يحلّ «بلينكن» ضيفًا على المنطقة خلال أيام، والجولة تشمل مصر والأردن وقطر، وبالطبع إسرائيل؛ ولعلّه يزورها تلك المرَّة بصفتِه وزيرًا لخارجية الولايات المتحدة، لا بالصفة اليهودية التى ساقته أوَّلَ الحرب وغلَّفت كلَّ زياراته التالية لها.. لم يتغيَّر انحيازُ الإدارة الأمريكية لتل أبيب، ولسنا فى وارد الحديث عن استفاقةٍ ضميريَّة أو اعتدالٍ فى رُؤيتها للصراع؛ لكنها المصلحةُ نفسُها التى شجَّعتها على التغوُّل سابقًا، وتُحفِّزها حاليًا على البحث عن مخارج أقلّ جنونًا..
مُفردات الميدان كلُّها على حالها القديمة؛ إنما التغيُّر فى نظرة بايدن وفريقه للأولويات بحسب السياق الزمنى. لقد رأى قبل تسعة أشهرٍ أنَّ لديه فُسحةً من الوقت لنُصرة حليفه ظالمًا ومُدّعيًا للمظلومية، وها قد تآكلت المواقيتُ ولم يعُد بإمكانه النجاة إلَّا من بوَّابة الاستدارة الكاملة على الذات. أفلتت خطَّةُ الإجهاز على غزَّة من عقالها، وبدا أنَّ المُغامرة التى رُسِمَت باعتبارها نُزهةً عابرةً لعدَّة أسابيع؛ تطاولت إلى أن صارت معركةَ استنزافٍ مفتوحةً من دون أُفق، والحال أنّ التداخُل اليوم من قبيل التحامل على الغزِّيين أيضًا؛ إذ غرضُه إنقاذ الصهاينة من أنفسهم أوّلاً، وتطويع ظروف المُواجهة لصالح جيش الاحتلال فى أزمته الطويلة، والتحايُل على تحوُّلات البيئتين الإقليمية والدولية؛ بحثًا عن تهدئةٍ غير مُكلِّفة، وترسيمًا لمعالم مرحلةٍ سياسية تتحصَّل فيها شروطُ النصر لهم، بالمُخالفة لكلِّ ما يتشكَّل فى فضائهم من ملامح الهزيمة.
أعلن الرئيسُ الديمقراطى العجوز خطَّتَه للتهدئة قبل عشرة أيام تقريبًا، ومن وقتها لم تهدأ واشنطن فى مساعيها لإكساب الورقة زخمًا يتجاوزُ البصمةَ الأمريكية، وتسويقها على صِفة الإجماع والاحتضان الدوليِّين، هكذا أصدرت بيانًا مُشتركًا مع ستِّ عشرة دولة يدعو حماس فى المقام الأوّل للتجاوب معها، وإسرائيل بدرجة أقلّ، وأعدَّت مشروعَ قرارٍ بالمعنى نفسه لتمريره من قناة مجلس الأمن.. وإذا كانت عادةُ البيت الأبيض أنه لا يتوقَّف باحترامٍ أمام أُطر الشرعية الدولية؛ حينما تتسلَّط عليه الرغباتُ والأهواء، والمثال غير البعيد عندما غزوا العراق دون مشروعيةٍ أو تفويض؛ فإنَّ تحوُّلَه عن خيارِ الاستبداد بالأمر إلى مُحاولةِ مَنحه عنوانًا أُمَميًّا، ربما يكشفُ عن رغبةٍ فى غَسل اليد من سوابق تعطيل قرارات وقف إطلاق النار، وسَتر الرؤية الإسرائيلية بعباءةٍ دولية، والأهمّ تحييد نزوات الكونجرس وانفلاته فى مُؤازرة اليمين الصهيونى من دون كوابح؛ لا سيَّما مع دعوته بنيامين نتنياهو لإلقاء خطابٍ أمام مجلسيه، واستباقه بتمرير قانون لمُعاقبة المحكمة الجنائية الدولية؛ بعدما أفصحت عن رغبةٍ فى استصدار مُذكَّرة توقيفٍ بحقِّه ووزير دفاعه. فكأنَّ «بايدن» بكلِّ صهيونيته يستشعرُ أنَّ تفاعُلات الداخل باتت تتجاوزُ الحدودَ الآمنة، وعليه أنْ يُنظِّم الانحيازَ فى قالبٍ قانونى، ويسدّ أبواب المُزايدة فى وجوه المُتطرِّفين من الجمهوريين والديمقراطيين؛ قبل أن يذهب لصناديق الاقتراع تحت راية الحرب، ويعود منها مُسدِّدًا تكاليف الإخفاق كلَّها من رصيده الشخصى.
يبدو المشهدُ مُصطنَعًا بعنايةٍ فائقة. فالخطَّةُ بحسب البيت الأبيض مُقترَحٌ إسرائيلىٌّ يستندُ للعناصر الأساسية التى أقرَّتها «حماس» سابقًا، وفى الجانب الآخر يقول مكتبُ نتنياهو إنهم وافقوا على التصوُّر رغم قِلَّة جَودته. فكأنَّ واشنطن تمنحُ نِقاطًا مجّانيةً لتل أبيب بنسبة الفكرة إليها، أو تُتيح هامشَ مُراوغةٍ لرئيس حكومتها أن يغسلَ يديه منها أمام حُلفائه التوراتيِّين. وفى المُقابل تتَّخذ الإدارةُ الأمريكية طابعَ المُبادرة فى البحث عن مدخلٍ للتسوية؛ فلا تعود تُهمةُ الانحياز والشراكة المُباشرة فى الحرب صالحةً للتداول، ولا قادرةً على الطَّعن فى مركزها كوسيطٍ وضَامنٍ للاتّفاق. وهكذا فالورقةُ الواحدة تُوزِّع مزاياها على الطرفين، دون نسبتها لأحدهما بمفرده. ما يُتيح تحصيل مكاسبها الكاملة، ويفتحُ مسارًا فرعيًّا للإفلات من كُلفة فشلها المُحتمل. وحال اتِّخاذها صِفةً دوليّة من خلال مجلس الأمن؛ فسيُلقَى عِبئُها بالكُلِّيّة على كاهل الفصائل الغزِّية، لناحية أنَّ العالم يصطفُّ وراء بايدن، وهو نفسُه يدعمُ الرؤيةَ العِبرية، ولا يصحُّ بالتبعيّة اتِّهامهما بالمسؤولية عن إفشالها؛ مهما بدت بنودُها مُهندَسَةً فى اتِّجاهٍ واحد، ولصالح طرفٍ بعينه من الطرفين المُتصارعين فى غزّة.
مثلما أُرِيدَ منذُ البداية أن ينزوى الصراعُ الأصلىُّ وراء التطوُّرات الظرفيّة، وسَعَى حُلفاءُ إسرائيل جميعًا لاختزال الأزمة فى مشهد «طوفان الأقصى»؛ بدلاً من توصيفها الصحيح باعتبارها مُحصِّلةَ ثمانية عقودٍ من المظالم التاريخية. يُرادُ الآن تصفيةُ تركة الشهور الماضية بتمامِها، وإغلاق دفتر التقتيل وتغييب المسارات السياسية؛ لصالح البدء من الصفر تحت لافتة الورقة الجديدة. وسيُساقُ أىُّ اعتراضٍ على النصوص والتفاصيل الدقيقة للاتفاق؛ باعتباره مُناكفةً من «حماس» ورغبةً ذاتيّة فى إبقاء دائرة النار وعدم الرضوخ لالتزامات التهدئة. والواجب أن تُؤخَذَ كلُّ الرؤى والأفكار بعين الاعتبار قبل الإشارة إلى المُسوَّدة النهائية، أو تسويقها دوليًّا ودَفع مجلس الأمن وأطرافه الفاعلة لتبنِّى النُّسخة المُحدَّثة؛ إذ استباقُ طاولة الوساطة باستخلاصِ قرارٍ أُمَمىٍّ لا يجعلُ المسألةَ مَوضوعًا للتفاوض أصلاً، بقدر ما يُسبغ عليها حالةً «عَقد الإذعان»، ويُمرِّر رُؤيةً إجباريّة تصبُّ بالضرورة فى صالح صُنّاعها حصرًا، وقد قال «بايدن» بلسانه إنها صناعةٌ إسرائيلية بالأساس.
ما فات ربّما يُلقى شكوكًا على الصيغة الأمريكية لتبريد الجبهة؛ إنما لا يعنى فى الوقت نفسه أنَّ «حماس» مُتحرِّرة تمامًا من واجبات الانخراط الجاد فى ورشة البحث والتقويم؛ لا سيَّما أنها تطوَّعت سريعًا بإبداء تعاطيها الإيجابى مع الطُروحات؛ وصار عليها بالضرورة أن تستكملَ العاطفةَ الأُولى بمُقاربةٍ مادية صالحة للتداول، وقادرةٍ على الاشتباك مع مفاصل الفكرة وإقامة الحجّة عليها بالبيِّنة والمنطق، وأهمُّ من ذلك أن تسدَّ الثغرات التى يُمكن أن ينفُذَ منها الغريمُ لتحميلها مسؤوليةَ التلكّؤ والتعطيل، أو نسبة مَواقفها المُنتظَرة لأجنداتٍ إقليمية «فوق فلسطينية»؛ لا سيِّما بعدما دخلت طهران على الخطِّ من نقطةٍ مُفاجئة، وصرَّح المُرشد على خامنئى بما يعنى رفضَه للتهدئة وعدمَ التشجيع عليها؛ لذا سيكون على القسّاميِّين أن يُعبِّروا عن أعلى قدرٍ من الاستقلال عن حسابات المحاور والتيَّارات المُتصارعة إقليميًّا، وتأكيد أنهم ينطلقون من أرضيّةٍ وطنية حصرًا، ولا يُحرّكهم سوى البحث عن صالح القضية، واستكشاف المسارات التى تعودُ بالمنفعة على فلسطين وأهلها، بغضّ النظر عن أيّة أبعادٍ أيديولوجية وتنظيمية خاصّة.
يخوضُ نتنياهو لعبةً شديدةَ التركيب؛ فمن ناحيةٍ يرخى حَبلَه قليلاً للحليف الأمريكى دون إبداء الالتزام الكامل بإرادته، وبالدرجة نفسها يُراوغُ الأصدقاءَ والخصوم فى الداخل؛ لامتصاص غضب الشارع، دون خسارة إسناد المُكوِّن التوراتى فى حكومته. لقد أوحى بمُجرَّد قَبوله للورقة بأنه يخضعُ لرغبة الجمهور فى إنجاز الصفقة واستعادة الأسرى، ثم أرسل تطميناتٍ لسموتريتش وبن جفير بأنه على العهد، ولم يتخلّ عن أهداف الحرب المُعلَنة بالقضاء على حماس وتكسيح قطاع غزّة. والواضح أنه يُراهن على موقف الطرف الآخر؛ بمعنى أنه لا يُريد الاتفاق، لكنّه يُفضِّل إفشالَه من جانب الحماسيِّين، وقال لحلفائه المُتطرِّفين ما يحملُ تلك الخُلاصة. وإن كان لم ينصرف تمامًا عن دراسة كلِّ البدائل المُمكنة؛ كأن يتواصلَ مع أفيجدور ليبرمان لإحلاله على رأس وزارة الدفاع، بدلاً من الليكودى اللدود يوآف جالانت، وهو إن كان يُفتِّش عن إعادة تركيب الائتلاف بما يضمنُ بقاءَه تحت كلِّ الاحتمالات؛ فالنقطة الأعمق أنه يسعى لخلخلة تيَّار المعارضة، ونَقضه من داخله، وضمان ألَّا يتمكَّن «لابيد» من بناء جبهةٍ واسعة مُضادّة له؛ خصوصًا حال وفاء بينى جانتس بتهديدات مُهلته المشروطة منذ ثلاثة أسابيع.
كان «جانتس» قد أعلن ستَّة مطالب أساسية، ورهن وجودَه فى حكومة الطوارئ المُوسَّعة باستجابة نتنياهو لها ببرنامجٍ تنفيذىٍّ واضح. ويُفتَرَض أن يعقدَ مُؤتمرَه الصحفى عصر السبت، والجريدة ماثلة للطبع، وإن كان الأرجح أن يُعلنَ مُغادرة كابينت الحرب؛ فإنَّ الاستمرار أو الرحيل الآن يتساويان.. الفائدةُ التى كان زعيم الليكود يتطلَّع إليها من الشراكة تحصَّل عليها كاملةً، وامتداد العلاقة بتركيبتها القائمة قد صار عبئًا عليه أمام حاضنته اللصيقة، بينما لم يعُد قادرًا على استغلال ثِقَل يمين الوسط فى ترويض التوراتيِّين، ولا توظيف الأخيرين فى تطويع إملاءات مُعسكر الدولة؛ بعدما فتحوا قناةَ اتّصالٍ مُباشرة مع البيت الأبيض، وبات الجدالُ محصورًا فى ترتيبات المشهد السياسى ما بعد الحرب. باختصار؛ فإنَّ كلَّ يومٍ للخصوم داخل الائتلاف يرفعُ حظوظهَم فى خلافته، ولعلَّ الخلاصَ منهم قد صار مطلوبًا على وجه السرعة، وأكثر من أىِّ وقتٍ مضى.
تُواجه «حماس» شبكةً من العقبات فى المقترح الجديد. إنَّ تفكيك الائتلاف المُوسَّع فى تل أبيب يُعيدُ الحكومةَ لوَجهِها الأوَّل الصريح، وهو أكثر افتتانًا بالحرب وتمسُّكًا بها أداةً وحيدةً لحسم الصراع الدائر. كما أنَّ هيكليّةَ الخطَّة لا تجعلُ وَقف إطلاق النار مُمتدًّا ومُستدَامًا بالضرورة؛ إنما تُعلِّقه على حصيلة المُفاوضات والحوار غير المُباشر بين المراحل، وقد صار شائعًا فى أروقة الليكود وحُلفائه أنَّ الهدفَ ينحصرُ فى المرحلة الأُولى فحسب، وهى تضمنُ ستَّةَ أسابيع من التهدئة مع استعادة الفئات الأهمِّ من الأسرى الأحياء. لكنَّ المُعضلةَ الأكبر بالنسبة للحركة أن تكون اعتراضاتُها منطقيَّةً وقابلةً للصَّرف على الطاولة، ومُقنعةً للوَساطة العربية قبل أىِّ طرفٍ آخر. وعِلَّةُ ذلك أنه قد يتبادرُ للذهن أنَّ الدخولَ الإيرانىَّ على الخطِّ هو ما دفع الحماسيِّين للتردُّد بعد إقبالٍ؛ لذا سيكون عليهم التعبيرُ بوضوحٍ عن مواقفَ لا تبدو مُنحازةً للحليف المُمانع على حساب الصديق المُعتدل، مع العلم بأنَّ كلَّ خطوةٍ على هذا المسار الملغوم قد تبدو كما لو أنها اختيارٌ بين الجانبين. مع ما فى ذلك من تضحيةٍ بمكسبٍ مُهمٍّ فى الخطَّة المُقترحة، وهو ما يخصُّ التحوُّل الأمريكى من الإفناء إلى الاحتواء؛ فالحركةُ المُصنَّفة لدى واشنطن تنظيمًا إرهابيًّا باتت حاضرةً فى خطاباتها على صِفة الشريك، وتُستَدعَى باسمها فى المُناشدات، فضلاً على المعنى المُضمَر وراء التفاوض معها أصلاً؛ باعتباره اعترافًا ضِمنيًّا لا بالفاعليّة فى ميدان الحرب فحسب؛ بل بكونها جزءًا من المُستقبل، مهما بدا الاختلافُ مُستحكمًا لناحية توصيف هذا الحضور أو تنظيمه مُستقبليًّا. والقطيعةُ الهوجاء مع هذا المسار ربما تُفقِدُ الفصائل كلَّها أوراقًا فى الهدوء المُؤجَّل، أكثر ممَّا تتصوُّر أنها تحوزه تحت النيران المُعجّلة.
ليس تفصيلاً عابرًا ما أعلنه الاحتلال ظهر أمس، بشأن تحرير أربعة مخطوفين من مُخيّم النصيرات بعمليةٍ عسكرية تشاركَها المُقاتلون مع أجهزة الأمن والمعلومات، ومعاونة الشرطة المدنية. بجانب الضغط المعنوىِّ على «حماس» بفقدان هذا العدد من خزّانها الذى بات محدودًا أصلاً؛ فإنَّ حكومةَ الليكود تقولُ إنَّ برنامجَها المُنحاز لاستعادة الأسرى بالحرب يُثبِتُ فاعليّةً واضحة، وإنَّ على الحركة أن تقبلَ المعروضَ عليها، بكلِّ عواره، بدلاً من خسارة كلِّ شىءٍ حال إصرارها على المُواجهة غير المُتكافئة.. والحال أن الحرب انتهت عمليًّا، صحيح أنَّ القصفَ لم يتوقَّف، وأرتال الدبابات تقطعُ الطريقَ جيئةً وذهابًا على أكوامٍ من الجُثث؛ إنَما ما آل إليه الميدانُ آخر ما يُمكن تحصيله بالنار، ولو استمرّت المناوشاتُ تسعةَ أشهرٍ إضافيّة فلن يتغيَّر التركيبُ القائم. وعليه؛ فالمسألةُ أن يُصارَ إلى تبريدٍ يعصمُ الوقتَ من مُغامرات «عَضّ الأصابع»، ويستنقذ الغزِّيين الأبرياء من أنياب نتنياهو الحادّة، ومن تداعيات التصاق ظَهر «السنوار» بالجدار.
إذا كان عبءُ الصهيونية أنها تنزفُ ما تبقَّى من رصيد السياسة والرمزية الأخلاقية، وقد أُدرِجَت أخيرًا على قائمة العار الأُمميّة للدول والكيانات المُؤذية للأطفال، بجانب داعش وميانمار وبوكو حرام؛ فإنَّ الحماسيِّين يُحلِّون أنفسَهم من المسؤولية الإنسانية عن القطاع؛ لذا لا يرون أنهم بصدد أيّة خسائر مُضاعَفة. والحلُّ أن تُمنَحَ الفصائلُ ما يشفعُ لها فى التنازلات المطلوبة، وما تخافُ من فقدانه مُستقبلاً.. «ورقةُ بايدن» لا تفعلُ ذلك بصورةٍ واضحة؛ كما لا يبدو أنَّ لديها رغبةً لإصلاح ما شاركت فى إفساده. ومع التسليم بما فات؛ فإنَّ على المُمسِكين بخِناق القطاع أن يَتَحلّوا بقدرٍ من الشجاعة والاستقامة، وألَّا تأخذهم العِزّة باصطناع البأس، أو بإملاءات الرُّعاة والمُموِّلين.
إنه سباق الأمتار الأخيرة، وباتِّفاقٍ شاملٍ أو من دونه ستضعُ الحربُ أوزارَها؛ إنّما الفارق كبيرٌ بين أن يقعَ الصمتُ بصفقةٍ مُبرمَجةٍ نوعًا وزَمنًا، وأن يكون بموتٍ إكلينكىٍّ، يتعذّر دفنُ جُثّته لاحقًا أو انتظار أن تدبّ فيها علاماتُ الحياة.. لنتخيَّل أسوأ المسارات المُمكنة؛ فليس أخطر من استمرار القتال؛ إلَّا أن تُعلنَ تل أبيب التوقُّفَ من طرفٍ واحد، أو تفعلها دون إعلان، ومع صعوبة هذا الطرح فإنه يُفصح عن احتمالاتٍ عديدة لا تقل إزعاجًا عن الجنون الحاكم.. فالهُدنة مثلما ستضعُ الاحتلالَ أمام فشله وتناقضاته؛ ستُنتجُ الأثرَ نفسَه فى غزّة وداخل حماس، وما لم يتوافر البرنامج اللازم لمُداواة الجروح العميقة، وفَتح أبواب الأمل على كامل البيئة الفلسطينية بعديد أطيافها؛ فسيربحُ تيّارٌ ويخسرُ الباقون ومعهم القضية.. والربح الذى من عَيّنةِ الوقوف على الأطلال؛ إنما يُنفِذ إرادةَ الصهاينة فى إبقاء غزّة خارج المُعادلة الوطنية؛ أمَّا الربح المطلوب والذى يخشونه أن تتَّصل الضفّة بالقطاع، وأن يمتدَّ غطاءُ الشرعية من رام الله لساحل المُتوسِّط.. مهما حصَّل المفاوضون من شروطٍ؛ فلا حلَّ إلَّا بإذعانهم للشرط الفلسطينى أوّلاً؛ بمعنى أنه لا أولوية تسبقُ إنهاء الانقسام؛ فَبِهذا وحده يتحصّن الحاضر والمستقبل؛ إزاء ورقة بايدن بثقوبها العديدة، أو جنون نتنياهو بخياراته الحارقة.. باختصار؛ كلُّ مسارٍ لا يبدأ بالمُصالحة انتحار.