والعِرق؛ فالقضيّةُ الإنسانية التى أُلبِسَت بالقَهرِ رداءً عقائديًّا، صارت محلَّ تنازُعٍ بين مُتضادّين ظاهرًا، مُتّفقين فى الجوهر والغاية. نتنياهو يقتلُ لأجل أن يمنح الجغرافيا لونًا واحدًا، والسنوار يتقبَّل المقتلةَ راضيًا للغَرضِ نفسه، ورأسُ المحور الشيعىِّ يشهدُ على المذبحة وهو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ بل يُمرِّر مشروعَه الصفوىَّ من قناةٍ دينيّة مذهبيّة، ولعلَّه يخاصِمُ العربَ المُسلمين بقدرِ ما يختصمُ اليهودَ الصهاينة. وقد لا ينفصلُ ذلك عن سنواتٍ كان الناسُ يذهبون لالتماس ظِلِّ السماء فى مكَّة، بينما يُرسلُ الشِّيعة حُجَّاجهم للتظاهُر والتشغيب واستدعاء نزاعات الأرض فى البُقعة المُحرَّمة، وقد هدَّد آحادهم بشىء مُشابهٍ هذا العام وحذَّرتهم سُلطات المملكة. سيَّان أن يموت العُبّادُ العُراة تحت أقدام ميليشيات الإيمان المُنظَّمة فوق جسر الجمرات وغيره، وأن يُنحَر العُزّلُ الآمنون فى أنحاء الضفّة وغزّة؛ فشياطينُ العمائم السوداء التى حرَّكت الأُولى ماثلةٌ بالقُلنسوات وأوراق التوراة والتلمود الدامية فى الثانية، والأدواتُ التى نفَّذت دَهسًا هناك، تُنفِّذ بالتخندُق والأهداف الغائمة هُنا. المُشترَكُ أننا ننقلبُ على أعقابنا، وبعدما افتدانا اللهُ بذبحٍ عظيمٍ فى مشهد إبراهيم وابنه، عُدنا لتقديم أنفُسِنا أُضحياتٍ بشريّة بين الصهاينة والمُمانعين.


مات أبى على مرمى حجرٍ من العيد، وترك غُصَّةً لم تُغادر مَرارتُها حَلقى من يومها. وكُلّما يموتُ رضيعٌ أو امرأةٌ فى غزّة المنكوبة، أُعاين معنىً جديدًا للوَحشة واليُتم وانقطاع السُّبل مع الأَحِبّة. أرى نفسى طِفلاً بين أطلال القطاع، كما كُنتُ أمام شاهد القبر قبل ثلاثة عقود، ومَنْ تبقَّى حَيًّا من الغزِّيين يمسحُ شعرى كما كان الجيرانُ يفعلون، وأبى هناك لن يعود أيضًا؛ لأنه أَحرَمَ إلى غيابٍ طويل، وليس فى حِجَّةٍ مَوقوتةٍ آخرها الغُفران والإياب. لستُ فَرِحًا بالعيد؛ لأننى فُطِمْتُ فيه على صَبّار المقابر، وقضاء الجديد منه بملابس القديم؛ إنما لا ألومُ الفَرِحين ولا أُزايدُ عليهم فى ابتهاجهم؛ ربّما أتمنَّى فقط أن أعودَ مِثلَهم، وأن أكونَ قَادرًا على القفز فوق مشاعر طفلٍ غادر والدُه الدارَ تلبيةً للنداء، وذهبَ لمُناجاةِ الله من أرضه المُقدَّسة، تاركًا وراءه عِيالاً لم يُحصِّلوا حَظَّهم مثلَه من روحانيّة اليوم، ولم يجدوا من يصطحبُهم للصلاة ويمنحُهم العِيديَّات. لعلَّها رُومانسيّةٌ مُفرطة؛ لكنها تُعيد تعريفَ المشقَّة فى الطقس المُقدَّس على وجهٍ أكثر إنسانيّةً واحترامًا لضَعف البشر وأحزانهم العادية.


في السنوات الماضية كنت أُعوّض شيئًا من طفولتى المبتورة مع الأعياد بطقسٍ اجتماعىٍّ مُستحدَث. عادةٌ طيِّبة استَنَّها رئيسُ الدولة أن يحتفل مع أبناء الشهداء وذويهم فى نهاية شهر رمضان؛ فكنت أتسمَّرُ أمام شاشات التليفزيون لأحتفلَ مع المُحتفلين، وأستعيدَ أجواء كل عيدٍ قضيته بين المقابر، بينما كنتُ فى أَمَسّ الحاجة لأنه أبتهِجَ وألعبَ كما يلعبُ الصغار جميعًا. كنتُ أغتبطُ بأن أشهدَ إخوتى اليتامى يقتصّون من الموت مُلتَئمين معًا، ومُستندين لأُبوَّةٍ تسدُّ مَوضعَ الجدار الصُّلب الذى تهدَّم فى بيوتهم. صحيح أنها حالةُ محصورةٌ فى عيد الفِطر؛ إنما أحسبُ أن آثارها كانت تظلُّ سيَّارةً وفاعلة فى الأضحى، كما لو أنَّ صغارَها يتصبّرون بروائح الحفل السابق، وصُورة الأب الحاضر الذى قد يُفاجئهم فى أيّة لحظة. والجديد أنَّ الرئيس يُؤدِّى فريضَته بين ضيوف الله، لتأخذَ العادةُ شكلَ الانقطاع بمعناه الزمانى والمكانى، وإن كنتُ أتمنَّى حِجًّا مَبرورًا لصاحب التجربة الإنسانية الأثيرة والآسرة لمجامع قلبى، وعاطفتى المُوزَّعة بين البُنوّة المُتألِّمة قديمًا، والأُبوّة الهشَّة اليوم؛ وقد صرت والدًا لطفلةٍ تفتحُ وعيَها على بُستان الفَرَح بذاكرةٍ بيضاء؛ فإننى أُشفِقُ على صغارٍ ربما حلموا باللقاء على غير موعدةٍ، وكانوا يترقّبون احتمالَ المُفاجأةِ وأن ينخرطوا فيها بالمُشاركة المُباشرة، أو بالمُشاهدة البعيدة مثلما أفعل.


نحتفل بنجاة إسماعيل، وللمُصادفة أنّه اسمُ جَدّى؛ فكأنَّ السهمَ الذى أخطأ أبانا الأوَّل أصاب أبى المُباشرَ. انكسرَ عمودُ الخيمة قبل أن أستند إليه؛ فكان أقربَ لكَبْش الفداء من بُنوّة المَفْدِى. وهكذا يبدو أنَّ لكلِّ ناجٍ أُضحيتَه؛ فكأنَّ إسماعيل الحمساوىَّ مثلاً ينجو على حساب الغزِّيين، ونتنياهو على جسد القضية كلِّها، والحُجَّاج الوُدعاء على خواطر أطفال يفتقدون آباءهم، وكُلُّنا نَنْحَرُ ونُنْحَرُ بالتساوى؛ كما لو أننا مُضحّون فى ناحيةٍ وأُضحياتٌ فى غيرها.. ولا يمنعُ ثِقَل الحاضرِ أن نبتهجَ به، ولا أن نستعيد مَواضينا بأفراحها وأتراحها، ونغبط ضيوفَ الرحمن ونتعشَّم أن نعقُبَهم إلى ذُرى القبول والرحمة. إنه موعدٌ للقاء الله؛ أكان على عرفات أم على قبرِ أبٍ راحل، وبالثبات أمام عواصف الواقع العاتية أم الانكسار بجروحِ التاريخ النازفة؛ فالعيدُ آتٍ فى كلِّ حال، ولن ترُدَّه أحزانُنا أو يستبقيَه شَوقُنا للفرح الشحيح. نُقيمُ سُنّة الله فى دنياه وحَسب؛ وجميعُنا يتامى فى ملابس الإحرام؛ لأنَّ لكلٍّ منّا ذَبيحتَه وعِيدَه المسروق، والأبيض الذى يُولَد به الحُجّاج هناك، له معنى الأكفان التى يُقبَر بها الموتى هنا، وفى غزّة وكل مكان، والقبر ميلادٌ جديد أيضًا.. إنها نقطة الكَشف التى تتساوى فيها النشوةُ والشجن، فيتركُ الوجعُ القاتم طَعمًا لاذعًا كالفرحةُ الصارخة، ونطوى صدورَنا على ما فيها من صَفوٍ وكَدَر؛ لنتبادلَ التهانى على معنى التَّمَنّى لا الإقرار. طقوسٌ تُبدِّلنا جيلاً بعد جيل؛ فنَفْنَى ولا ينطفى وهجُها. عيدٌ سعيد، وكلُّ عام وأنتم بخير.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة