حازم حسين

تاريخ مراوغ وهُويّات مُلتبسة.. جدلية الدولة والعصابة فى إسرائيل وإعادة اختراع القضية

الخميس، 27 يونيو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بُنِيَت الصهيونيّةُ على قاعدةٍ إثنيّة لا عقائدية. كان الدينُ غلالةً رماديّةً لتمرير ما لا يمُرّ بالسياسة، ورَبطِ الفكرة المُنتحَلَة حديثًا برباطٍ تاريخىٍّ مع أرض فلسطين. أراد مُنظِّروها أن يُسبِغوا على رؤيتهم الاستعمارية طابعًا مُقدَّسًا، وأن ينتقلوا بالروحىِّ إلى المادى. هكذا وقفَ على ناصية الدعوة تيَّارٌ من العلمانيِّين البعيدين تمامًا عن التوراة؛ بل إنَّ الأبَّ الأوَّلَ تيودور هرتزل كان مُلحِدًا بالكُلّية، ما يفرضُ وُجوبًا ألَّا تُشكِّلَ فكرة الدياسبورا اليهودية والوعد الإلهى لبَنِى إسرائيل رُكنًا أصيلاً فى رؤيته.. من هُنا صارت الدولةُ المأمولةُ تعبيرًا عن انتحالٍ فى التأسيس وتلفيقٍ للصِّلَة، كما عبَّرت عن الْتباسٍ فى الهُويَّة بأكثر ممَّا ترجمت وُقوعًا حقيقيًّا على المُشتركات. والخلل لا ينحصرُ فى أنها زعمت أَصلاً واحدًا لخليطٍ مُعقَّدٍ من الأعراق، ولا تخطَّت حدودَ الأنثروبولوجيا لتُكَيِّف سرديَّةً مُضادَّة لانتقالات الجغرافيا فى الزمن، أو البشر فيما بين الغيبىِّ الغائم والجَدَلىِّ المُركَّب؛ بل تتَّسع لتحويرٍ ثقافىٍّ لا يستندُ لمنطقٍ أو معرفةٍ صافية، بعدما حوَّلت العقيدةَ إلى عِرقٍ، واخترعت لهما جِسمًا دَولَتيًّا؛ فصار التنظيمُ السياسىُّ كهنوتًا يُناقِضُ فلسفتهَ الأساسية، وصِفةُ الاندماج فى العصر عنوانًا على انفلاتٍ كاملٍ من كلِّ اتّصالٍ بالمدنية، وارتدادًا خَشنًا إلى زمانٍ أُصولىٍّ عقيم.


التناقضُ الذى تسلَّط على الصهاينة منذ مُؤتمرهم الأوَّل، انعكس بوضوحٍ على التمهيد الإجرائى المُؤسِّس لإنفاذ مشروعهم، عندما قال وزير الخارجية البريطانى أرثر بلفور، إنَّ حكومة صاحب الجلالة تنظرُ بعين العَطف لإقامة «وطنٍ قَومىٍّ لليهود» فى فلسطين. خالطًا بين العِرقىِّ والعقائدى، فكأنَّ المسيحية التى انبثقت من رَحم العبرانيَّة، سلَّمت بالشرخ الذى أحدثه «قيافا والسنهدرين» فى بنائها الروحى قبل عشرين قرنًا، وتقبَّل بعضُ أبنائها الغربيِّين أن يُمزِّقوا شهادة ميلاد يسوع ونسبته العِرقيّة، وينحازوا للرواية العدائية التى أخرجت بشارتَه من سياقها الاجتماعى. والمعنى أنَّ اليهودَ الأوائل حاربوا المُعتقَد الجديدَ لأسبابٍ سياسيّة ومصالح تخصُّ الحاخامات القُدامى؛ لكنَّ التسليم لأحفادهم بأن يربطوا الناصرة والقدس بالتوراة والتلمود، بدا كأنه إذعانٌ للخُلاصة التى توصَّلوا إليها. بالضبط كما تفعلُ الحركات المسيحانية النشطة حاليًا، بانحيازها لفكرة العودة ومعارك آخر الزمان؛ إنما تحت ظلِّ الدعوة اليهودية وعلى مشارف هيكلها. وبعيدًا من مسألة الانقلاب على الذات؛ فإنَّ المُواءمةَ الأنجلوساكسونية التى كان ظاهرها الدين وباطنها السياسة، رسَّخَت الاختلالات البنيويَّة التى طبعت تأسيسَ الحركة الصهيونية والتأصيل لخطابها المَلىء بالشقوق والفجوات.


النموذجُ الأكثرُ اختزالاً لأمراض إسرائيل يحكمُها الآن بالفعل. إنه بنيامين نتنياهو؛ الرجلُ الواقع منذ البداية على تخومٍ ثلاثة مُتصادمةٍ ومُتخادِمةٍ فى آنٍ واحد: الجدَّ الذى كان حاخامًا تَشَرَّب التوراةَ لكنه سار فى أثر «جابوتنسكى» وتنظيره للصهيونية الخشنة، والأبّ مُدرِّس التاريخ الذى تحصَّل على وطنٍ بجهد العلمانيين؛ لكنه تفرَّغ لاحقًا لتزييف الموسوعة ونسبته للأُصوليِّين، ثمّ الشقيق الضابط، وكان مُولعًا بحياة اللهو وفاشلاً فى الجُنديّة، فاستهلك مظهريَّات التمدُّن بحداثة المظهر وانفتاح العلاقات إلى أن مات فى عملية عنتيبى بنيرانٍ صديقة. والمآلُ الذى وصلَه زعيمُ الليكود لا يقلُّ إفصاحًا عن عُمقِ اعتلالاته؛ فقد دخلَ السياسة من بوَّابة الدبلوماسية والبزنس، واختار أن يكون يمينيًّا قوميًّا، حتى صار اليوم نصفَ توراتىٍّ على أبسط تقدير؛ أقلُّه لناحية أنه يُحالفُ تيَّارًا من اليمين الدينى فى أشدِّ صُوَره الاستيطانية فجاجة، ويتوهَّمُ نفسه مَلكًا يهوديًّا يُتَمِّم قائمةَ ملوك العهد القديم، بينما فى واقع الأمر يخضع لسموتريتش وبن جفير، ويخدمُ ضِمنيًّا فى ردهات المدارس الدينية وتحت أقدام الحريديم.


قبل أيَّام، دخل رئيسُ الحكومة نِزاعًا مُعلَنًا مع المستوى العسكرى. البدايةُ عندما أعلنت قيادةُ الجنوب عن هُدنةٍ تكتيكيَّة فى رفح، تبدأ من كرم أبو سالم عَرضِيًّا حتى محور صلاح الدين، ثمَّ رأسيًّا إلى خان يونس. امتعضَ نتنياهو وأظهر غضبَه لأمرين: أنه لم يُستَشَر فى المسألة، وأنَّ إسرائيل «دولةٌ لها جيش وليست جيشًا يملكُ دولة» على ما قال. والحقّ أنه فى ذلك يُخالفُ الثابتَ عن التجربة؛ إذ تأسَّست من طريق الاستيطان على صيغةِ التعاونيات الزراعيّة، وامتلكت كلُّ واحدةٍ منها ذراعَها العارية، ثمَّ تلاقت الأذرُعُ وتكاملت لتُشكِّلَ عصاباتٍ صهيونيَّةً مُنظَّمة، لها طابعُ الميليشيا وصِفَةُ القوَّة النظامية. وكانت قد استفادت من قتالها بجانب الإنجليز فى الحرب العالمية الأُولى، كما انتفعت لاحقًا من إعادة الكَرَّة فى الحرب الثانية؛ ما مَنحَها سَمْتًا عسكريًّا شديدَ الاحترافية؛ وإن ظلَّ بدائيًّا فى خطابه وأخلاقياته. والخلاصةُ هُنا أنها كانت جيشًا بالفعل قبل أن تصيرَ دولة، وما بدَّلَت فى ثوابتها ولا انحرفت عن صُلب عافيتها؛ والجوهر فيها أنَّ السلاح قبل التنظير السياسى وبعده، والجنرالات أرفعُ مقامًا من الساسة، وقد يحلّون بدلاً منهم بيُسرٍ وكثافة؛ إنما لا يحدث العكس ماديًّا أو معنويًّا. لقد أعادت هيكلةَ عصاباتها على أحدث ما يكون؛ إنما لم تكتُب دستورًا، ولا استوفت مشروعية الوجود أصلاً. والأصلُ أنها حازت صَكَّ الاعتراف بالقرار الأُمَمى رقم 181، وينصُّ على اقتسام الجغرافيا بين النهر والبحر مع فلسطين؛ ولأنَّ الأخيرةَ لم تُولَد إلى الآن، فالأُولى بالتَّبَعيّة اعتصمت بحالتها العِصابيَّة بدلاً من استكمال مشروطيّات المَدَنيَّة المُدَّعاة.


بين كلِّ رُؤساء الحكومات فى إسرائيل، نحو ستّة فقط، بينهم نتنياهو والمرأةُ الوحيدةُ التى شغلت المنصب، ليسوا من خلفيّةٍ عسكريّة. الباقون إمَّا كانوا قادةَ التأسيس العِصابىِّ، أو صاروا ضُبَّاطًا بعدما خُلِعَت على الميليشيا صِفةُ الجيش. وإلى اليوم؛ أقربُ المُنافسين على السُّلطةِ الجنرالان بينى جانتس رئيس حزب الوحدة الوطنية، والليكودى يوآف جالانت وزير الدفاع. والحال أنَّ اختلالات الهُويّة تخلِطُ الوجوهَ والهيئات؛ فتستطيلُ أظافر السياسيِّين كما لو أنهم يُديرون مهمّة افتراسٍ فى الأحراش، ويتمدَّن العسكريِّون أحيانًا فى إدارة حروبهم. على هذا المعنى أبادت جولدا مائير من العرب ما يفوقُ كثيرًا من رجال السلاح، ويبدو بعض الجنرالات الحاليين حَمائمَ إذا قُورِنوا بالائتلاف الحاكم.. انحلَّ مجلس الحرب لأن الآتين من مُعسكرات القتال لم يحتملوا جنونَ القادمين من بساتين المُستوطنات، ويختلفُ الوزير ورئيسُ أركانه مع خُطَط الحكومة لمُستقبل غزّة، بينما يُناور قائدُها لترويض حُلفائه الأمريكيِّين بالابتزاز والتشنيع، ويثورُ الجمهور طلبًا لاستعادة الأسرى ولا يختلفُ مع نزوات اليمين وأهدافه الحارقة، والجميعُ مُتساوون فى تقديم خطوةٍ وتأخير الثانية باتِّجاه الصدام مع حزب الله على الجبهة اللبنانية؛ فكأنها قافلةٌ تخترقُ الصحراءَ دون دليلٍ، ويودُّ كلُّ مُسافرٍ فيها لو اختطّ لنفسه طريقًا غير الآخرين.


لا يجهلُ الإسرائيليِّون ما يُريدونه؛ إنما لا يعرفون كيف يصلون إليه كاملاً، ومن أيسر السُّبل وأقلِّها مَشَقّة. إنهم يطمعون فى الجغرافيا الفلسطينية دونَ شِبرٍ ناقص ودون بشرٍ أيضًا، والسبيل لذلك أن تكون دولتُهم قادرةً على الفرز والاستبعاد، وإغلاق مسارات الاندماج فى الآخرين أو استيعابهم. على هذا المعنى؛ يتعيَّن أن يكون الكيانُ صافيًا، والمصفاةُ ضيِّقةً بما لا يسمح بمرور الشوائب غير المرغوبة، وهكذا يتساندون إلى الدِّين الذى صار عِرقًا، ويستمسكون بالصِّفَة اليهودية الخالصة. وفى الوقت نفسه يتعلَّقون بأهداب المَدَنيَّة الحديثة، والمُعضلةُ أنها تَفرضُ شَكلاً تنظيميًّا ومُؤسَّسيًّا غير ما آلت إليه اليوم، ويبدو التوفيق بين المسألتين مُستحيلاً. وهُم إذ يستعيرون التاريخَ لإرساء الوَصْل المطلوب مع الأرض، يُعانون أثرَ اتِّصال عَدوِّهم الوثيق بالجُغرافيا وذاكِرَتِها؛ فتصيرُ القوَّةُ العارية سبيلَهم الوحيدةَ لرَدمِ الهُوّة الواسعة بين الزمنين، مع ما يترتَّب عليها من تضييع الميراث الغائب بأثر الوحشيَّة الحاضرة.. تبدو الأزمةُ كلُّها فى الوعى اليهودىِّ المحبوس داخل قُمقم الصهيونية، بين أن يكون دِينًا أو عِرقًا أو كليهما، دولةً أَمْ عصابة، ونظامًا مُتصالِحًا مع العصر أمْ قبيلةً تُعيد إنتاج الماضى؛ إنما على صورٍ أردأ وأقلّ إقناعًا وقابليّةً للحياة.


لا يغيبُ المأزقُ نفسُه عن الضفّة الأُخرى. فالفلسطينيِّون الذين اختبروا المأساةَ فى أوَّلها من زاويةٍ فرديّة، استهلكوا عقدين كاملين حتى تشكّلت نظرتُهم للقضية فى إطارٍ وطنىٍّ صافٍ. تشكّلت «فتح» بمعونةٍ مصرية فى أوائل الستينيات، ومن هيئة مُوزّعةٍ بين الإسلاميين والبعثيين؛ اكتشفت طلائعُ المقاومة معنىَ ووُجوبيّة أن تكون فلسطينيّةً، وأهمية أن تنبُعَ الرؤيةُ من الأرض المُحتلّة؛ وإن تقاطعت مع الخارج فلفائدة الداخل أيضًا. الشرخ أحدثته التيَّارات الأُصوليَّة بعد انتفاضة الحجارة؛ عندما أزاحت الشالَ لصالح العمامة؛ ثمَّ بدّلت ألوانها بين الحِقَب والتحالفات. والحادثُ الآن أنَّ «حماس والجهاد» مثلاً لا يعرفان كيف يُوائمان بين الالتزام الوطنىِّ وقيود المحاور؛ بل ربما يفتقدان التعريفَ الدقيق لنفسيهما، اتّصالاً بالحاضنة القريبة التى تُنازِع المُحتَلَّ على حقوقٍ عادلة، أو الحاضنةِ البعيدة التى تختصمُه فى أمورٍ أُخرى، تحكمُها اعتباراتٌ نَفعيّة أبعد ممَّا بين النهر والبحر، وأقلّ إلحاحًا من هُموم المنكوبين فى غزَّة والضفَّة.


الالتباسُ يتأتَّى من مسألتين: أُولاهما أنَّ التمسُّك بالتعريف الدينى للنزاع يُسبِغُ شيئًا من الوجاهة على سرديّة الغريم؛ ولو فى نظر رُعاته الغربيِّين، والثانية يتجلَّى أثرُها فى فرز البيئة المحلية على قاعدةٍ غير وطنية، وترصيصها بمعايير الأيديولوجيا والإيمان؛ فيقع الانقسامُ بالضرورة كما حدث قبل عقدين فى القطاع. وما لا يُمكنُ إنكارُه أنَّ الفصائل التى اعتمرت عِمامةَ الإخوان حينًا؛ ثمَّ استبدلتها بعمائم شيعيّة لاحقًا، أدخلت نفسَها فى مُنعطفاتٍ خصمت من نقاوة القضية ولم تُضِف إليها. وهذا الاعتبارُ إنما يُلزِمُهم بانحيازاتٍ ومُمارسات لا تُشبه فلسطين، ولا تقع من أىٍّ منظورٍ فى نطاق المقاومة؛ إذ لم يكُن انخراطُ «حماس» فى أعمالٍ عابرة للحدود، أو شراكتها فى أنشطة إخوانية مُعادية لدول الجوار، ثمَّ اشتباكها مع النزاع السورى عندما اندلع بالعام 2011، ممَّا يتناسبُ مع طابعها النضالى وأدوارها المشروعة بمُوجَبه؛ بل بدا انحرافًا فى التأسيس والمُمارسة، وتوظيفًا انتحاليًّا مُلوَّنًا لوجاهة الخطاب المُقاوم؛ من أجل خدمة سُلوكٍ عدائىٍّ لا يختلف كثيرًا عن طابع الاحتلال وآثاره الثقيلة.


والحُكم نفسُه ينطبق على حزب الله فى لبنان. لقد أسَّس مشروعيَّتَه على التصدّى لاقتحام بيروت فى 1982، ومن بعدها نضالات التحرُّر واستعادة أراضى الجنوب. أصابَ فى بعض أهدافه وأخفقَ فى غيرها؛ إنما لم يكُن من الصواب إطلاقًا أنْ يتزحزحَ عن الثابت الوطنىِّ، وُصولاً إلى الانزلاق الكامل فى لُجّةٍ أجندةٍ إقليمية مُغايرة له، أو بالأحرى مُضادّة تمامًا. لقد اخترع نزاعًا غير مُبرَّرٍ فى العام 2006، وقال أمينه العام حسن نصر الله بعدها إنه لو عَلِم أنَّ اختطاف الجُندِيَّين سيُحدِث هذا الأثرَ ما أقدمَ عليه؛ لكنه بقدر المُغامرات الطائشة على الحدود، لم يُوفِّر فرصةً لإنجاز ما يَفوقُها حجمًا وتكلفةً فى الداخل. اغتِيل الحريرى، واقتحمَ الحزبيِّون العاصمة، واستحدثَ «الثلث المُعطِّل» للإمساك بخناق السلطة، ثمَّ صُرِفَ رصيدُ «حرب تمّوز» لصالح إحكام السيطرة على مفاصل البلد، وتطويعها لصالح المشروع الشيعى الصفوى فى المنطقة. وإن كانت المقاومةُ تُسوِّغ الاشتباكَ مع العدوِّ فى كلِّ حينٍ وعلى أيّة صورة؛ فإنها لا تُبرِّر إرهابَ الأشقاء أو حَملَهم بالقوَّة على ما ينقُضُ ميثاقيَّة العَيش المُشترك، كما لا تُبرِّر أيضًا دخولَ سوريا والانخراط فى حربها الأهلية، ولا تدريبَ عناصر الحوثيِّين وتسليحهم واستضافة قنواتهم ومُتحدِّثيهم فى الضاحية. هكذا تلتبسُ الهُويَّة حتى على صاحبها؛ إذ لا شكَّ فى أنَّ «نصر الله» يقتنعُ بطُهرانيّة انحيازه، وسلامة موقفه، وإخلاصه لبلده وعِرقه وقضايا المنطقة العادلة؛ بينما فى الواقع يبدو واقفًا على الجانب المُعاكس تمامًا.


يبدو النزاعُ مع الصهاينة واضحًا للغاية؛ لو حصرناه فى الأرض والحقوق السليبة. لكنّه فى الواقع أعقدُ من هذا وأعمق؛ إذ يقعُ أوّلاً فى نطاق المفاهيم، وتستعرُ نيرانُه بشَرَر الهُويّات التى تتَّخذ طابعًا مُنغلِقًا وإلغائيًّا، تزدادُ فداحتُه بالنظر إلى أنها لا تستقرُّ على وعىٍ كاملٍ بنفسها أوّلاً؛ لذا فإنها تخوضُ صراعًا مُركّبًا طوال الوقت: ظاهره البسيط مع الآخر، وباطنُه المُعقَّد مع الذات. وإذا كان من الصعب استشراف أن تتشافى إسرائيلُ من أمراضها البنيويَّة المُرافقة لها منذ التأسيس؛ فالأيسر والأهمّ أن يُعِيدَ خصومُهم النظرَ إلى ذواتهم، وتنقيحَ أفكارهم وخطاباتهم، وإعادةَ بناء تصوّراتهم عن أنفسهم، وعن القضية والعدوّ. إن كانوا فى تل أبيب مُتردِّدين بين الدولة والعصابة؛ فلا سبيلَ لاختصامهم بأدواتهم بما هى عليه من عوارٍ وارتباك، ولو كانوا يطمعون فى شَطب الفلسطينيين فقد لا يكون مُناسبًا أن نردَّ بخطابٍ إلغائى مُقابل، وإن كانوا يُؤصّلون وجودَهم على مِهادٍ تاريخىٍّ وعقائدىٍّ؛ فالأوجبُ أنْ نتشدَّد فى الاعتصام بالحاضر والصِّفَة الوطنية الخالصة. وما الدولة الفلسطينية المطلوبة سوى تعبيرٍ عن هُويّةٍ يُحاربها الاحتلالُ بسرقة الأرض من تحتها؛ لذا فالخطوةُ الأُولى والأَوْلَى لتثبيت الأقدام على التراب؛ أن تثبُت رُوحُ الدولة الجامعة فى الصدور أوّلاً؛ كل الصدور دون استثناء، ومن دون شعاراتٍ غامضةٍ أو تحالُفاتٍ مشبوهة.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة