عندما أكدنا أن الكتاب المقدس «التوراة» تحول إلى كتاب تاريخ، أو بالأحرى كتاب «أطلس التاريخ والجغرافيا السياسية» وأن الإسرائيليين دشنوا حديثا ما يسمى اصطلاحا «علم الآثار التوراتى أو التلمودى» لإثبات حقوق تاريخية وجغرافية لا وجود لها إلا فى خيالهم، ومحشو بمعلومات متجاوزة التاريخ والكتب المقدسة، وكما اتفقنا على تدشين مصطلح مهم وهو أن التاريخ عبارة عن «كتالوج» يساهم فى تفكيك وتركيب الأحداث والوقائع فى مكانها الصحيح، نكشف اليوم حقيقة راسخة تاريخيا، ومنقوشة على الشواهد الأثرية المختلفة، أن التوراة بعد إعادة صياغتها على يد الكهنة فى القرن السادس قبل الميلاد، استبعدوا عمدا سيطرة مصر كإمبراطورية مسيطرة على الشام والهلال الخصيب وحتى الفرات وفى الجنوب حتى أعالى النيل، فى عهد الملك تحتمس الثالث أحد أبرز القادة العسكريين فى تاريخ مصر، والعالم القديم.
وكشف باحثون معلوم عنهم نزاهتهم فى التناول، والدقة فى البحث وإعلاء شأن الحقائق دون رتوش، أن الكهنة أثناء تواجدهم فى بابل خلال القرن السادس قبل الميلاد، قد أعادوا صياغة كتب العهد القديم، فاستعاروا مما دونه المصريون القدماء على الشواهد والوثائق الأثرية والتاريخية، قصص حروب الملك تحتمس الثالث من الأسرة الـ18 والذى حقق انتصارات مدوية، استطاع من خلالها إنشاء إمبراطورية مصرية بين «النيل والفرات» وأن أبرز وثيقة تكشف هذه الحقيقة المؤكدة ما هو مدون نصا على جدران معبد الكرنك، والمسجلة فيها كل حروبه وكيف انتصر، كما سجل ما استقدمه من البلاد التى سيطر عليها من نباتات وفاكهة لزراعتها فى مصر.
وحسب تأكيدات الباحثون أن الكهنة استعاروا هذه الحقائق التاريخية المصرية، نصا ودون تغيير، وأضافوها إلى رواية ملكهم «داود»، فظهر الخلل فى السرد، فنجد النص يسرد أن الملك داود ومعه جيشه المؤلف من 600 رجل فقط، يحاربون فى صراعٍ داخلى بين القبائل الإسرائيلية، أو مع الفلسطينيين، وفجأة النص ينتقل لسرد تفاصيل معركة كبيرة تخوضها جيوش منظمة فى مواقع محصنة عديدة من أرض الهلال الخصيب، وهى نقلة فى السرد غريبة وعجيبة، ما يؤكد حقيقة قرصنة الرواية التاريخية المصرية لتتوسط رواية الملك «داود».
الغريب ووفق استنتاجات الباحثين، أن الكهنة الذين أعادوا صياغة التوراة، وتحويله من كتاب مقدس إلى كتاب تاريخ، لم يضعوا فى حساباتهم أن إقحام الرواية التاريخية المصرية، والتى تسرد تاريخ الإمبراطورية المصرية ما بين النيل والفرات، فى نص الرواية التى تسرد مُلك «داود» سيحدث خللا كبيرا فى السياق، وهو ما يُمكن أى باحث مبتدئ من ملاحظة هذه الخلل فى السرد.
الكهنة كان هدفهم الرئيسى فى القرصنة على تاريخ مصر الناصع، لتدوين انتصارات عظيمة تُنسب لهم، ومن ثم اقتبسوا مقولة «الإميراطورية المصرية ما بين النيل والفرات» وحرفوها إلى «إسرائيل الكبرى من النيل للفرات» واتخذوها شعارا لمشروعهم الاستعمارى والتوسعى.. والمقولة مسجلة على واجهة الكنيست الإسرائيلى حاليا!
عالم الإنسان، والباحث والمؤرخ التاريخى الإسرائيلى «زئيف هرتسوج» اعترف بأن الوصف التوراتى لمملكة داود، لا يتطابق مع الواقع الجيوسياسى للمنطقة، ذلك أن فلسطين كانت فى الواقع تحت السيطرة المصرية وقد ظلت كذلك حتى منتصف القرن الثانى عشر بعد الميلاد، إضافة إلى أن المراكز الإدارية المصرية كانت واقعة فى غزة ويافا وبيت شان، ومن المستغرب أن التوراة لم تذكر إطلاقا ذلك الوجود المصرى فى نصوصها المزعومة.
«هرتسوج» فجر أمرا مهما، بأن التوراة بالغت كثيرا فى تصوير قوة تحصيات المدن الكنعانية التى يقال بأن بنى إسرائيل قد غزوها ومفادها نصا: «مدن كبيرة ومحصنة ومرتفعة حتى السماء».. وهى المقولة التى تتناقض مع ما توصلت إليه جميع الاكتشافات الأثرية بفلسطين، بأن مدن تلك المرحلة لم تكن تحتمى بأية تحصينات عدا قصر الحاكم والأمير، ومن ثم فإن الثقافة المعمارية التى كانت سائدة فى فلسطين عند نهاية العصر البرونزى لم تكن تضع احتمالات الغزو العسكرى فى حساباتها.
وللحديث بقية إن شاء الله.. إن كانت فى العمر بقية.