الموت عمل شاق، هي الرواية قبل الأخيرة للكاتب السوري الكبير خالد خليفة الذي خطفه الموت وهو لم يكمل عمره الستين العام الماضي، هي رواية شاقة ومؤلمة في مشاعرها، وشيقة في سردها الذي لا يتوقف لحظة عن خطف أنفاسك على نحو وشيك، في تلك الرحلة السرمدية لمحاولة ثلاثة أبناء دفن والدهم في مقابر العائلة بريف حلب شمال سوريا، تلك الرحلة المحفوفة بالموت من كل صوب، فلا يأمن الأحياء على حياتهم، لا يأمنوا حتى على جثة أبيهم. حواجز كثيرة يجب عليهم أن يجتازوها في رحلة من جنوب لشمال سوريا، وحواجز نفسية أكثر يجب أن يتجاوزوها لرأب الصدع بينهم كأشقاء تفسخت بينهم عُرى الأسرة والمحبة ، وصاروا جزرا منعزلة.
وطن تمزقت أوصاله، وصار كل شيء فيه شاق حتى الموت نفسه صار عملا شاقا فما بالك بالحياة، ولعلني لا أجد خير وصف لما ذكرت أفضل من الاقتباس من الرواية ما يوضح ذلك "مرور جنازة كان يثير تعاطف الجميع أيّام السلم، السيّارات تفسح الطريق، المارّة يتوقفون وفي عيونهم تعاطف حقيقي، لكن في الحرب مرور جنازة حدث عادي لا يثير أيّ شيء سوى حسد الأحياء الّذين تحوّلت حياتهم إلى انتظار مؤلم للموت."
أهم ما يميز رواية الموت عمل شاق هو قوة السرد وتماسكه فهو لا يحيد عن رحلة جثمان عبداللطيف الذي يحمله أولاده إلى مسقط رأسه بقرية العنابية، رواية طريق بامتياز، تقطعه للوصول إلى الدفن بجوار ليلى أخت عبداللطيف الميت الذي أراد أن يعتذر لأخته ليلى التي أجبرتها العائلة في الماضي من الزواج بشخص لا تحبه، فانتحرت وأنهت حياتها خيرا لها أن تحيى مع رجل لا تهواه، ولذلك فربما تكون وصية أخيها عبد اللطيف بالدفن بجوارها ما هو إلا بمثابة قبلة اعتذار على جبين ميت، لكن ما يفيد الميت من قبلة على جبينه؟!
يسير سرد الرواية في مسارين متوازيين أحدهما يروي الأحداث التي تقع في الوقت الراهن والثاني عبارة عن عودة للماضي في فلاش باك ساردا فيه خلفيات وتاريخ هذه العائلة وشكل نشأتها وسؤال ملح عن مدى وجود ترابط أسري من عدمه، والذي سينعكس لاحقا على تلك الرحلة الطويلة، كل هذه الأحداث تخيم على خلفياتها الراهن السوري وتأثيراته على شخوص الرواية، فيشتبك المسارين في ضفيرة روائية واحدة ذات أبعاد جمالية أخاذة، فلا تعرف من هو المحظوظ أهو الميت أم الأحياء أو كما جاء في الرواية " لم يعد الموت فعلاً يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصاً يثير حسد الأحياء.
خالد خليفة يعري كل شيء في هذه الرواية.. يعري الموت والحياة والقيم الزائفة وينتصر لكل ما هو جميل حتى ولو كان غير مألوفا فلا تستطيع أن تمنع نفسك من حب ليلى التي رفضت ما اختاره لها الأهل واختارت هي موتها على أن يتم إجبارها على فعل شيء تكرهه.
يعجبني دائما في خالد خليفة انحيازه للحياة الحقيقية التي يجب أن نحياها لا التي نعيشها وفقط، هو يريد أن يختار الحياة بأناقة كمن يختار رابطة عنقه، وكما يختار هو عناوين رواياته بعناية فائقة تأمل معي الأسماء الشعرية التي منحها لرواياته مثل رواية مديح الكراهية أو رواية لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة أو روايته لم يُصلِّ عليهم أحد.
في النهاية لا أستطيع أن اقول فقط أن الموت عمل شاق، بل أزيد من العنوان الشاعري بيتا وأقول: الموت عمل شاق .. عمل روائي جميل.