الذكاء الاصطناعي ظاهرة علمية كبيرة، أصبحت تمثل موضوعاً حيويّاً بحاجة إلى اهتمام متصل، بحكم أن هذه الظاهرة لها علاقة بأوجه حياتنا المتعددة، وإن كانت هذه الظاهرة، حتى الآن على الأقل، موضوعة موضع التقييم والاختلاف في التقييم.
استخدام الذكاء الاصطناعي، في الحقيقة، يمكن أن يكون مفيداً جداً في مجالات كثيرة، أغلبها يرتبط بالعلوم والطب والتعليم، وغيرها من المجالات التي تستند إلى قوانين وحقائق معيارية ثابتة، وهناك معلومات مؤكدة حول اكتشاف أدوية مهمة عن طريق استخدام برامج الذكاء الاصطناعي بتكلفة بسيطة، وفي أوقات قياسية قصيرة جدّاً، وكان من الصعب، وربما من المستحيل، أن يتم اكتشاف هذه الأدوية في وقت قصير، والمرجح أنها كانت تحتاج إلى عشر سنوات أو أكثر بكثير.
الأمر مختلف إلى حدٍّ كبير جدّاً حتى الآن على الأقل في محاولات استخدام برامج الذكاء الاصطناعي لإبداع عمل أدبي أو عمل فني، مع تفاوت ربما في مستويات نجاح هذا العمل من مجال إبداعي إلى مجال آخر. مثلاً؛ في الفن التشكيلي ربما يكون الأمر مختلفاً قليلاً أو كثيرا عن مجال الموسيقى، عن مجال السينما، عن مجال الأدب.
وهذا الاختلاف يتصل بعوامل كثيرة تخص كل نوع إبداعي أو فني، ومدى ارتباطه برؤية جمالية فردية أو جماعية، ومدى اعتماده على "تقنيات" تدخل التكنولوجيا في إنتاجها. وعلى هذا المستوى الأخير، يمكن أن نشهد إنجازات قدمها الذكاء الاصطناعي في مجال تقنيات الفن السينمائي، ومن ذلك على سبيل المثال فيلم جديد للممثلين توم هانكس وروبن رايت، بعنوان "هُنا" "Here"، يبدوان في بعض مشاهده وكأنهما ينتقلان من عمرهما المتقدم الراهن إلى سن المراهقة مرة أخرى، عن طريق استخدام تقنية من تقنيات الذكاء الاصطناعي (وهناك تجارب أخرى في أفلام سابقة، من أشهرها فيلم لويل سميث يقاتل فيه نسخة منه أصغر سنا).
في مجال الأدب، وأغلبه نتاج فردي في النهاية، يلوح الأمر مختلفا حتى الآن. والحقيقة أن لي تجربةً مع بعض برامج الذكاء الاصطناعي تمثَّلت في استخدام برنامجين؛ الأول هو "شات جي بي تي" ـ ChatGPT) )، من خلال إصدارات متعددة من هذا البرنامج، والبرنامج الثاني هو برنامج "كوبيلوت" (Copilot) الذي أتاحته "ميكروسوفت" مع " Windows 11 ".
في كل برنامج من البرنامجين، طلبت، مرات كثيرة جداً، كتابة نصوص قصصية قصيرة، أو قصائد شعر قصيرة، حول موضوعات أو حول "تيمات" متعددة تم تناولها في الأدب بأشكال متنوعة خلال المسيرة التي قطعها هذا الأدب، والنتيجة أن الكتابات العديدة التي قدمها لي هذان البرنامجان متوسطة القيمة أو أقل من ذلك؛ إذ قدَّما لي نصوصا سطحية ومحدودة وتقريبا بلا روح، وأسباب هذا يمكن أن تكون أسباباً متعددة، منها أن هذه البرامج في محاولتها تقديم نص أدبي إنما تستند إلى استخلاص سمات أو قوانين من نصوص أدبية سابقة تم تغذيتها بها؛ أي هذه البرامج تستند إلى ملامح مستخلصة من أعمال أدبية سابقة. لكن هذا المعنى هو ضد طبيعة الإبداع نفسها، فالعمل الأدبي الحقيقي لا يقف عند حدود تكرار استخدام القواعد أو الملامح أو السمات التي تبلورت من إبداع سابق، وإنما يضيف إلى هذه القواعد والملامح والسمات قواعد وملامح وسمات أخرى جديدة، إذ إن قيمة الإضافة تمثل بعدا مهما من جوهر الإبداع الحقيقي، بالإضافة طبعاً إلى القيم الجمالية المتعددة التي يستند إليها كل إبداع حقيقي..إضافةً إلى هذا، فهذه البرامج، حتى الآن على الأقل، تقدم نتاجاً يخلو من العمق، ويخلو من العاطفة، ويخلو من البصمة الخاصة للمبدع، كما يخلو من التعبير عن هوية إبداعية أو ثقافية أو اجتماعية ما. والغريب أن برامج الذكاء الاصطناعي تنتبه إلى مثل هذه الملاحظات حول ما تقوم به من محاولات لإنتاج أعمال أدبية، وفي إجاباتها عن أي سؤال حول هذا الأمر، ترصد بعض هذه الملاحظات السلبية.
على كل حال، فهذا التقييم كله يستند إلى ما تقدِّمه هذه البرامج حتى الآن، والمستقبل مفتوح على احتمالات كثيرة، وهذا يعني ألا نصادر على التجربة، بل يجب أن نلاحظها، وأن نتأمَّلها من كل أبعادها، وأن نتابعها باستمرار.