التواصل هو الطريقة التي يندمج بها الأشخاص مع بعضهم البعض، لتبادل الخبرات والمعلومات والأفكار. وتختلف طريقة التواصل من إنسان إلى إنسان، أو من إنسان إلى حيوان، أو من حيوان إلى إنسان، أو من حيوان إلى حيوان. بالرغم من أن مكونات التواصل البسيط هي ذاتها لا تتغير، في جميع أشكال التواصل السابقة بين الكائنات الحية؛ وهي مرسل، ورسالة، ومرسل إليه أو متلقي الرسالة؛ إلا أن وسيلة التواصل نفسها تختلف بين الكائنات. بمعنى أن في حالة التواصل بين إنسان وإنسان، فسنجد أن في وسيلة التواصل يمكن أن تكون باستخدام اللغة والكلمات، أو لغة الجسد وتعبيرات الوجه، أو نبرات الصوت المختلفة؛ ويمكن أن تكون جميع هذه الوسائل مع بعضها البعض، أو كلا على حدة. ومن ناحية أخرى، في حالة التواصل بين حيوان وحيوان، سنجد أن وسيلة التواصل غالبا ما تكون نبرات الصوت المختلفة أو لغة الجسد التي تعبر عن الغرائز المختلفة.
أما في حالة التواصل بين الإنسان والحيوان والعكس، فسنجد أن الإنسان يستخدم جميع وسائل التواصل لديه، من كلمات ولغة جسد ونبرة صوت، وأيضا الحيوان يستخدم وسائل التواصل لديه من لغة جسد ونبرة صوت، ومع ذلك، كلا منهما يفهم الأخر ويستوعب ما يريده الأخر. على سبيل المثال، إذا كنت من محبي تربية الحيوانات الأليفة مثل القطط والكلاب، فتجد نفسك غالبا ما تتحدث إلى حيوانك الأليف، بالرغم من أنك تعي جيدا أنه لا يفهم لغتك (مهما كانت تلك اللغة)، ولكن تجده قد يتفاعل معك ويحزن لحزنك ويسعد بسعادتك، وعندما يفعل شيء يغضبك، يدرك هذا الحيوان الأليف أنك تنهره وتوبخه. ومن ناحية أخرى، عندما يشعر حيوانك الأليف بجوع أو عطش أو رغبة في تلبية غريزة التزاوج، فإنه يقوم بحركات معينة بجسده، أو يصدر صوت معين، تدركه أنت كإنسان، كي تلبي رغبته. فهل معنى ذلك أن الإنسان يدرك لغة الحيوان؟ أو الحيوان يدرك لغة الإنسان؟، بالطبع لا، صديقي القارئ. فكلا من الحيوان أو الإنسان، يقوم بربط نغمة صوت معينة بتصرف حركي أو جسدي معين، كي يعبر عن شعور معين أو رغبة معينة، كل ذلك بشكل لا إرادي، وهكذا تسير عملية التواصل بين الكائنات الحية المختلفة دون علمهم بالكلمات أو اللغات.
سحر الكلمات
ونستنتج من ذلك أن الله -عز وجل- ميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، بـ "الكلمات"، فعملية التواصل في حد ذاتها يمكن أن تتم بشكل طبيعي بين الكائنات الحية المختلفة اعتمادا على لغة الجسد ونبرات الأصوات. ولكن علم الله -عز وجل- بني أدم الأسماء أي الكلمات، لما لها من أهمية بالغة وتأثير مدهش في النفس والروح البشرية. والمقصود هنا بالكلمة هي الكلمة ذاتها وليس اللغة، حيث أن كل اللغات تتكون من كلمات مختلفة، وكل اللغات بها كلمات تدل على مشاعر وأحاسيس مختلفة سواء إيجابية أو سلبية. فالكلمة قادرة على تغيير الشعور بشكل لحظي، وتكرار الكلمة قادر على تغيير النفس البشرية على المدى البعيد.
تذكر معي صديقي القارئ، أنك تشعر بالحسد، من كلمة يقولها لك شخص ما، وتشعر بالغضب من كلمة تثير جنونك، وتشعر بالغيرة من كلمة تُقال لغيرك أمام عينيك، إلخ. وعلى النقيض صديقي القارئ؛ جميعنا نشعر بالحب من كلمة حنية، ونشعر بالثقة من كلمة مدح، ونشعر بالسعادة من كلمة جميلة، ونشعر بالاحتواء من كلمة تحتوي على دعاء تطيب له الأنفس. على سبيل المثال، عندما تشعر بالحزن لسبب ما، وتتحدث إلى صديق غالي لديك، فبكلمة منه يتحول حالك من الحزن إلى الفرح؛ والعكس عندما تشعر بالسعادة تجاه موقف ما، وتتصل بصديق أو قريب قلبه مريض بالحسد والحقد، لكي يشاركك فرحتك، فربما يقول لك كلمة، تشعرك بالغضب والندم وأنت في قمة الفرح بنجاحك، وهكذا هو الحال مع الكلمات.
تعمل الكلمة بمثابة سحر، كلمة تصعد بك إلى السماء، وكلمة تدفنك في باطن الأرض، وكلمة تجعلك عالق مدى الحياة، وكلمة تقلب حالك رأس على عقب؛ فاختيار الكلمة فن، لذلك في العصور القديمة كان أهم مجال للعمل هو مجال الخطابة، وهو فن استخدام الكلمات بأسلوب جاذب، لكي يثير الدهشة أو الخوف أو الاطمئنان أو غيرها من المشاعر المختلفة في نفوس العامة؛ فقد كان الخطيب (من يقوم بالخطابة) ينتمي مباشرة إلى البلاط الملكي، لأنه يمثل صوت الملك الحاكم تجاه العامة، والملك القوي الحكيم، كان يختار خطيب حكيم أيضا.
ولكن، إضافة إلى الكلمات وأهمية انتقائها، نجد أن الكلمات لابد أن ترتبط بنبرة الصوت المناسبة للكلمة. فلا يجوز أن نقول كلمة "مدح" بنبرة صوت "ساخرة"، فحينها تتحول كلمة المدح إلى سخرية ونية غير محمودة.
على سبيل المثال، تخيل معي صديقي القارئ، إذا كنت تعمل في شركة ما، وانتهى عقدك، ووصلك تليفون من شؤون الموظفين لإبلاغك بهذا الخبر السيء، فمن الطبيعي أن الموظف المسؤول يختار كلماته بعناية ويقول لكل الخبر بشيء من التعاطف، من خلال نبرة صوت منخفضة وخافته وربما متلجلجة من قسوة الموقف، لكي يهون عليك الحال؛ ولكن إذا كان الموظف المسؤول يبلغك الخبر بنبرة صوت ضاحكة وساخرة، فمن المؤكد أنك ستشعر في داخلك بغضب شديد تجاه هذا الموظف، الذي هو في حقيقة الأمر يقوم بعمله، ولكن لديه فشل زريع في عملية التواصل، مما يتسبب في خلق تراكمات من المشاعر السلبية الداخلية، التي تجعلك -على مستوى شخصي- لا تنسى أبدا هذا الموقف السيء الصادر من هذا الشخص، لأنه جعلك تشعر بالإهانة والحسرة ولم يتعاطف معك بشكل إنساني (من خلال نبرة صوته) في هذا الموقف الصعب الذي يتعرض له كثير من البشر.
مثال أخر، تخيلي معي صديقتي القارئة، إذا كنتي مرتبطة (مخطوبة أو متزوجة) بشخص لا يفقه أهمية الصوت والكلمة، وفي يوم ما، وأنتِ بكامل زينتك وأناقتك، وتسأليه "أيه رأيك"، وإذا بهذا الشخص يقول لكي "جميلة"، ولكنه يقولها بنبرة صوت "ساخرة"، فكم من امرأة شعرت بقلة الثقة في النفس والإهانة، بسبب هذه النبرة الساخرة التي لا تتناسب مع معنى الكلمة المنطوقة.
صديقي القارئ، التواصل يمكن أن يتم بعدة طرق، فإذا كنت لا تحسن اختيار كلماتك، ولا تقدر على السيطرة على نبرات صوتك المصاحبة لتلك الكلمات، فمن الأفضل لك ألّا تنطق، وأحرص على الصمت، لأن فيه نجاتك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة