بيشوى رمزى

معضلة "التعادل" السياسى فى فرنسا.. ومأزق الديمقراطية

الأحد، 14 يوليو 2024 05:47 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تبدو الانتخابات الأخيرة التي شهدتها فرنسا، نموذجا مهما للحالة المعقدة التي باتت عليها السياسة في الغرب في اللحظة الراهنة، خاصة مع ما آلت إليه من نتائج، أسفرت عن تعادل كبير، يشمل جميع أطراف المعادلة السياسية في باريس بين اليمين، واليمين المتطرف واليسار، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا للعديد من الحقائق، أبرزها هيمنة الوضع الضبابي، حول مستقبل الدولة، في ضوء حالة من انعدام الثقة لدى الفرنسيين تجاه الأحزاب القائمة، مع وجود رغبة ملحة في التغيير، لدى قطاع معتبر منهم، وهو الأمر الناجم عن عجز كبير في تهدئة المخاوف، سواء المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية، أو المتعلقة بتداعيات الأزمات الكبيرة على حياتهم، والتي باتت تقترب بشدة من مناطقهم الجغرافية، سواء في صورتها الطبيعية، جراء تفاقم أزمة المناخ التي تمثل تهديدا صريحا للغرب، أو فيما يتعلق بالصراعات الدولية، مع بزوغ الأزمة الأوكرانية، والتي تعد إيذانا بدخول القارة العجوز، في حزام الصراع العسكري مجددا.


ومعضلة "التعادل" السياسي، في باريس، تمثل مشهدا جديدا للخروج عن الحالة الحزبية التقليدية، في ضوء حالة من الانقسام المجتمعي على التيارات الموجودة فعلا على الأرض، وهو ما يعكس انعدام الثقة في كافة الأحزاب، خاصة مع تضاؤل الفارق بين أعداد المقاعد التي حصلت عليها الأطراف الأساسية في المشهد السياسي الفرنسي، في الجمعية الوطنية، بحسب نتائج الانتخابات الأخيرة، وهو الأمر الذي ربما حمل إرهاصات عدة، يمكن حصرها في مشاهد عدة، منذ السنوات الأولى للألفية، وتحديدا منذ خروج الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيرك من قصر الإليزيه، ليسلم السلطة إلى خليفته نيكولا ساركوزي، والذي لم يمكث على العرش أكثر من فترة واحدة، ثم تلاه الاشتراكي فرنسوا أولاند، والذي آثر عدم خوض انتخابات التجديد لإدراكه التراجع الكبير في شعبيته، بينما جاء نجاح الرئيس إيمانويل ماكرون في الفترة الأولى لتعزيز هذه الرؤية، إذا ما وضعنا في الاعتبار أنه خاض المعترك الرئاسي تحت مظلة حزب حديث النشأة (الجمهورية إلى الأمام)، لم يكن قد مر على ميلاده عاما واحدا، وهو ما يعكس حالة من الخروج الضمني على الأحزاب التقليدية.


وعلى الرغم من أن الرئيس إيمانويل ماكرون تمكن من كسر القاعدة، بالحصول على فترة ثانية، بعد ما يقرب من 15 عاما مما يمكننا تسميته بحقبة "رؤساء الفترة الواحدة"، إلا أن نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة، تمثل امتدادا لها، خاصة وأن ولاية ماكرون شهدت العديد من الفترات المرتبكة، ربما وصلت إلى ذروتها مع نهاية العقد الماضي، جراء الاحتجاجات غير المسبوقة التي شهدتها البلاد، تحت راية ما يسمى بـ"السترات الصفراء"، والتي شهدت حالة من الفوضى الأمنية التي استغرقت شهورا.


إلا أن "التعادل" السياسي في باريس، في الوقت نفسه، يمثل اختبارا حادا للديمقراطية الغربية، في ضوء ما يمثله من حالة من عدم الاستقرار السياسي، جراء اختلاف الرؤى، سواء فيما يتعلق بالداخل وتحدياته، من جانب، أو الخارج وأزماته، من جانب آخر، بالإضافة إلى التداخلات بينهما، والتي تتجلى في تداعيات الصراعات الدولية الكبرى، على أوضاع المواطنين، أو العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن أزمات اللجوء والهجرة، والكيفية التي ينبغي التعامل بها معها، من جانب ثالث، وهو ما يمثل تحديا كبيرا، ليس فقط للدولة الفرنسية، وإنما في واقع الأمر للمسألة الديمقراطية برمتها، خاصة وأن النتائج التي آلت إليها الانتخابات الأخيرة، تعد الأولى من نوعها فيما يتعلق بالقوى الكبرى والمؤثرة.


القضايا المذكورة، في واقع الأمر تحمل تنافرا كبيرا في الرؤى بين التيارات السياسية في باريس، وهو الأمر الذي يصعب معه تشكيل ائتلاف حكومي منسجم، يمكن معه الوصول إلى توافقات، تضع البلاد في موقف متزن، حتى إجراء انتخابات جديدة، بينما يبقى تشكيل حكومة تكنوقراط أحد السبل المتاحة، إلا أنه لن يكون حاسما فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية، خاصة المرتبطة بالسياسة الخارجية الفرنسية، خلال المرحلة المقبلة.


وفي الواقع، يمثل "التعادل" السياسي، بين كافة أطراف المعادلة الفرنسية، أزمة كبيرة، في ضوء عدم قدرة طرف على إحكام قبضته، دون موافقة الأطراف الأخرى، بينما يبدو كاشفا إلى حد كبير لحقيقة الديمقراطية في صورتها الغربية، في ضوء ما تفرضه من اختبار حقيقي لها، بالنظر إلى المناسبات المماثلة والسابقة، والتي شهدت في معظم الأحيان سيطرة فريق واحد، أو حتى صعود طرفين، من الممكن تحقيق توافق بينهما، حول الأمور الجوهرية، مما ساهم في تقديم صورة منسجمة.


وهنا يمكننا القول بأن "التعادل" في فرنسا لا يبدو حاسما، بينما يضع البلاد على محك اختبار حقيقي، فيما يتعلق بما نادت به كثيرا من أفكار تنتصر للديمقراطية، سواء في الداخل أو امتدت في الكثير من الأحيان إلى تصدير النموذج الغربي إلى دول العالم، باختلاف مناطقهم، وهو ما قد يمثل مرحلة جديدة من مراحل الارتباك، في دول المعسكر الغربي، والتي تقود العالم، تحت إدارة واشنطن، منذ أكثر من 3 عقود من الزمان.

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة