مها عبد القادر

الطبيعة الإنسانية.. الماهية والتفرد

الأربعاء، 05 يونيو 2024 04:58 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

قال تعالى: في محكم التنزيل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) – التين: 4 – وسمة التكامل يظهر فيها إبداع الخالق؛ إذ تبدو سعادة الإنسان في تكامل الروح مع الجسد وتناغمهما مع العقل، الذي يعد ضابطًا وموجهًا لممارساته وأفعاله وأقواله؛ فالإنسانية والرحمة والعطاء وكف الأذى عن الخلق مقصودٌ عظيمٌ من إعمار الإنسان للأرض، ومن ثم يتفرد الإنسان عما سواه من مخلوقات على وجه البسيطة لتصبح له السيادة والتحكم في إدارة شئونها بحكمةٍ وتؤدةٍ وجهدٍ منظمٍ مستدامٍ قائمٍ على استغلال ما يمتلكه من مقدراتٍ.

ولتلك الطبيعة الإنسانية المتفردة أسلوب حياةٍ وقابلةٌ للتغيير والتعديل والثقل من خلال ما يقدم لها وتمر به من خبراتٍ وما تواجهه من مشكلاتٍ حياتيةٍ متنوعةٍ؛ فالتفكير سمةٌ تساعدها على النمو والتطور، والتغلب على ما يواجهها من تحدياتٍ أو أزماتٍ طبيعيةٍ كانت أم مصطنعةٍ، وهذا سر تطورها وتقدمها؛ حيث تعمل دومًا على حل المشكلات وتصل عبر مراحلها لصيغٍ ابتكاريةٍ تحدث نقلاتٍ نوعيةٍ في الحياة قاطبة؛ فكما يقال الحاجة أم الاختراع.

وهنا يمكننا التأكيد على أن الطبيعة الإنسانية جبلت علي حب المعرفة والاستكشاف والتعرف على كل ما هو جديدٌ، وهذا ما ينبغي استغلاله في قابليتها للتعلم؛ حيث يتوجب أن نبادر بالتحفيز والتهيئة قبل تناول الخبرة المتعلمة؛ كي يصبح الذهن قابلاً للانخراط في تفاصيل المهمة المتعلمة بشكلٍ يغلب عليه عمق الإبحار والتمعن القائم على ماهية المعنى والمغزى؛ فنرى دأبًا وحرصًا متلازمين لنيل مستحدث الخبرة المنشودة.

وفي واقع الحال يصعب أن نميز بين إنسانٍ وآخرٍ في مقدرته على التعلم؛ فالمبدأ الرئيس يؤكد على الإمكانية المطلقة دون سواها؛ بغض النظر عن الفروق الفردية في الوصول للهدف المرتقب، ومن ثم أضحى التعليم أمرًا ملحًا لاستكمال تهيئة وإعداد الطبيعية الإنسانية؛ لنضمن انسجامها السليم مع مفردات البيئة وتعقيداتها المتوالية وتواتر ما يتمخض عنها من مشكلاتٍ وقضايا مستحدثةٍ.

وبما لا يدع مجالًا للشك فإن لكل مرحلةٍ عمريةٍ خصائصها التي تستوجب أن نراعيها فيما نقدمه لها من رعايةٍ واهتمامٍ ومحتوى خبراتيٍ تستطيع من خلاله أن تحقق غايتها وتلبي احتياجاتها الآنية والمستقبلية، وتحاول أن تستعد لتغيرات المرحلة التالية؛ فيحدث ما نسميه التكيف والتوافق والانسجام مع البيئة من جهةٍ ومع مكوناتها المتنوعة من جهةٍ أخرى؛ فنضمن تجنب حدوث الانعزالية في مقابل التفاعلية وانخراط يحقق شراكةً مرغوبًا فيها.

ونظرًا لتكامل طبيعة البشر؛ إذ إن الروح والجسد والعقل في صيغةٍ من التكامل؛ فيجب مراعاة متطلبات تلك المكونات فيما نقدمه لها من معارفٍ أو ممارساتٍ أو وجدانياتٍ؛ حيث تتشبع الروح بالمشاعر والجسد بالتدريب والعقل بالتفكير عبر بنى معرفيةٍ صحيحةٍ، ومن ثم نضمن تكامل صورة الخبرة لحدوث التكوين السليم لعمليات النمو، ونتجنب التشويه المحتمل ولو بدون قصدٍ جراء إهمال جانبٍ من جوانب الطبيعة الإنسانية.

وفي هذا الخضم ندعو مؤسساتنا التعليمية أن تراعي بصورةٍ مخططةٍ ومقصودةٍ مكونات الطبيعية الإنسانية؛ فتقدم مناهجًا تعليمياً متضمناً لمحتوى يعمل على تغذية العقل والروح والجسد بصورةٍ متكاملةٍ؛ فلا مجال لأن يطغي جانبٌ على آخر، مع الأخذ في الاعتبار توافر ما يسهم في تنشيط الوجدان كي تستقبل الأفهام والأذهان ما تتعرض له من مناشطٍ وخبراتٍ تعليميةٍ، ومن ثم يبدو الاستعداد للأداء والممارسة والتطبيق بالصورة التي نترقبها وننشدها من متعلمنا.

والحاجة إلى تنوع الخبرات أضحى لا مناص عنه؛ إذ ينبغي أن نقدم وجباتٍ متنوعةٍ تلبي احتياجات الطبيعة الإنسانية التعليمية منها وغير التعليمية، كما يجب أن نراعي تعددية ومداخل التعلم التي تضمن وجود رغبةٍ واستعدادٍ وقابليةٍ تجاه ما يعرض من خبراتٍ متعلمةٍ، وللبيئة دورٌ في هذا الأمر؛ فهناك خبراتٌ يفضل تناولها في الفضاء المطلق وثانية يفضل اكتسابها بالبيئة الصفية، وثالثة يفضل التعامل معها في مناخٍ منضبطٍ كمعملٍ أو مصنعٍ أو ما شابه.

ولندرك أن بناء وإصلاح وصلاح الطبيعة الإنسانية يقوم على عاتق الوسائط التربوية المختلفة، وخاصة الأسرة والمؤسسات التعليمية والمجتمع بمؤسساته المختلفة؛ فالكل يشترك في تربية وإعداد الإنسان؛ حيث إن التأثير كائنٌ من كل حدبٍ وصوبٍ؛ فالخبرة إما نقدمها مقصودةً في مناخ البيئة التعليمية فيكتسبها المتعلم، وما يقتنصها من البيئة الخارجية بغير قصدٍ، ومن ثم أضحى الأثر قائمًا؛ ومن ثم تتفرد الطبيعة البشرية بمشاعرٍ وتفكيرٍ راقٍ وإحساسٍ يتلمس ما يدور حولها في جسد أحسن الله صنعه يعمل بتناغم وتوافق ليساعد الإنسان في أن يؤدي رسالة الإعمار المبهرة والفريدة على كوكب أستخلفه الله فيه.
__________
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة