هل يمكننا أن نتفاءل؟ أو حتى نشعر بقدر من الاستبشار يحررنا ولو قليلًا من الهواجس والقلق والتشوش الذي يحاصرنا في كل زاوية؟ هل ما زال لدينا الوقت للتأمل والاستبصار؟.. يلح علي السؤال بينما كنت أشاهد مشروعات التخرج لطلاب قسم فنون الميديا بكلية الفنون والتصميم بإحدى الجامعات، إذ شاركت في لجنة التحكيم هذه المشروعات ولاحظت أنه ثمة معلما مهما يربط بينها، هذا المعلم البارز يتعلق أولًا بالخيال الإبداعي عند الطالب وثانيًا بالروح الجماعية التي انغمس فيها جميعم وأسهمت في ظهور أعمالهم بقدر معقول من الحضور الفني الذي يتلائم مع خطواتهم الأولى وأفكارهم الطازجة بأشكال متفاوتة، لكنها معبرة عن حالاتهم ومعايشاتهم، وعند هذه النقطة بالذات لا يمكن إغفال دور أساتذتهم ومساعدتهم لهم في تحديد أفكارهم والسعي إلى العثور على حلول ما، سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
النشاط السينمائي الواضح في قسم فنون الميديا، أراه يتطور بخطوات كبيرة عامًا بعد العام ويزداد بإنشاءات جديدة مثل ستوديو الصوت مؤخرًا، هذا أمر بات جليًا في أفلام الطلاب المتنوعة فنيًا وبصريًا، أيًا كان الرافد الذي تنتمي إليه: روائي قصير أو وثائقي أو تحريك، فالتميز الذي يمكن أن نلحظه أن الأفلام عمومًا تشبه صانعيها نفسيًا واجتماعيًا، وهو ما يظهر خلال العمل، كما يتبين فيها السعي الدؤوب إلى جعل النظري مرادفًا للعملي، إذ يرغب الجميع في مباشرة مشوار واقعي تكون فيه السينما همزة الوصل بين نزوعهم الفني وجمهور يتوقون إليه كي يشاهدهم ويتعرف على شغفهم ونتاجهم وتجاربهم.
14 فيلمًا تنوعت بين الروائي والتوثيق والتحريك عبرت عن جيل يحاول أن يولد من جديد، يتطلع إلى المستقبل بأمل على الرغم مما يحيطه من الأجواء الصاخبة بالاضطراب والتشوش وعفاريت الماضي، حتى أنه من الملامح البارزة لأغلب مشاريع التخرج هو هذا البطل المتوحد مع همه الخاص، المنفصل عن مجتمعه الذي أهمله غالبًا، هناك شحنة عاطفية ثقيلة توزعت بين الأفلام، تشير إلى هذا الارتباك النفسي الذي يحدث سواء بالفقد أو الإهمال، ويتسبب في أنواع من التوهان والضياع الذاتي، لعل الأفلام من هذه الزواية تكون وسيلة الحماية من المأساة الإنسانية، وربما لن يدرك هؤلاء الشباب هذه الفكرة إلا بعد تجربة إنسانية وفنية قادمة تزيدهم خبرة، ويستوعبون من خلالها أن الفن ليس تجميلًا للحياة، لكنه الحياة نفسها، أو بالأحرى هم تلمسوها بدرجة من خلال خطوتهم الأولى.
نحو نصف هذه المشاريع تنتمي لسينما التحريك، ما يكشف عن ميل إلى هذا النوع بشكل أمتن وأكثر تأثيرًا، إذ يُمكن أن يكون للتحريك حضور أكبر، وهو أمر يتضح عمومًا في تجارب سينمائية كبيرة عالمية، خرجت عن نطاق السينما الهوليوودية إلى الأوروبية والآسيوية كذلك، وإن كانت لم تثبت نفسها عربيًا حتى الآن.. تنوعت أفكار التحريك هنا في مشاريع التخرج من التحريك التقليدي إلى تطوراته ومنها إيقاف الحركة و3D وغيرها من مستويات شكلية، إلى موضوعات تغوص في عوالم الذات وارتباكاتها، تفاصيل البحث عن أعماق تلك الذات المقيمة في تمزقاتها. البناء الدرامي في هذه الأفلام لا يقل عن مثيلاتها في الأنواع الأخرى، إنه مفتوح على خليط النفسي بالعقلي والإنساني، وعلى البحث عن أجوبة لأسئلة معقدة وربما في أغلبها غير واضحة المعالم.. حالات إنسانية وفنية مختلفة مرتكزة على حكايات وأمزجة وخلفيات مرتبطة بمغزى بشري وحالاته الإنسانية المتباينة.
الحماسة تجاه الخطوات الجديدة لم تقف حائلًا دون مشاهدتي بشكل هاديء، فبعض هذه الأفلام يستحق التأمل والنقاش، وطرح الأسئلة حول تطوير اللغة السينمائية لأجيال تتلمس طريقها في صناعة تحتاج إلى عقل ووعي معرفي ومخيلة خصبة، بينما الطريق وعرة والغلبة فيها للتسطيح واللامبالاة والركض وراء المال فقط.. ولعل سؤالي في البداية يبدو بديهيًا، خصوصًا ونحن في موسم مشاريع التخرج في أكثر من كلية وجامعة تدرس السينما، ويتخرج منها جيل جديد، يأمل ونأمل معه في غد جديد يكون أبهى بجماله وتقنياته، جمال نابع من الحريصين على إنتاج أفضل لا يتردد عن التجريب والاختبار والمغامرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة