"أنا أكتب لنفسي، لكن أُريد من الآخرين أن يقرءوا أيضا" فيودور ديستويفسكي، في روايته الشهيرة " الجريمة والعقاب المنشورة في العام 1866، وهنا أكتب هذه الكلمات من باب أن تجد آذان صاغية و أبواب مفتوحة، وعقول تؤمن بحق الاختلاف، وحرية الفكر والتعبير، استهدافاً للمصلحة العامة، وخدمة لـ "الناس" دون تمييز ، كما رسم المهنيون الأوائل الطريق للصحافة والإعلام.
أهل القانون يقولون دائماً "الاعتراف سيد الأدلة"، لذلك وبكل صدق دعونا نفتح حواراً ونخلق نقاشا، ابتغاء لحلول واضحة، وبحثا عن إجابات مقنعة، وسعياً نحو شفافية معتبرة، في قضية "نقص المعروض من الأدوية"، وغياب عشرات الأصناف المرتبطة بسلسلة الأمراض المزمنة أو حتى العارضة و الانتهازية.
مشكلة الدواء في مصر تبدأ وتنتهي عند شركات الأدوية، محلية كانت أو عالمية، فالقانون رقم 163 لسنة 1950، والمعدل بالقانون رقم 128 لسنة 1982، وضع قيوداً على تسعير الدواء، "التسعير الجبري" وتحديد الأرباح، مراعاة لظروف الطبقات الفقيرة، وعدم قدرة بعض الفئات على توفير الدواء، واحتراما لهذا الحق، الذي تنص عليه المواثيق والأعراف الدولية، ووضعه المشرع المصري على قائمة أولوياته منذ نحو 75 عاماً.
في ظل التقلبات الحادة التي شهدتها قيمة العملة المصرية "الجنيه" على مدار العامين الماضيين، بعدما تم تخفيض قيمته عدة مرات، أدت في النهاية حقيقة واحدة، مفادها أن سعر الدولار صار 3 أضعاف الجنيه المصري، فبعدما كان مستوى سعر الدولار يتأرجح بين 16 إلى 18 جنيها حتى أكتوبر 2022، ليصل إلى مستوى 48 جنيها، وهو السعر الحالي المعلن في البنوك، ما يعني أن الدواء كسلعة استراتيجية يجب أن تتغير أسعاره أيضا، وفقاً لهذه المعطيات الاقتصادية، التي لا يمكن أن ننظر إليها بمعزل عن القضية.
في العام 2012 أصدر الدكتور فؤاد النواوى، وزير الصحة والسكان في ذلك الوقت، القرارا رقم 499 لسنة 2012، والذى يقضى بتحرير سعر الأدوية المرخصة حديثا، وفقا للأسعار العالمية، بحيث يباع الدواء فى مصر وفقا لأقل سعر يباع به فى الدول التى يتداول بها نفس المستحضر، وفى حالة تداول المستحضر فى أقل من 5 دول، يتم المقارنة بين أسعار البدائل والمستحضر الأصلى.
ووضع القرار الذي لقي هجوما حينها من المنظمات المعنية بالحق في الدواء، تحديداً صريحاً لنسب وهوامش الأرباح بالنسبة لـ "القائمة الأساسية"، وتعني الأدوية التي لا تصرف إلا بوصفة طبية معتمدة، لتكون 7.86% كهامش ربح للموزع من سعر المصنع، و25% هامش ربح للصيدلى من سعر بيع الموزع، ويصل هامش الربح فى المستحضرات المدعومة، سواء المستوردة أو المحلية 4% للموزع من سعر المصنع و10% للصيدلى من سعر بيع الموزع، ويصل هامش ربح الصيدلى فى الدواء المحلى والمصنع والمعبأ بمصر 25%، ويصل فى الدواء المستورد المسعر بأقل من 500 جنيه 18%، و15% فى حالة تسعيره بأكثر من من 500 جنيه، وتسرى زيادة الربح للأدوية المسجلة بعد 1 يوليو2012، فى حين ستزيد الأدوية المسجلة حاليا تدريجيا بواقع 1% سنويا، حتى تصل لنفس نسب هامش الربح السالفة الذكر.
بالطبع نجت الأدوية المرخصة حديثا من فكرة التسعير الجبري بعد القرار المذكور، لكن الأدوية التاريخية المعروفة، المتعلقة بالأمراض المزمنة والمشهورة لدى العامة، لم تتمتع بنفس هذه الميزة، فلجأت إلى التفاوض مع "هيئة الدواء"، التي تراجع تسعير الأدوية كل 6 أشهر، لتقرر لها نسب الزيادات وفق الظروف الاقتصادية، والسعر العادل للمواد الخام.
قرار تخفيض العملة الأخير صدر في 6 مارس 2024، وقد تراجعت على أثره قيمة الجنيه بنحو 60% تقريباً، الأمر الذي جعل أغلب شركات الأدوية في حاجة لرفع أسعارها لتتواكب مع المستجدات المالية الراهنة، بينما مراجعة أسعار الأدوية تتم كل 6 أشهر وفقاً لضوابط معينة ينظمها القانون، ولها سقف خاص بنسب الزيادات وعدد المرات المسموح بها، وهو ما يجعل الشركات تتجه للقرار الأخطر، وهو وقف إنتاج بعض الأدوية، أو إنتاج كميات محدودة جداً لا تكفي احتياجات السوق، فتتجلى الأزمة، ويظهر النقص الواضح في السوق، ويتم الضغط على هيئة الدواء لرفع السعر من أجل توفير هذا الدواء مرة أخرى.
جزء من أهداف شركات الأدوية مشروع، باعتبارها مؤسسات تستهدف الربح، ولها خطط وبرامج استثمارية، خاصة أن أغلب خامات الأدوية مستوردة، وارتفعت أسعارها، والاستمرار في الإنتاج قد يترتب عليه الحد من أرباح تلك الشركات أو ربما القليل من الخسائر، لكن في الوقت ذاته يجب أن يخضع إنتاج الدواء لرقابة صارمة، تتعلق بالكميات المطلوبة، وخطوط الإنتاج، فلا يمكن لشركة دواء تقدم سلعة استراتيجية هامة، أن تتوقف فجأة عن الإنتاج تحت أي ظرف، أو تقلل حجمه لدرجة تخلق عجزاً في الأسواق، أو يترتب عليها مشكلات تتعلق بغياب أدوية بعينها.
ليس سراً أن هناك أدوية شهيرة لأمراض مزمنة اختفت تماماً من الصيدليات، وصار سعرها 5 أضعاف السعر الرسمي، ولن تحصل عليها إلا بـ "واسطة" من أحد المعارف أو الأصدقاء أو إنفاق الكثير من الأموال كبديل عن كل ما سبق، بل أكثر من ذلك صارت الصيدليات تخفي بعض الأدوية كثيفة الطلب من أجل زبائن بعينها، بعيداً عن حاجة المريض الفعلية لهذه الأدوية، وهنا أضرب مثلا لأحد الأدوية الشهيرة لمرض الضغط، باعتباري صديقا لهذا المرض وأتناول الأقراص للسيطرة عليه منذ 4 سنوات تقريبا، فهذا الدواء الذي يحتوي على المادة الفعالة بيسوبرولول، وهي مثبطات لمستقبلات بيتا، وهنا لن أذكر الاسم التجاري لأتجاوز فكرة الدعاية.
عشرات المراهم والكريمات الخاصة بالأمراض الجلدية وعلاج الفطريات والتينيا بأنوعها المختلفة لم تعد موجودة في أغلب الصيدليات، أدوية الغدة الدرقية، أدوية التشنجات وبعض الأمراض العصبية، لن تجدها في أي صيدلية إلا إذا كانت على وشك انتهاء صلاحيتها، والبديل المطروح ثمنه أضعاف السعر الرسمي، ويتم تهريبه من دول مجاورة، وهذا أمر جد خطير، خاصة مع أمراض لها أعراض تستوجب التدخل الفوري، والعلاج السريع، نظرا لقسوتها وتأثيرها المباشر على السلامة العامة للمريض ومؤشراته الحيوية.
الطوابير الطويلة أمام صيدلية الإسعاف لا تنتهي، رغم ارتفاع درجات الحرارة، والشمس التي تحرق الرؤوس، عشرات الحالات تقطعت بهم الأسباب، وضاقت عليهم السبل، ونصحهم الأطباء للذهاب إليها "مخصوص"، باعتبارها المعنية بتوفير "نواقص الأدوية"، لكن الواقع يقول أن الطوابير تُسلم طوابير، والأرامل والآباء والشيوخ، يصطفون يومياً بحثا عن الدواء المر، رجاء في تخفيف الألم، وأملاً في شفاء تساورهم حوله الشكوك، فيجلسون بالساعات بحثا عن "حقنة" تعالج السرطان، أو محلول يحتاجه مريض بالفشل الكلوي، أو أمبولات لمريض سكر تدهورت حالته حتى وصلت للغيبوبة، وهكذا مئات الحالات تحتاج لتدخل ورعاية عاجلة من الحكومة الجديدة، وتدخلات حاسمة لتوفير الدواء مهما كان الثمن ومهما كانت النتائج.
هكذا تبدو الأزمة بكل أبعادها الاقتصادية والإنسانية، لكن الحلول مازالت موجودة ومتاحة، ويمكن الوصول إليها من خلال عدة نقاط يمكن تلخيصها حتى نفكر مع صانع القرار ونعاون في حل المشكلة.
أولا :- تحديد سقف لزيادات أسعار الأدوية، ارتباطا بتخفيض العملة المحلية الأخير، بما لا يزيد عن 30% من سعرها الرسمي، حتى يظل الدواء متوفراً في الأسواق، ويستطيع عامة الناس الحصول عليه، مع مراقبة إنتاج شركات ومصانع الأدوية، حتى لا تقلل إنتاجها أو تعطش الأسواق بين الحين والآخر ،طمعاً في زيادة الأسعار.
ثانيا :- يجب أن يتم توفير أدوية الأمراض المزمنة، مثل الضغط، والسكر، والقلب، والكلي وأمراض الجهاز التنفسي، والمضادات الحيوية، وكل الأدوية الضرورية، التي تعالج الحالات الحرجة والعاجلة، حتى لو تدخلت مصانع شركات الأدوية الحكومية، وأنتجت مثائل جديدة لها للخروج من احتكارات الشركات الخاصة، مع توفيرها بكميات معتبرة، وتوزيعها بصورة عادلة بين الصيدليات المختلفة، وتشديد العقوبات الخاصة باحتكار الأدوية أو تخزينها.
ثالثا: منع بيع الأدوية لغير المصريين، ليصبح بيع الدواء من خلال بطاقة الرقم القومي، فقد أصبحت مصر التي تدعم الدواء، وتضع له تسعيراً موحداً سوقاً لبعض الدول العربية، وبات البعض يأتي إلى مصر على وجه الخصوص لشراء الأدوية المدعومة، التي يقل سعرها من 5 إلى 10 أضعاف عن الموجودة في بلاده، وهذا الموضوع يستنزف كميات كبيرة من الأدوية، حتى باتت بعض الصيدليات تعمل فقط لخدمة زبائن الخليج والدول العربية، نظراً لحصولها على عمولات وإكراميات من الباطن نظير توفير الكميات المطلوبة.
رابعاً:- حظر خروج الأدوية عبر المطارات والموانئ والحدود المصرية، إلا بكميات تكفي الحاجة لمدد قصيرة، ولحاملي الجنسية المصرية فقط، بعدما تحول الأمر إلى تجارة رائجة، يتم خلالها تهريب آلاف العبوات يومياً في حقائب السفر ، وقد انعكس هذا سلبا على وفرة بعض الأدوية مثل الضغط والسكر وبعض الأقراص التي يدخل الكورتيزون في تصنيعها.
خامساً:- توفير النقد الأجنبي اللازم لسد احتياجات شركات الأدوية من المواد الفعالة والخامات المطلوبة، حتى تنتظم عمليات الإنتاج، وإعطاء الأمر أولوية عاجلة، فهذه قضية يجب أن تحتل الصدارة في أجندة الحكومة الجديدة، وتصعد للمرتبة "أولاً "، لأبعادها النفسية والاجتماعية وتأثيرها المباشر على الأمن والسلم العام.