الهجرة النبوية الشريفة في عام 622 ميلادي من مكة إلى المدينة المنورة تعتبر نقطة تحولٍ فارقةٍ؛ حيث أتاحت لرسول الله سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) فرصةً لنشر رسالة الإسلام السمحة بشكلٍ أوسع، كما أسست الهجرة للمدينة المنورة وطناً أصبح نموذجًا للعيش في تسامح وتعاون بين مختلف الجماعات والأطياف، ورسخت لقيم التسامح والرحمة والأمان والتعاون والشراكة والتكامل والتعامل بمكارم الأخلاق قولًا وعملًا، وأتاحت نشر الوسطية والاعتدال في الفكر الديني والاجتماعي، بعيدًا عن التطرف والغلو، ونبذ الآخر، فالهجرة النبوية والقيم السمحة تمثلان نماذج مهمة لاستلهام العبر للتعايش والتسامح الذي ينشده مجتمعنا المعاصر.
فأنماط الحياة المعاصرة في احتياجٍ لأن ترتكن على مبادئٍ عقائديةٍ قويمةٍ تسهم في ترسيخ صحيح القيم والخلق الكريم الذي نتمنى جميعنا رصده وملاحظته بالعين المجردة في سلوكنا وسلوك أبناء مجتمعنا صاحب الحضارة والتاريخ، وهذا ما يحثنا على أن نستلهم قليلًا من فيض المناسبات الدينية العطرة ومنها الهجرة النبوية الشريفة التي نعيش عطر ذكراها في أيامنا هذه.
وتؤكد المواقف التي سردتها السيرة المطهرة على أن لغة التعاون تساهم في تحقيق الغايات المجتمعية رغم التحديات المحيطة، وأن صبغة التسامح تشكل لبنةً بناء الأوطان؛ حيث تماسك نسيجه وقوة وصلابة موقفه إزاء ما قد يمر به من أزماتٍ تلو الأخرى، وأن الرحمة والتراحم وتوظيف واستغلال الطاقات والإمكانيات المتاحة بأفضل صورةٍ ممكنةٍ، والعمل الدائم علي تطوير القدرات والمهارات اللازمة لمواجهة التحديات والتكيف مع المتغيرات، واستغلالها الاستغلال المثل لتحقيق نهضة الدول التي تسعى جاهدةً لأن تؤسس كياناتها المختلفة كي تتبوأ مكانتها التي تليق بها في العالم بأسره.
وهناك دلالةٌ واضحةٌ حيال ثمرات حالة السلم التي فيها تتبنى الدول مراحل التقدم والبناء والإعمار لتستطيع أن تستكمل مسيرة الحياة في ربوع الأرض وتصنع تاريخها وتؤدي رسالتها على الوجه الأكمل، ومن ثم تقوى على المواجهة ودحر كل من يحاول النيل منها؛ فكهذا تعلمنا من سيرة نبينا العطرة سيدنا محمد (صلي الله عليه وسلم) التي علت العالم بفيض الوسطية والاعتدال فأخرجت بني البشر من ظلام دامس إلى نور الحق المبين.
وكان من عبر الهجرة الشريفة بلوغ حالة العيش الجاد المكلل بالعمل المنتج والمتن والتعايش السلمي الذي به استطاع الصحابة أن يشكلوا معالم دولتهم ويستفيقوا من كبوتهم ويعتلوا المراكز المستحقة لهم بكسب العيش وتجنب التواكل والحرص على تقديم كل ما هو نافع؛ فالدين ترجمته سلوكٌ حميدٌ يراه ويرصده الآخرون ومن ثم يقتنعون بمبادئه وقيمه السمحة فيبحثون عن الحقيقة ليتمسكوا بها في نهاية المطاف.
وندرك جليًا أن بناء الدول ونهضتها وتحقيق التنمية يلزمه الاستعداد للتحمل والمشقة في سبيل تحقيق الأهداف النبيلة والدفاع عن الحق، وتضحيةٍ مستدامةٍ تقوم على الإيمان الراسخ والمعتقد الصحيح وحب العدل، ومن ثم ما نراه من مشقة في بلوغ ما نصبوا به من غاية ليس بالأمر المستحدث فقد سبقنا الأولون من الأخيار المهاجرين منهم والأنصار تحت لواء الحبيب المصطفي (صلي الله عليه وسلم)، الذي أسس لدولة العدل والتسامح ورسخ لجهاد النفس قبل الجهاد المادي بكافة صوره؛ فالسبيل تجاه الأعمار له ضريبةٌ يدفعها طالبوه لا محالة.
والصبر والجلد والمثابرة في بلوغ تحقيق الرسالة أمرٌ يتحمله من يبتغي العزة والكرامة لنفسه ودينه؛ لكن الرضوخ والتواكل لا يسفر إلا عن تخاذلٍ وارتدادٍ في براثن الغي، وهذا ما رفضه صحابة النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث اجتهدوا في العمل والعبادة على السواء؛ فمكنوا لأنفسهم ولدينهم وغمروا الدنيا بأسرها برسالة النور التي نعيش في ظلالها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وفي خضم الهجرة المشرفة رأينا أن الثبات والرسوخ على المبدأ مفتاح النجاح؛ فلا معارضةً تجدي مع من يعتنق الحق ويحارب الباطل مهما بدت قوته وسلطته وجبروته، وهذا سر التفوق لمن سار في سبيل تحقيق الرسالة النبيلة من خلال تماسكٍ وتضافرٍ وترابطٍ مجتمعيٍ قويٍ كان ثمرته الوحدة والتماسك وتجنّب الخلافات والانقسامات، وبالتالي أدى لتكوين لحمةٍ قويةٍ واجهت قوى الباطل ودحرتها وفتحت فتوحاتٍ عظيمةً في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن الأسرار والعبر المستلهمة من الهجرة المباركة أن سمحت بممارسة التخطيط الذي ساهم في تحقيق الهدف المنشود المتمثل في تبليغ دعوة النبوة بمنهجية المحبة والتواد والتسامح واللين من منطلق القوة فالدين المعاملة؛ فكان الأثر العظيم الذي غير من هوية العالم وفكره وجعل الإمبراطوريات على حافة الهاوية في خضم وقوة الحق وصلابة القائمين عليه وإرادتهم التي لم تلين ولو للحظةٍ واحدةٍ.
لقد هيأت الهجرة النبوية الشريفة المجتمع المسلم للتغيير في كل شيءٍ؛ فكانت الحياة بمثابة بيئةٍ حاضنةٍ للتفكير، وكان للغة الحوار والشورى منفسًا وطريقاً مفتوحًا مع العديد من مريدي العقيدة السمحة ومن يتطلعون إلى الكشف عن خباياها، وفي خضم الهجرة وجدنا التكيف مع التوافق والتكافل بصورةٍ مبهرةٍ، لم يعرف التاريخ لها مثيلًا؛ فبدت المحبة تعم وتسود كيان المجتمع.
إن استلهام العبر التي لا حصر لها في هذا المقام الضيق من الهجرة النبوية الشريفة في حياتنا المعاصرة؛ حيث قدمت الهجرة النبوية الشريفة عبرًا ودروسًا قيمةً في كيفية التعامل مع التحديات والأزمات والمحن بالحكمة والإيمان والوحدة والتماسك مما يفتح المجال أمامنا وأمام أصحاب العقول المستنيرة من تعضيد صحيح القيم السمحة التي جسّدتها الهجرة النبوية، لكي نستطيع أن نستكمل بناء دولتنا وننهض بمقوماتها، وبناء مجتمعٍ أكثر استقرارًا وتقدمًا.
أ.د/ مها عبد القادر
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر