حازم حسين

الرصاص فى بتلر والدم فى غزة.. محنة الحرب ومنفعة نتنياهو من محاولة اغتيال ترامب

الإثنين، 15 يوليو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

حدثان لا رابطَ بينهما؛ إنما تجرى مآلاتُهما إلى مصبٍّ واحد. قرابةُ تسعة آلاف كيلو متر بين «بتلر» فى ولاية بنسلفانيا ومواصى خان يونس فى قطاع غزة: فى الأولى أُطلِق الرصاصُ على الرئيس الأمريكى السابق والمُرشَّح الحالى دونالد ترامب، وفى الثانية قصفَ الاحتلالُ الإسرائيلى تجمُّعاتِ المدنيين؛ فأسقط نحو 100 شهيد فى أبسط التقديرات. والرابطُ بينهما أنَّ سباقَ البيت الأبيض صار بشكلٍ أو بآخر جزءًا من مشهد الحرب الدائرة فى القطاع منذ أكثر من تسعة أشهر، ويلعبُ بنيامين نتنياهو فيما بينهما على عامل الوقت وتبدُّل الاهتمامات، وهو إنْ كان يستهدفُ من هجمته البربريَّة الأخيرةِ إفسادَ أحدث جولات التفاوض على الهُدنة وتبادُل الأسرى؛ فإنَّ محاولة الاغتيال الفاشلة ولو لم تتَّضح تفاصيلُها الكاملة بعد، تُلاقيه على الغاية نفسِها؛ لا سيَّما أنها ترفعُ حظوظَ صديقِه ومُرشَّحه المُفضَّل فى واشنطن، وتُعطِّل ماكينات بايدن الدائرة على آخرها حاليًا؛ لإنجاز ما يُقنع به قاعدته الشعبية والولايات المُتأرجحة من بوَّابة الشرق الأوسط.
نَشَطت الإدارةُ الأمريكية على خطِّ الاتصال بين الوسطاء وطرفى الصراع، وحرّكت تُروسَها التى تعطَّلت لفترةٍ طويلة. نحو ستة أسابيع منذ إعلان مُقترحها للصفقة المأمولة، ثم تمريره بهالةٍ رسمية من قناة مجلس الأمن الدولى، لم يتحقَّق فيها أىُّ اختراقٍ فِعلىٍّ إلَّا بعدما تجاوبت مع ملاحظات حماس، فعدَّلت بعضَ بُنود الورقة وتلقَّت ردًّا وصفته بالإيجابى من الحركة، وكذلك جنرالات إسرائيل ورُؤوس وفدها التفاوضى أجمعوا على أنه يُقرِّب المسافات ويفتحُ البابَ للاتفاق. وما حدثَ أنَّ رئيسَ حكومة الاحتلال اضطُرَّ للتجاوب تحت ثِقَل الضغوط السياسية من الداخل، وتملمُل الجيش من الحرب المفتوحة دون أُفقٍ للتهدئة أو التقاط الأنفاس وترتيب الأوراق، وأخيرًا إملاءات فريقِ البيت الأبيض بمنطق أنه حملةٌ انتخابية لا إدارة سياسية، والفارقُ بينهما أنه يسعى لتسجيل نقاطٍ سريعة؛ ولو لم تكن مُثمرةً فى المدى البعيد. والقسَّاميِّون يعلمون ذلك؛ فيسعون للخروج من المأزق بأيَّة صورة، ونتنياهو على العكس منهم يسعى لإبقاء الجميع فى خندق القتال لابتزاز كلِّ الأطراف.


كانت الأخبارُ المُتواترة تُرشِّح البقاءَ على الحال القائمة؛ إذ ما تزال بعضُ نقاط الاتفاق عالقةً، والخلافات عميقةً بين الجانبين، بشأن طبيعة التبادُل وإجراءات الحوار غير المُباشر وآلية الانتقال بين مراحل الهُدنة الثلاثة؛ خصوصا المرحلتين الأُوليين. وجاءت المذبحةُ لتصُبَّ الزيتَ على نار الحرب، أو تسكُبَ الماءَ على مدخنةِ التهدئة قبل أن يتصاعد دُخانها الأبيض مُعلنًا عن التوافق. أراد زعيمُ الليكود من جريمته الأخيرة أن يُفخِّخ عربةَ الصفقة؛ وإنْ فشلَ فلتَكُن العمليةُ ترسيمًا لمعالم المرحلة التالية، بمعنى أنه يستبقى هامشًا دائمًا لفَرضِ شُروطِه تحت النار، ويُثبِّتُ حالةَ القتال بمعزلٍ عن أيَّة تفاهُماتٍ تَسوَويَّة، أمَّا البُعد الأكثر أهميّةً فيُشير إلى استعراضِ القوَّة فى الداخل الإسرائيلى، وتأكيد هيمنته الفرديَّة على المجال العام بكلِّ مُكوِّناته؛ فحتى لو كان جنرالاتُ الجيش وقادةُ الأجهزة الأمنية مُنحازين للتصوُّر الأمريكى، ويميلون لإبرام الصفقة على هوى البيت الأبيض وبما يخدمُ مصالح بايدن الانتخابية؛ فالرسالةُ لهم جميعًا ألَّا تذهبوا بعيدا فى اللعب خارج إطار السلطة، ولا مع الآخرين ولو كانوا أقرب الحلفاء، كما يجبُ ألَّا ينسى رجالُ السلاح أنهم أدواتٌ فى قبضة رجل السياسة، والقرارُ الأخير والنافذُ يأتى من الكابينت، أو بالتحديد من «السيد بيبى» ودائرته اليمينيَّة الضيِّقة.


ربما يُثارُ السؤال هنا عن علاقة ترامب، الواقف حتى اللحظة فى هامش المشهد الأمريكى، بكلِّ التعقيدات الميدانيَّة وتداعياتها على جهود رسم مخارج ناعمةٍ من حالة الانسداد الحالية. والفكرةُ أنَّ غزة كانت جبهةً مستقلة فى يوم السابع من أكتوبر فقط، ثمَّ انفتحت على جبهاتٍ رديفة منذ اليوم التالى، وبالتبعية اكتسب التدخُّلُ الأمريكىُّ بُعدًا إقليميًّا؛ لناحية تنظيم الشروط وقواعد الاشتباك مع محور الممانعة وأطرافه، من لبنان إلى اليمن والعراق وسوريا وصولاً لطهران نفسها. هكذا صارت واشنطن طرفًا مُباشرًا، لا على صِفة الدعم والمُؤازرة الكاملين لإسرائيل ضد حماس وفصائل القطاع؛ بل من مُنطلَق أنها تُديرُ نِزاعًا عريضًا ومُتعدِّد الجبهات، ويتداخلُ مع حضورُها فى المنطقة من مياه البحر الأحمر إلى الحدود السورية العراقية وفى داخل البلدين. ولأنَّ الصراعَ يتزامنُ مع مَوسم التسكين الجديد للبيت الأبيض؛ فقد صارت اللعبةُ فى صُلب المشهد الانتخابى، وربما الورقةَ الخارجيَّة الراجحةَ فى لَعبِ بطاقات الإمبراطورية الآيلة للانطفاء؛ لا سيِّما وقد بدت شديدةَ العجز والخفوت وانعدام الحيلة على الجبهة الأوكرانية، وإذا كان الرئيسُ الماثل على رأسِ السلطة يسعى لتثمير أسابيعه الأخيرة بنجاحٍ قابل للتسويق؛ فإنَّ مُنافسه يجنى من فشله نِقاطًا إضافيّة سهلة، ويُعزِّز مركزَه بمُغازلة التيَّارات المسيحانية وجماعات الضغط الصهيونية، ويدَّخرُ المسألةَ كلَّها لتكونَ بين الملفَّات الأُولى فى ولايته، وقد اختبرها سابقًا فى ولايته الأولى، ويمتلئُ بيقين أنه قادرٌ على حَسمها لصالح الحليف العبرى أوّلاً، ثمَّ لتثبيت هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة ثانيًا.


بمُجرَّد وُقوع حادثة إطلاق النار تتابعت التحليلات. انحازت قطاعاتٌ من جمهورِ مواقع التواصل العرب إلى أنَّ الواقعةَ لا تخلو من شُبهة الترتيب والدعائيَّة الاستعراضية، وألمح آخرون خارجَ المنطقة للمسألة ذاتها، وشخصيًّا لا أُرجِّح فكرةَ التمثيلية المُعدَّة سَلَفًا لاعتباراتٍ عِدَّة؛ أوَّلها أنَّ المُؤتمرَ شَهدَ إطلاقًا حقيقيًّا للنار كان مُحتملاً أن يُودى بحياة ترامب فعلاً، وكُلفة اكتشاف الخديعة أكبر من مكاسبها، فضلاً على أنَّ الرجلَ مُتقدِّمٌ بالفعل فى استطلاعات الرأى بفارقٍ شِبه مُريح، ولا يُواجه مُنافسةً حقيقية، بقدر ما يغرقُ الحزبُ الديمقراطى فى صراعاتٍ داخلية على مَنح بطاقته لبايدن، وإن استُبدِلَ فمَنْ يكونُ البديل، ولو تمَّت عملية الإحلال فكيف يُدار الهامش الضئيل بين مُؤتمر الحزب أواخر الشهر المقبل وموعد التصويت فى مطلع نوفمبر. والخلاصةُ؛ أنها محاولةُ اغتيالٍ غير مُرتَّبة، مع محدوديَّةِ الاحتمالات فى أنْ يكونَ وراءها رسميِّون من الإدارة أو الأجهزة الصلبة، واستحالة إثبات ذلك ولو كان حقيقيًّا؛ إذ ما تزال تصفية «كينيدى» لغزًا عظيمًا بعد أكثر من ستَّة عقود. وبعيدًا من الظروف والمُلابسات، وما قد يتكشَّف عنها من حقائق فى الأيام المُقبلة؛ فالثابتُ أنَّ مُرشَّحًا رئاسيًّا أقرب إلى التفوُّق قد تعرَّض لإطلاق نار، وتلك من النوادر المعدودة فى طوال التاريخ الأمريكى، وأنه سيستفيدُ من ذلك حتمًا، مع تمرير قدرٍ من الفائدة لصقور تل أبيب؛ وإن من مساراتٍ غير مُباشرة.


المعلوماتُ المُتاحة عن مُطلِق النار حتى كتابة المقال، تُشير إلى شابٍ فى العشرين من عمره تقريبًا، ينحدرُ من منطقةٍ ذات أغلبيَّة بيضاء وكان مُنتميًا للحزب الجمهورى. يُنحِّى ذلك فرضيَّةَ المُؤامرة الخارجية، ولا يجعلُ المسألةَ تتجاوزُ حماسةَ الجيل الجديد فى القاعدة المُحافظة من ارتداد المُؤسَّسة الحزبيّة عن بعض ثوابتها القديمة، ووقوعها تحت سطوة الزعامة الفرديّة لترامب، وهو ليس محلَّ إجماعٍ داخلىٍّ بطبيعة الحال؛ لكنَّ الشائع لا ينفى احتمالَ أن تنطوى القصَّة على جوانب غامضة، وأن تظلَّ طَىَّ الكتمان من دونِ إفصاحٍ أو تفاصيل مُقنعة. وفى المُحصِّلة النهائية؛ فحتى لو كان المُنفِّذُ من دائرة ترامب اللصيقة فإنه لن يفقدَ الأثر المعنوى بالحشد والتعاطف الجيَّاش، وفى كلِّ الأحوال لن يعدمَ اليمينُ الصهيونىُّ الفائدةَ المُتحقِّقة له على أرض غزَّة، من أعماق البيئة الأمريكية السائرة نحو مناخٍ من الاضطراب والجنون.


حقَّق نتنياهو غايتَه الأُولى من المُماطلة؛ إذ استهلكَ الوقتَ المُتبقِّى قبل موعد خطابه أمام الكونجرس، وبعدها خروج الكنيست إلى عطلتِه الصيفيَّة الطويلة. وسيذهبُ إلى واشنطن من دون التزاماتٍ تقريبًا، ويعود إلى إسرائيل وقد غسلَ سُمعتَه وأزاح ضغوطَ البيت الأبيض عن كاهله، بينما يتربَّح فى حاضنته المباشرة وبين الأمريكيين من ارتقاء ترامب وتعزيز حظوظه. ربما تكونُ الاغتيالاتُ جزءًا من العقيدة الصهيونية، وصرَّح رئيسُ حكومتِها مُؤخَّرًا بذلك؛ لكنَّ المدنيِّين بطبعهم ينفرون من تلك السلوكيات، والرسالةُ المُضمَرة أنَّ ترامب مُستهدَفٌ فى مواقفِه وشعاراته، وأنه يتعرَّض لحربٍ مُباشرة بعدما أخفق خصومُه فى تقويضه بالقانون وتلال القضايا. إنه مُتورِّطٌ ومُدانٌ جزئيًّا بالفعل؛ لكنَّ مَنطقَ العوام، والمحافظين منهم تحديدًا، لا يعتمدُ الحقائق العقلانية فى مُقاربة النزاعات ذات الطبيعة الأيديولوجية والهويَّاتية. سيتردَّد بينهم أنها تصفيةٌ خَشِنة لمُنازلة سياسية ناعمة، وتحجيمٌ لخطاب رَفض الهشاشة والخَرف واستباحة الحدود والسَّعى لاستعادة العَظَمة الأمريكية، وقد تنشط «أيباك» وغيرها من اللوبيات اليهوديّة؛ لتصوير الأمر على أنه دخولٌ على خطِّ المحنة الإسرائيلية؛ إذ يُمارس بايدن ضغوطًا على تل أبيب وإدارتها، بينما يدعو غريمُه لتركِها تستكملُ الحربَ وتُحقِّق أهدافَها المُعلَنة ضد حماس. المنافسةُ هُنا ليست على نصف المليون صوت من مُزدوجى الجنسية فى الدولة العبرية، بل على أكثر من ثمانين مليونًا من أتباع المسيحية الصهيونية فى أمريكا نفسها، وعلى أكثر منهم من المُنجذبين شعوريًّا وثقافيًّا لإسرائيل، ومَن يضيقون بالهجرة وفواتير الإخفاقات المُتتالية فى الخارج، وليس أفدحها ولا أكثرها إزعاجًا تقديم عشرات مليارات الدولارات لصالح أوكرانيا فى حربها الخاسرة.


يبدو طريقُ ترامب للرئاسة مفروشًا بالورود، فالمُناظرة مع بايدن أواخر الشهر الماضى ما زالت فاعلةً بقوّة فى المشهد، وقد أتته حادثةُ الاغتيال على شوقٍ واحتياج. أدارَ اللحظةَ بدعائيّةٍ واضحةٍ؛ ولو عَفوًا وبأثر ميوله الاستعراضية ومحبّته للظهور غير الاعتيادى، فبدا صلبًا ومُتماسكًا تحت مظلَّة الرصاص، وخالفَ بروتوكول الإجلاء عندما وقف بين عناصر الخدمة السرية رافعًا قبضته، وهاتفًا: «قاتلوا.. قاتلوا». التعاطفُ معه سيزداد، وهو القائلُ من قبل إنَّ بإمكانه أن يُردِى شخصًا بالرصاص فى قلب نيويورك دون أن يفقد داعميه، فلنتخيَّل حفاوةَ المُناصرين وقد صار هو نفسه هدفًا للقَنص؟! وما يُعزِّز الاستخلاصَ بأثر الموقف على السباق الانتخابىِّ، مُسارعة الرئيس الديمقراطى لإدانته، وسَحب حملته الإعلامية الهجوميَّة على مُنافسه تجنُّبًا للارتدادات العاطفية المُضادّة. كما أدانها «أوباما»، وإن ألمح إلى خطاب ترامب الذى يُذكِى العُنفَ ويختصمُ ديمقراطيّة البلاد وهُويَّتها. وحتى تكتملَ الدراما؛ أطَلَّ السيناتور الجمهورى ماركو روبيو، أحد أبرز المُرشَّحين لموقع النائب، قائلاً إن «الله أنقذ الرئيس ترامب»؛ هكذا تُصاغ الحلقةُ الأخيرة قبل العودة إلى البيت الأبيض، ليبدو وكأنَّ الرصاصةَ قتلَتْ بايدن بمعنىً مجازىٍّ: فالغريم يُجدِّد شعبيَّته العالية أصلاً، وقد صار هدفًا لخصومه بالنار والغدر، بعدما عجزوا عن صَدٍّه بالسياسة والقانون، بينما الرئيسُ المُحاط بهالة السُّلطة يتلقَّى الضربات من أقرب الناس، ويُطالبُ رجاله ومُحازبوه بإطاحته والبحث عن بديل؛ وإن لم يكن مُقنِعًا لحزبِه فكيف يُقنعُ المُختلفين والمُتأرجحين؟!


قال إعلامُ الاحتلال إنَّ مجزرةَ خان يونس كانت لاستهداف محمد الضيف، قائد كتائب القسَّام ورجل حماس الثانى فى غزَّة، وبرَّر نتنياهو الأمرَ بما يُفيد أنَّ الاغتيالات جزءٌ أصيل من السياسة الأمنية لإسرائيل. لقد أفسدَ الهُدنة؛ لكنه قد ينتقلُ من الحرب الشاملة إلى العمليات المُوجَّهة دون التزامٍ مُعلَن، وتحديدًا تصفية التجمُّعات المدنيَّة التى يُحتَمَل أن تُشكِّل قاعدةً لانطلاق مُقاتلى الفصائل أو مُستقرًّا لكُمونهم، كما صَعَّد عمليات التصفية المُخطَّطة على الجبهة الشمالية، وامتدَّ بها إلى مقرَّاتٍ أمنيّة ومواقع سرّية، فضلاً على تلويحٍ سابق برَصد حركة الأمين العام لحزب الله وامتلاك إمكانيّة الوصول إليه فى أىِّ وقت. ومحاولة الاغتيال الفاشلة عبر المحيط؛ قد تُغطّى الكُلفةَ الإنسانية للمُحاولات المُرتقبة فى القطاع ولبنان؛ أوّلاً لأنها تُحجِّم قُدرةَ بايدن وإدارته على الضغط، وتصرفُ أنظارَهم عن الأزمة الإقليمية أصلاً، بجانب ترجيح كفّةِ بَطَله المُنتظَر لسُكْنَى البيت الأبيض أربعَ سنواتٍ مُقبلة؛ ولو كانت العلاقات مُتوتِّرةً بأثر ما يراه ترامب خيانةً وجحودًا من صديقه «بيبى»، رغم ما قدَّمه له من مُؤازرة وإحسانٍ. العبثيَّة التى تفجّرت بها الأوضاع منذ «الطوفان» فى أكتوبر، هى ما تسمح اليومَ بأنْ يُصرَفَ استهدافٌ طفولىٌّ لمُرشَّحٍ أمريكىٍّ فى ولاية على الجانب المُقابل تمامًا للعاصمة، من أجل تثبيت أوضاعٍ شديدة الاختلال على سواحل المُتوسِّط.


ستُصوَّرُ المسألةُ فى بلاد العَمّ سام عملاً سياسيًّا مَحضًا؛ ولن يمرَّ وقتٌ طويل قبل ازدهار أطروحات المُؤامرة، وشُبهة التقصير الأمنى المقصود؛ ما سمحَ لرُجلٍ أن يصعدَ ببندقيّته إلى مبنىً يُشرِفُ على الدائرة الأمنيّة الحصينة. الواقعةُ عَشيّة مُؤتمر الحزب، وإذا كانت بطاقةُ الترشيح محسومةً مُسبَقًا؛ فإنها ستأتى مُرفقةً بدعمٍ مُفرط، وإعجابٍ كاسحٍ بالبطل الذى يُجدِّد عافية الجمهوريين ويتَّخذ صفةً إنقاذيّةً لوطنٍ مأزوم. وعلى الجانب الآخر يطمعُ نتنياهو فى الصورة نفسها؛ بينما يلبسُ عباءة القناص. إنهما رجلان بتركيبةٍ ذهنيّة مُتطابقة، ومساراتٍ مُتضادّة، ومآلٍ واحدٍ تقريبًا. والرصاصة التى يتفجَّر دَويُّها فى بنسلفانيا، يسقطُ قتلاها فى غزّة، والضحية هنا جَانٍ هُناك، والعكس؛ إنما الاتفاق النهائىُّ أن يفوزَ النموذج الأسوأ على الناحيتين: ترامب ونتنياهو؛ دون أن يعنى ذلك مثاليّةَ بايدن وإدارته، أو المُعارضة الإسرائيلية بتلاوينها، أو حتى السنوار وحُلفائه المُمانعين.


الهُدنةُ التى يُريدها سيِّد البيت الأبيض تمريرٌ للوقت حتى نوفمبر، ومن جانب نتنياهو فإنها لا تعدو صيغةَ «الحرب المُتقطِّعة» على أن يكون قرارُ وصلها فى يدِه وحده. الحماسيِّون وصلوا لقاع الاحتمال، ويريدون النفاذَ اليومَ من الكُوّة بعدما صارت ثُقبَ إبرة. أمَّا ترامب فسيكون ميَّالاً للرؤية اليمينية فى تل أبيب؛ بأن تبقى الحربُ على حالها حتى يستعيد مقعده ويمسك الزمام.. مُحاولة الاغتيال تُقرِّبه من هدفه، وبالتبعية تُضيِّق الثُقبَ المُتبقِّى لفصائل غزّة وتيَّارها العريض من باب المندب لخليج العرب. إنها المفاجأةُ التى لم تكُن فى الحسبان، مثلما كان قرار السنوار فى «طوفان الأقصى» مُغامرةً غير محسوبة، وبينما تقلّبَت المنطقةُ تسعةَ أشهر على أثر الاستبداد بالقرار، وإدارة القضية خارج حدودها وتوافُقات أهلها؛ فإنها على موعدٍ مع فوضى إضافيّة تأتيها من سواحل الأطلسى، ولن تنتهى بصندوق الانتخابات الأمريكية؛ بل على الأرجح ستُعاين بدايةً أكثر استحكامًا وأشدّ وطأة.. الغزِّيون ربما ضاقوا بالحال ويبحثون عن مخرج؛ ولدى الرُّعاة الذين لا يُسدِّدون فاتورةَ المقتلة رأىٌ آخر.. وأسوأ ما فى ألاعيب عَضّ الأصابع؛ أن يكون أطرافُها بأسنانٍ حادة وأطرافٍ مُتبلِّدة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة