اليوم يحتفل مهرجان جمعية الفيلم للسينما المصرية بمئوية ميلاد سامية جمال التي تمر هذا العام، أن يأت الاحتفال في اليوبيل الذهبي للمهرجان فإنه لأمر رائع، مثير ويستحق التقدير، وإن تضاربت مواعيد ميلاد سامية، وهذا أمر له علاقة بأزمة التوثيق والأرشفة التي لا تخفى على أحد، بل قد تبدو أحيانًا فخًا يصيب بهوس الاحتمالات لا الحقائق، ومن هذه النقطة قال البعض على حسب المواقع الإليكترونية والأرشيف الصحفي أن ميلاد سامية كان في العام 1921 ، والبعض الأخر أكد أنه كان في العام 1924، بينما سامية جمال نفسها رجحت كفة هذا البعض الأخر عندما ظهرت في منتصف السبعينيات مع الإعلامي طارق حبيب ببرنامجه الشهير "اتنين على الهوا"، إذ قالت أنها من مواليد عام 1924، لتحسم التضارب ذاته ونمتثل نحن لكلام صاحبة الشأن والميلاد.
أسعدني الحظ والناشر وائل الملا بأن أقدم كتابًا أتتبع فيه مسيرة فنانة وراقصة على أكثر من مستوى، وأتلمس الحالات الاجتماعية والسياسية والفنية في مرحلة مهمة من تاريخنا المصري، وكيف كانت لها أثرها في تكوين شخصيتها، من طفولتها المتعبة في بيئة صعبة وصولًا إلى شهرتها التي تجاوزت المحلية إلى العالمية كواحدة من أبرز رموز الرقص الشرقي، محاولة لمعرفة المرأة التي أتعبتها كل قصص الحب، ولها من روح الفراشة نصيب، وإدراك أنها هي ذاتها النجمة التي ابتعدت عن الأضواء وانزوت في ركنها الخاص دون أن تحدق في الظلال حتى لا تحس بنبض الخسارة، هي الراقصة التي فاضت حياتها بتفاصيل نسجت روحًا تفلت من "التقليدي" لترقص على إيقاعها الحر، هي سامية جمال.
من هذه الزاوية، كنت دائمًا أنظر إليها.. امرأة خيالية، واضحة كجبل، غامضة كبئر. تعيش حياتها كفراشة لديها نفسية مقاتل في واقع شرس، أذكى من دون كيشوت، لم تحارب طواحين الهواء ولم تواجه عراقيل الدنيا بحصان هزيل أو بسلاح أصابه الصدأ. ثمة خديعة لطيفة كانت تجيدها وهي كيف تُخفي مأساتها وراء ابتسامتها الخاطفة التي تبرز في كل صورها، تُداري الوجع وتمس التناقضات الكثيرة في حياتها: الفقر والثراء، الحرمان والعطاء، النجومية والعزلة.
لم أهتم بطريقتها في الرقص أو بحضورها على شاشة السينما ولا التأويل من الأساس لـ"تكنيك" ما يخصها في الأداء التعبيري أو الأثر الذي تركته في تاريخ الرقص أو التمثيل، فلا هي تحية كاريوكا الراقصة والمناضلة السياسية التي أغوت مفكرًا مثل إدوارد سعيد ليكتب عنها كأسطورة من أساطير شبابه، ولا هي جريتا جاربو التي استفزت الفيلسوف والناقد الأدبي والمُنظر الاجتماعي الفرنسي رولان بارت ليكتب بأسلوب شعري "وجه جريتا جاربو"عن فنانة ذائعة الصيت والشهرة الشعبية، واصفًا إياه بأنه ذلك الشيء الخرافي بامتياز، معتبرًا أنه الوجه شديد الخصوصية الذي "يمثل لحظة هشة عندما كانت السينما على وشك أن تنتزع المظهر الوجودي من الجمال الجوهري، عندما يميل النموذج الأصلي نحو فتنة الوجوه الفانية، عندما صفاء الجسد كجوهر يخلي مكانه لغنائية المرأة"، حسب ترجمة الناقد البحريني أمين صالح، ولم تمتلك حظ بريجيت باردو لتؤلف عنها الكاتبة الوجودية سيمون دي بوفوار كتابًا يستعرضها كظاهرة نفسية وعاطفية استحوذت على المجتمع لأسباب اقتصادية واجتماعية. لكنني توقفت عند صورة سامية جمال التي تنعكس في مرايا الحياة والفن وتبدو أنها متعددة الأبعاد يمكن النظر إليها من أي زاوية، بينما رأيتها تثبت على بعد محوري واحد مسرف في غموضه ورمادية لونه، فخلف ابتسامتها العريضة التي تخرج من شفتيها الممتلئتين، يسكن اللغز وتتمدد خيوط النفس الحزينة، إذ تحاول أن تتدبر أمرها لتخرج من الشرنقة شرقًا وغربًا فيما تتطلع إلى فضاء أوسع ولا شأن لها بما يخبئه المصير، أو بمعنى آخر إنها كالصبار، كما وصفها الناقد كمال رمزي، نبات يحفر طريقه بين الصخور في الأجواء الموحشة، يكون غالبًا أكثر قوة وأشد تمسكًا بالبقاء.
كنت لازلت طالبة، خطواتي الأولى مرتبكة بين دراستي الجامعية في علم النفس وبين عملي في الصحافة، قبل رحيلها بسنتين تقريبًا حين اتصلت بها في العام 1992 لإجراء حوار صحفي معها، مدفوعة بعنفوان البدايات وبسامية جمال كنموذج لنساء أشعلن الوهج بفتيل أحزانهن، هذه السلالة من النساء التي تحسب أنك تعرفها مثل كتاب مفتوح، امرأة تعيش بنبض عاطفتها، لكن هناك دائمًا باب مغلق تلوذ به من الواقع، يرى البعض أن غموضها هو غموض الخائف الذي يعبر البحر بين موجتين، قد يكون هذا تفسير معقول لم يُحملها أكثر من وُسعها، ولم ينقصني هذا التفسير حين سمعت صوتها عبر التليفون في المرة الوحيدة التي هاتفتها، كانت قد آثرت الانزواء بعيدًا عن الأضواء منذ فترة، مخبأ آخر للفراشة يحميها من قوانين النجومية القاسية التي تُسلط الضوء على النجم في مرحلة ما، ثم يخفت هذا الضوء تدريجيًا ويتلاشى بعد ذلك ويعاني النجم من الأفول كأنه يُكمل دورة كونية.
أرادت سامية جمال بعزلتها أن تحتفظ بصورتها في الذاكرة الشعبية، وإن كانت كسرت هذه الصورة بظهورها مجددًا عندما أقنعها الفنان سمير صبري بالعودة إلى الرقص وهي في الستين من عمرها، إلا أنها سرعان ما عادت إلى الاختباء مستعينة بقدرتها على التحمل والتأمل من وراء ستار، وهو ما حاولت أن تشرحه لي ببساطة في مكالمتنا الهاتفية الوحيدة، صوتها المبحوح شديد الأنوثة تخللته ضحكات أشاعت لحظات من الألفة، بينما كنت أحاصرها وأحاول إقناعها بإجراء الحوار الصحفي ولا أترك لها أي مجال أو فرصة للإعتذار، فوافقت على مقابلتنا وحددتها بعد أسبوع حين تنتهي من بعض الإصلاحات الصغيرة في بيتها كما أخبرتني حينذاك.. لا زال وقع كلماتها ينبض في الذاكرة، لا يتبع بدقة مقولة جوزيه ساراماجو: "إذا توقفنا لنفكر في الأشياء الصغيرة سنصل لفهم الأشياء الكبيرة"، بل ليحقق المفارقة الدرامية التي حدثت، فتوافق سامية جمال على لقائنا الصحفي في الوقت الذي أنسى أنا هذا الموعد الذي تمنيته وذلك بعد حدث جلل وهو زلزال 12 أكتوبر 1992 المهول.
تهت في أحداث زلزال أكتوبر وما نجم عنه من كوارث، وقبلها كنا كلنا ضائعون بداية من حرب الخليج الثانية ودخول العراق الكويت في العام 1990، العاصفة التي اجتاحت العالم العربي وجعلته على حافة التمزق، هذا غير العمليات الإرهابية المتتالية ضد السائحين الأجانب في مصر والتي تصاعدت عامًا بعد الآخر، ولما تعلقت أعيننا بانتفاضة عمال كفر الدوار في سبتمبر 1994، باغتنا الإرهابي الذي غرس "المطواة" في رقبة نجيب محفوظ يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994 أمام منزله بالعجوزة، ثم بعدها بشهر تقريبًا ضربت مصر كلها موجة مفاجئة من الأمطار شديدة الغزارة فيما عرف باسم سيول 1994، لم تشهدها مصر منذ أكثر من 60 سنة، كما صرحت هيئة الأرصاد وقتذاك.. كان جسد البلد يقاوم السيول والإرهاب، وجسد سامية جمال يتداعى أمام المرض حتى شعرت بصفعة وجدانية لأنني نسيت أن أعاود الاتصال بها حين قرأت خبر رحيلها في الصحف، لينسدل الفضاء على معاناة كاملة التكوين لابنة "ونا القس" القرية الصغيرة بمركز الواسطى في محافظة بني سويف، ربيبة حواري الأزهر والسيدة زينب التي فرت هاربة منها تاركة الفقر والتعذيب لتبدأ مشوار الفن والنجومية والسفر والحب والشائعات والزواج والطلاق والاعتزال، من كازينو بديعة مصابني إلى شاشة السينما ورصيد يزيد عن 70 فيلمًا، من علاقتها بفريد الأطرش والملك فاروق وزواجها من الأمريكي شيبارد كينج إلى زواجها من رشدي أباظة إلى الاعتزال والطلاق والعودة مرة أخرى مع فرقة سمير صبري ثم الاختفاء والرحيل.
منذ طفولتها ساورت زينت خليل إبراهيم، اسمها قبل احتراف الفن، الشُكوك في أن الدنيا بها أكثر مما تعيشه في قرية صغيرة أو في غرفة فوق سطوح حارة ضيقة بشارع الأزهر، كانت تستطيع أن ترى ذلك في أحلامها وخلال نوبات بكائها بعد "علقة ساخنة" من زوجة الأب ومن الأب ذاته، ظلت هذه الشكوك تلازمها وتزيد حتى تحولت إلى يقين، كانت تراه مجسدًا أمامها حين تنفرد إلى نفسها وتنصت إلى حفيف أجنحة الفراشات التي تطير برشاقة حولها وتخرج من إطارها المكاني، هذا الحفيف كان يستدرجها إلى الضوء كأنه يوميء لها بضرورة مغادرة الظلال، حياتها التي تلونت بالأبيض والأسود كقصص الحواديت القديمة قبل أن تخرج إلى عالم الشهرة والأضواء.. كان لابد لها من هذا الترحال حتى يكون لها قصة.
تجاوزت فشلها الأول في عالم الرقص لأنها صدقت أن لديها الحق في النجاح، وعلى هذا الأساس وضعت بتلقائية استراتيجيتها لحياتها الجديدة بدأتها بقروش قليلة منحتها لمدرب الرقص إيزاك ديكسون، ثم دخولها المتمهل إلى عالم السينما بأدوار صغيرة، بل كانت أصغر من اللازم أحيانًا، وسط المجاميع في تابلوه راقص داخل فيلم ما، حتى ازدهر نجمها في الأفلام المشتركة مع فريد الأطرش، وتوالت أفلامها وهي ذكية، جامحة، جريئة وإن تباين أداؤها ليظل فتحها الأعظم في عالم الرقص هو مزجها بين الشرقي والغربي والذي ميزها بينما كانت تتوق لخطوات مختلفة عن العادي، واعتبرت أن كل شيء ممكن في الرقص، الجسد خارج نطاق تكوينه العادي صار أخف وزنًا، واتسع له فضاء كان يؤّمن له الحركة بصخب الموسيقى وإيقاع النفس والروح الحرة في تلك اللحظة الخاطفة التي ابتسمت فيها لصوت قديم ظل يشاكسها وهو حفيف فراشاتها.. تلك كانت فتنتها التي جذبت الشاعر الكبير إبراهيم ناجى ليستلهم منها ويكتب قصيدته "بالله.. مالي ومالك"، ليقول فيها:
يا من تمنيت شعرًا يكون كفء جمالك
وليس فى الكون شعر أراه كفئًا لذلك
عفو القوافى وعذرًا إن قصرت فى سؤالك
حاولت وصفك لما رأيت نور هلالك
فحررت ما قلت شيئًا يليق باستقبالك
يا فتنة فوق ظنى بالله ما لى وما لك.