لا يستقيمُّ الظلُّ والعُودُ أعوج، كما قِيلَ قديمًا. وأوَّل الاعوجاج أن تستَدعِىَ الماضى بما فيه من نُدوبٌ وقُروح، مُتغافلاً عمَّا يُمكن أن يطبع به الحاضر من عوارٍ وتناقضات. الأصلُّ أنّنا أبناء اليوم، صحيحٌ أنه لا تنحلُّ عُقدة التاريخ عن رقابنا تمامًا؛ إنما لا يصحُّ أن تظلَّ حاكمًا متُسلِّطًا على نظرتنا للراهن، ولا قيدًا يمنعُنا من إجراء القوانين الصافية على النزاعات المُستجدَّة، أو يُبرِّر لأعدائنا سرديَّاتهم الظالمة وما يستميتون لإلصاقه بنا. كأننا إذ نستظلُّ بمَرَاثى السابقين؛ نُسوِّغ نكبات اللاحقين دون أن ندرى، وبينما نخلطُ لاهوتَنا بالسياسة والجغرافيا؛ نُتِيح للآخر أن يُعيد إنتاجَ اللعبة نفسها. وشتَّان بين استيعاب الحكايات القديمة فى سياقها، واتِّخاذها مُنطلَقًا لترسيخ ما يُسمَّى بالحقوق التاريخية. فالزمنُ إنْ تصوَّرت أنه يُنصفك فى شمال المتوسط؛ فقد تُفاجَأ بيده الثقيلة تهوى على رأسك جنوبَ البحر نفسه، والعقل كلُّ العقل ألَّا تفرحَ بالطَّفْو هناك وتُغامرَ بالغرق هنا.
مُناسبة القول تعودُ لمنشورٍ رائجٍ على موقع «فيس بوك»، بثَّه أحدُ الشيوخ المُعمَّمين وتلقَّفه الآلاف فى غضون ساعات، ويلومُ فيه على جمهور كُرة القدم المُنخرطين فى تشجيع مُنتخب البرتغال فى البطولة الأوروبية الحالية. الفكرةُ التى يسوقها أنهم يُشايعون الأعادى وآكلى الفردوس الضائع فى الأندلس الذابلة؛ وينطلقُ فى تصوُّره من تفسيرٍ غامض لمُفردات العَلَم البرتغالى الذى يتشكَّل من خمسِ دُروعٍ وسَبع قلاعٍ داخل دائرةٍ صفراء على خلفية من اللونين الأحمر والأخضر. ويُفسِّر الرجلُ الطيِّبُ الرموزَ بأنها تُشير لمقتلِ خمسةِ مُلوكٍ مُسلمين وسَلب قلاعهم السبعة. وهكذا فى عُرفِه تصيرُ المُباريات الرياضية الآنية مُحرّمةً على جمهور القلاع الساقطة قبل خمسة قرونٍ أو يزيد؛ فكأنه يُحوِّل المُشجِّعين إلى مُقاتلين بأثرٍ رجعىّ، وينقلُ الكُرةَ ولاعبيها من المُستطيلات الخضراء إلى ميادين القتال. حِفنةٌ من المُغالطات المنطقيّة؛ أخطرها أننا نختصمُ أعداء خياليِّين لا وجودَ لهم اليوم، ومن خلفهم نُؤازر عدوًّا واقعيًّا يُديرُ معنا لُعبةً شبيهةً بما جرّبناه مع الآخرين فى مَواضينا الغابرة.
لا معنى لقراءة التاريخ خارج سياقاته. والأزمنةُ القديمة فرضَتْ شُروطَها على ساكنيها؛ وقد صارت بقَضِّها وقَضيضها فى رُكنٍ بعيد من الذاكرة، لدينا ولدى الآخرين، أو هكذا يُفتَرَض. بالمعايير القائمة وقتَها كان عبور طارق بن زياد للبحر نحو شِبه الجزيرة الإيبيرية مَقبولاً ضمن نزاعات الامبراطوريات ومنطق القوَّة، وقد أنجز ما استطاع قبل أن يُضيِّعه الوارثون، أو بالأحرى قبل أن يستفيقَ الطَرَفُ المُناوئ ويستردّ ما أُخِذَ منه بالذريعة نفسها؛ القوَّة ولا شىءَ غيرها. وإبقاءُ المسألة فى عُهدة التأريخ والبحث العلمى المُنضبط، لا يُلوِّثُ عِمامةَ طارق ولا يُبيِّض تاجَى إيزابيلا وفيرناندو بعدَه بعدَّة قُرونٍ؛ أمَّا استدعاؤهم جميعًا هُنا والآن، وإجراء معارفِنا عليهم بالعَسف والابتسار؛ فإنّه سُلوكٌ لا يُغيِّر شيئًا على الأرجح فى أصلِ القصَّة وما آلت إليه، بقدرِ ما يُلطِّخ وجوهَ الواقفين على الأطلال والباكين على المُلك الضائع. فالخللُ ليس فى التعبير المكتوم عن نُزوعٍ عُدوانىٍّ، ولا قابلية استحلال أرض الغير ومصايرهم، خروجًا على التأسيس القانونىِّ الذى أصابته البشرية فيما بين العصور الوسطى واليوم؛ إنما أنه يضعُنا قهرًا فى مُواجهةٍ غير مُبرَّرة مع تناقُضاتنا الداخلية، ويفرضُ علينا البحثَ عن مُواءمةٍ مُقنعة بين البكاء فى حظيرة فلسطين، والغناء على أطراف مراعى الأندلس.
اشتدَّ عُودُ الدولة الأموية بعدما استتبَّ لها الأمرُ فى السنة الحادية والأربعين للهجرة. والسلطةُ التى خرجت من عباءة الدين لتصيرَ امبراطوريّةً عائلية، تضخَّمت أحلامُها السياسية وسارت على أعراف زمنها؛ فوجَّهت الحملات شرقًا وغربًا، وفى كلِّ اتّجاهٍ تقريبًا. باستثناء بعض التوسُّعات المحدودة فى زمن عمر بن الخطاب؛ فإنَّ مجدَ الحُكم العربىِّ المُنتسِب إلى الإسلام تحقَّق تحت راية بنى أُميَّة؛ وكانت منه الحملة التى افترشَت سائرَ الشمال الأفريقى، ثمَّ عبرت الماء إلى إيبيريا/ الأندلس والبرتغال وبعض فرنسا اليوم. شَقَّ طارقُ بن زياد طريقَه فى جيشٍ جرّار من العرب والبربر، ويُروَى أنَّه لمَّا وَصَل شواطئ أوروبا أحرقَ السُّفُنَ وقال لجنوده «العدوُّ من أمامكم والبحر من خلفكم»؛ لكنها روايةٌ ضعيفةٌ على أيَّة حال.
المهمُّ أنه سيطرَ على نطاقٍ من الأرض، وتَبِعَه موسى بن نُصير على رأس قوَّةٍ داعمة، ثمَّ خَلَفَه فى القيادة والإدارة؛ بعدما استُدعِىَ هو إلى دمشق، وكانت تلك فاتحة نحو ثمانية قُرونٍ من الوجود العربى الساخن فى القارة الباردة، ولم يكُن وُجودًا وديعًا وخفيضَ الحرارة كما يُشاع بين الماضويِّين، ومن يُروِّجون سرديَّة «الفردوس المفقود» من عُتاة الأُصوليّة الرجعيَّة؛ خصوصًا جماعات الإسلام السياسىِّ التى وجدت فى المسألة مجالاً صالحًا للتفاخُر والكَيد والاستقطاب والتجنيد وابتزاز الحاضر بروايات التاريخ.
الحال أنَّ «معاوية» جاء بالسيف واستمرَّ تحت ظِلِّه، وقد حوَّل الولايةَ من صِبغتها الدينية المحكومة بالشُّورى والفَضل بين المُتنافسين، إلى أُوتوقراطية رعويّة يحكمُها رباطُ الدم، ولا تستنكفُ أنْ تنقلَ العهدَ إلى يزيد، بكلِّ ما أُشيعَ عنه من مُخاصمةٍ سياسيّة للهاشميِّين؛ حتى لَيُنسَب إليه بيتُ شعرٍ شهير يقول: «لَعِبَت هاشمُ بالمُلك بلا مُلكٍ جاء ولا وَحىٍ نَزَل». ربما لا تصحُّ تلك النسبة، ويكون فيها كلامٌ كثير؛ إنّما الصحيح أنَّ الحُكمَ الأُموىَّ لم يعُد خلافةً دينية راشدة، ولا أدار توسُّعاته بفلسفةٍ عقائدية خالصة؛ بل لطموحٍ سُلطَوىٍّ كان مَقبولاً ومُبرَّرًا فى زمنها. وعليه؛ فالأندلسُ كانت امتدادًا سياسيًّا لامبراطوريّةٍ عربيّة ناشئة، وليست ظِلاًّ إسلاميًّا لدعوة الرسول الذى كانت جُلّ غزواته دفاعيّةً، وانشغل بإصلاح الداخل أكثر ممَّا عَنَاه التمدُّد إلى الخارج. أمَّا الدعوة التى تآكلت فى جنوب أوروبا بعد كرٍّ وفرٍّ؛ فلأنها لم تكُن الشاغلَ الأوَّل للحُكَّام الجُدد ومَنْ خلفوهم على العروش المُتنازعة. وهنا قد تتقدَّم أطرافُ آسيا فى النظرة الرساليّة؛ بينما تحتضنُ اليومَ أكبرَ تمركُزٍ للمُسلمين بما يفوقُ نصفَ المليار نسمة، ولم يصلْها جَيشٌ أو يُرفَع عليها سَيف.
لا حكايةَ من حكايات المسلمين شابَها الوهمُ كما فى الأندلس. دخلَها العربُ فى العام 711 ميلاديًّا، وتمَّت لهم السيطرة على نطاقٍ واسعٍ فى غضون سَبع سنوات. لكنهم لم ينعَموا بإقامةٍ هانئة كما يُروِّج البعض؛ إذ ترافقت المقاومةُ مع مشهد الدخول وتبعته، ثمَّ بدأت حروبُ الاسترداد من العام 718 بمعركة كوفادونجا، وبعدها معركة تولوز، كما هُزِمَ العربُ فى موقعة بواتييه 732 ميلاديًّا وقُتِل القائدُ البارز عبد الرحمن الغافقى. لم تُعرَفْ المُناوشات المُضادَّة وقتَها بمُسمَّى الاسترداد «ريكونكويستا بالإسبانية»، والأرجح أنَّ تلك الصفة أُلحِقَت عليها بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقتما كانت إسبانيا تُفتِّش عن هُويَّةٍ وطنيّة لها جذورٌ فى التاريخ. لكنَّ المَحكَّ بعيدًا عن التسميات؛ أنَّ فريقًا من أصحاب الأرض امتزج بالغُزاة قطعًا، وظلَّ آخرون على العداوة ونزعة التحرُّر والاستقلال. استعادوا جبال البرانس عام 800، ثمَّ برشلونة فى السنة التالية قبل أن يفقدوها بعد قرنٍ ونيّف، إنما بحلول الثُلث الأوَّل من القرن الثانى عشر كانت شِبه الجزيرة الإيبيرية، ومساحتها تفوق 580 ألف كيلو مترٍ مُربَّعٍ مُوزَّعةً حاليًا على ثلاثِ دُوَلٍ أُوروبيّة، مَقسومةً بالتساوى تقريبًا بين العرب والأُوروبيِّين. ثمّ من القرن التالى اشتدَّت المعاركُ وتتابَع سُقوطُ الممالك، حتى استعاد القِشتاليِّون غرناطة عام 1492 وأنهوا 781 سنة تقريبًا من الهيمنة العربية.
العقودُ التاليةُ شهدت مُمارساتٍ لا تُوصَف إلَّا بكونها جرائمَ داميةً. طُرِدَ اليهودُ، وأُجبِرَ آلافُ المسلمين على التحوُّل للمسيحية الكاثوليكية، وبحلول القرن السادس عشر كان المطرودون من المُوحِّدين وغيرهم قد تجاوز ثلاثة ملايين. هنا ينبغى التفريقُ بين منطق القرون الوسطى فى حروب التمدُّد والسيطرة، والتجبُّر العقيدىِّ والطائفىِّ الذى ترافق مع فورة شعوبٍ محليّة تسترجعُ أرضَها ممَّن تراهُ دخيلاً عليها.. والصورة هنا لا تكتملُ إلَّا بضدِّها؛ فما كُنَّا يومًا من أهل إيبيريا ولا أصحاب حقوقٍ فيها، وما يزالُ فريقٌ من عَبدة الماضى يرفعون صكوكَ الوجود المُؤقَّت ببلاهةٍ وحنينٍ زائف، بالضبط كما فعلت الحركةُ الصهيونية معنا فى فلسطين. لقد جمعوا شتاتَهم من أنحاء الأرض وأتوا، رافعين التوراةَ فى وُجوه سُكَّانها الأصليِّين، وزاعمين نَسَبًا عضويًّا بالجغرافيا ومَوعدةً إلهيّة بامتلاكها. واعتبار أنَّ ثمانية قرونٍ فى الأندلس تُبرِّر لنا الوقوفَ على أطلالها؛ قد لا يختلفُ عن مزاعم الصهيونية فى أنهم لمَّا عبروا بين النهر والبحر قبل عشرين قرنًا، امتلكوا حقوقًا أبديَّة فيها، وعلى جُثَث الفلسطينيِّين وأنقاض بيوتهم.
لم يحرمْنا التاريخُ نفسُه من لحظةِ المُقابلة المُدهشة. لقد تكثَّفت المُفارقة بأوضحِ صُوَرِها بين القرنين الحادى عشر والثالث عشر الميلاديين. وقتَها وجَّه الأُوروبيِّون جيوشًا حاشدةً فى موجاتٍ أخَذَت صِفةَ غزو الفرنجة، ومنحوها عنوانَ «الحملات الصليبية». دافعنا عن الوطن ورفعوا راية الدين، بينما كان العكسُ تمامًا يحدثُ فى جنوب قارّتهم وعلى مُربَّعٍ ضخمٍ بحجم شبه الجزيرة الإيبيرية. كُنَّا ضحايا ومُقاومين هنا، وغُزاةً ومُحتلِّين هناك، وهُم تبادلوا معنا المواقعَ فى الجبهتين. وأنْ نستدعىَ زَهوَنا الطويلَ فى الأندلس اليوم؛ كأننا نقبلُ من أحفاد الملوك الغازين أن يسترجعوا زمنَ ولايتهم على ساحل الشام وممالكه، أو أننا نُبرِّر لمندوبهم العبرىِّ القابض اليوم على خناق القدس وعُموم الضفَّة الغربية وأرض فلسطين التاريخية. والفيصلُ فى المسألة سهلٌ وبسيط؛ إمَّا نُغلق دفترَ الماضى ونُدير خصومتَنا مع الحاضر بمنطقه، أو لا نستمرئ التناقُضَ بين تديين الصراعات السياسية لو كانت لصالحنا، ثمَّ استصراخ إنسانيّة العالم حينما نُصْدَمُ بأنَّ تسييسَ الأديان قد يأخُذُ مِنَّا مثلما يُعطينا.
يقولُ محمود درويش فى مُطوَّلته البديعة «مديحُ الظلِّ العالى» ما يُعرِّى ذاك التناقض؛ وإن تقصَّدَ معنىً آخر. إنها مسألةُ حَرْفِ القضايا عن نطاقاتها، وتلويث الأُصوليَّات الصافية بألاعيب التحزُّب والجبهات النفعية. هكذا رأى الأمرَ باختصار: «فى كُلِّ مئذنةٍ حَاوٍ ومُغتصب// يدعو لأندلُسٍ إنْ حُوصِرت حَلَبُ». فإذا تيسَّر بحُكم الزمن أن يُغلَق التاريخُ على مآسيه؛ فإنَّ البكاءَ اليوم على ماضينا الاستعمارى يُعيدُ تجديد دورةِ التسلُّط فى غير صالحنا، كما لو أننا نُغذِّى شهوةَ القاتل بمُفاخرتنا العاطفية الساذجة بالهيمنة القديمة، ونُحذِّره من احتمالية أنْ نُهندِسَ الحاضرَ على صورة الماضى لو تأتَّى لنا ذلك. والحال أنَّنا نُنكرُ فاعليّة البقاء الطويل فى فلسطين عنوانًا للحق، ثمَّ نستعيرُ قُرونَ الأندلس الثمانية لنقولَ إننا ظُلِمْنَا إذ طَرَدَنا أهلُ الأرض من أرضهم. فكيف تنسجمُ المُناداةُ بإزاحة العارض الثقيل هنا، مع الحنين لاستعادة العارض الثقيل نفسه هناك؟!
نختصمُ أوروبا وتختصمُنا بألوانٍ شتَّى منذ ثلاثةَ عشرَ قرنًا تقريبًا، كأنَّ النزاعات تتناسلُ من بعضها؛ فلا تفنَى ولا تُستَحْدَث من عَدَم. وبينما لا يُمكن الفصلُ بين المرجعيَّة الصليبية البعيدة، وإسناد طائفةٍ من الغرب لإسرائيل اليوم؛ فإننا نتباهى بما أسَّسوا كراهيَّتَهم عليه. والحال أنَّنا إذ نفتئِتُ على فلسطين باستذكار فردوس الأندلس؛ فإنَّ التاريخ محلَّ التنازُع يُخرِج لسانَه لنا ساخرًا، وقتما ينحازُ بعض ورثتِه لقضيَّتنا بأكثر ممَّا تراها الأُصوليَّة الدينية أو تجتهدُ فى خدمتها. ربما من المُفارقات المُلفتة أنْ تعترفَ إسبانيا بالدولة المَقضومة دون اعتبارٍ لميراث الخصومة، وتُصعِّد خلافاتها مع الصهاينة المُحتلِّين، وأن يجلسَ بُرتغالىٌّ طَيِّبٌ فى صدارة الأُمَم المتحدة، مُقدِّمًا أشجعَ النماذج التى عرفناها فى إدارة مخزن الوصاية الغربية على العالم ما بعد الحرب الكونية الثانية. إنَّ الرجعيِّين مِنَّا إذ يُدينون أجدادَ أنطونيو جوتيريش وبيدرو سانشيز وداعميهما؛ كأنهم ينحازون لأحفاد فيليب وفريدريك برباروسا وريتشاد قلب الأسد والسائرين على دَربهم، ويُعَمِّدون وحشيَّة نتنياهو وعصابته التوراتية القومية بلَوثة الاعتقاد الحارقة، والفارقُ أنَّها صارتْ مَنزوعةَ الأسنان؛ بينما العدوُّ بمخالبَ وأنيابٍ ومُسلَّحٌ حتى العَظْم.
لعلَّ بعضًا من المُكايدين بأندلُسِ الجُدود؛ يُعوِّضون شعورًا بالضِّعَة والمَذلَّة، ويُكيِّفون آليّةً نفسيّة للفَخَار والتحايُل على منطق التاريخ فى مُداولته للأيَّام بين الناس. إنما الواقع أنه لا نَفعَ من استجلابِ ما يُشينُ بمعايير اليوم، للهربِ مِمَّا فعلناه مُستمتعين بالأمس.. التاريخُ يجبُ ألَّا يكون موضوعًا للنزاع؛ طالما أنه انقضى بغير رَجعةٍ، وأنَّ استذكارَه لا يجلبُ سوى الهَمِّ والكَدَرِ وتلطيخ السُّمعَة. وإذ يقولُ اليهود إنهم ورثوا فلسطين بالتوراة، ويستدعون سِيَرَ مُلوكِهم الدَمَويِّين فى أرض فلسطين؛ فالمظلوميَّة التى نحملُها لا تنسجم مع الذهاب إلى مُتون الحكايات الرثّة، والقول إننا كُنّا مثلَكم فى سابق الأزمان، ونُحبُّ أن نعودَ لسيرتنا الأُولَى لو سارت الريحُ كما تشتهى أَشْرِعتُنا. رائحةُ المرعى القديم لن تُوسِّع أسوار الحظيرة المُستحدَثة، كما لن يُعوِّض الأُصوليِّون عن خرافهم السَّليبة بخُرافاتِهم البالية. إنها رياضةٌ جَدليّةٌ فى غير أوانها، وسَخفٌ ما بعدَه سَخَف.. لقد شَبَّت الإنسانيّةُ عن الطوق، ونضجت قليلاً عمَّا كان فى زمن الأندلس وحروب الفرنجة، وليس الحلّ أن نُديِّنَ صراعًا أخلاقيًّا ووطنيًّا ونُعمِّمَه بعمامةٍ سُنيّةٍ أو شيعية؛ بل أن نترُكَ الآباء فى قبورهم بما فعلوه أو فُعِل فيهم، وأن نلتفتَ للأبناء فى نكبتهم؛ إنما بقانون العصر ومنطق العاقلين، لا بالأوهام والخيالات واجترار الحوادث على طَلَلٍ بائدٍ وطنطناتٍ مُضحِكة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة