عزلت سيدة الغناء العربى أم كلثوم نفسها فى بدروم فيلتها بالزمالك أيام هزيمة 5 يونيو 1967، وكانت تلك عادتها حينما تداهمها الأحزان، وبعد تفكير طويل رأت أن هزيمة الروح المصرية أكثر خطورة من الهزيمة العسكرية، وإذا كانت الجولة الأولى من الصدام انتهت بالنكسة العسكرية المروعة المؤقتة، فإن المعركة على المدى البعيد فرضت على المصريين ضرورة ثبات الروح المصرية وإزالة آثار العدوان على المستويين المادى والنفسى، حسبما يذكر الكاتب الباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
يؤكد «جمال» أن أم كلثوم أدركت أهمية دورها، فبعد أن كانت مطربة عظيمة تلهب الحماس بصوتها قبل المعركة، وتشيع النشوة والطرب بغنائها فى أيام السلم، جاء دورها لتعيد للروح المصرية ثباتها، أو كما قالت هى عن تلك اللحظة: «عندئذ رأيت فى صوتى رغبة فى الانطلاق، وأصبح غنائى مجندا لهدف عظيم قادم، بتحويل الهزيمة إلى انتصار والثأر من النكسة، يضيف «جمال»: «تحولت أم كلثوم إلى المكافحة التى لا تهدأ لحظة، ولا تكف عن الحركة، ولا تبالى بقواعد النظام الصارم الذى سبق ووضعته لحياتها الفنية ومن قبلها حياتها الخاصة».
شهد يوم، 20 يونيو، مثل هذا اليوم، 1967 حدثا من أم كلثوم يعد تدشينا لحملتها غير المسبوقة لصالح دعم المجهود الحربى، وفقا لتأكيد كريم جمال، حيث قامت بتحويل شيك بمبلغ 20 ألف جنيه إسترلينى إلى خزانة الدولة المصرية، تلقته من الكويت مقابل إذاعة بعض تسجيلاتها الغنائية هناك، ولم يعلن ذلك إلا بعد أن سرب خبره أحد العاملين بوزارة المالية للصحافة المصرية، وكتب تفاصيله الكاتب الصحفى موصى صبرى فى مقال بصحيفة «الأخبار» يوم 27 يونيو 1967.
حمل مقال موسى صبرى عنوان «خذوا القدوة من أم كلثوم»، المنشور بالصفحة الأخيرة بالأخبار، وقال فيه: «عندما بدأت الأزمة تبرعت أم كلثوم بخمسة آلاف جنيه، وبإيراد عشر حفلات للمجهود الحربى، ولم تتصل بأى صحيفة لتنشر هذا الخبر، ولكنه أذيع فى قائمة التبرعات، وعندما واجهنا قسوة الأيام الأخيرة حولت أم كلثوم شيكا بمبلغ عشرين ألف جنيه إسترلينى إلى خزانة الدولة، ولم ينشر هذا الخبر إلا عندما اكتشفه أحد الزملاء فى وزارة الخزانة - المالية».
يضيف: «وفريد الأطرش الذى يعانى الإفلاس ومرض الموت طلب من وكيله فى القاهرة أن يتبرع بألف جنيه»، كان فريد وقتئذ يقيم فى لبنان قبل حرب 5 يونيو، كما وقعت الحرب والموسيقار محمد عبدالوهاب فى بيروت أيضا، وهو ما جعله هدفا عنيفا للنقد وفعل ذلك موسى صبرى مكتفيا بالتلميح، قائلا: «بيننا فنانون كبار لا تنقصهم العملات الصعبة وبعضهم لا يزال يقيم فى لبنان خوفا من لفحات حر القاهرة، وبعضهم تحمس مشكورا بالأغانى والأناشيد، ولكن المنتظر منهم أن يسهموا من بعض مالهم، فى معاونة بلادهم على التصدى للتحديات القاسية، ولسنا فى مجال التنديد بأحد أوالتشكيك فى وطنية أحد، ولكننا فى مجال التركيز فقط، وخذوا القدوة من أم كلثوم».
أثار تصرف أم كلثوم ردود فعل إيجابية، وكتبت أيريس نظمى بمجلة «آخر ساعة» يوم 28 يونيو 1967، قائلة: «فى الأزمات التى تمر بها مصر كانت أم كلثوم الصوت القوى الذى يبعث الأمل ويوحى بالثقة، ويسمو بأحاسيسنا فوق الأحداث، ويعطينا الدفعة الروحية التى نتفوق بها على الأحداث، وأم كلثوم ضربت مثلا عظيما فى البذل والوطنية فى كل المناسبات، ففتحت الطريق الذى يساهم به كل فنان وفنانة فى كل عمل وطنى كبير، فتبرعت بكل دخلها فى الفترة الأخيرة عن عملها خارج الوطن بالعملة الصعبة التى تعتبر فى الوقت الحالى من أمضى الأسلحة فى اقتصاد بلادنا أثناء المعركة».
وفى نقد صريح من أيريس نظمى لعبدالوهاب، قالت: «إذا كانت أم كلثوم الفنانة الأولى فى مصر استطاعت أن تساهم فى معركة بلادها بكل الوسائل، فأين هو عبدالوهاب من معركة بلاده؟ وأضافت: «أم كلثوم لم تنم خلال الأيام العصيبة، كانت تجمع المؤلفين والملحنين فى منزلها كل مساء لتوجههم وتطلب منهم معانى وكلمات معينة، وفى النهار تذهب إلى الإذاعة لتسجلها، وقد تبرعت فى بداية المعركة بمبلغ خمسة آلاف جنيه، ثم تبرعت بعد ذلك بعشرين ألف جنيه إسترلينى جملة دخلها من الأعمال الفنية التى سجلتها بالكويت، وليست هذه هى المرة الأولى التى تقوم فيها بمثل هذا الموقف الوطنى الذى ضربت به مثلا للفنان المصرى الأصيل، ففى عام 1956 أثناء العدوان الثلاثى على مصر سجلت نشيد «والله زمان يا سلاحى» الذى أصبح بعد ذلك النشيد الجمهورى، سجلته تحت أمطار القنابل التى كانت تنهمر من الطائرات المعادية، ورفضت أن تسجله فى أى مكان آخر غير ستوديهات الإذاعة، وتبرعت بعشرة آلاف جنيه لصالح تعمير بورسعيد».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة