ربما لم يكن الطريق نحو إرساء مبادئ الديمقراطية العالمية سهلا على الإطلاق، فقد شهدت العديد من المراحل، منذ بزوغ نجم الولايات المتحدة، كقائد للمعسكر الغربي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد تمكنت من فرضها على حلفائها، على اعتبار أن تعميم رؤية واشنطن، هو بمثابة السبيل، لإحكام قبضتها عليهم، بينما كان المفهوم نفسه هو أحد أركان الصراع، خلال الحرب الباردة، وإن توارى خلف مبادئ تحمل صبغة اقتصادية، على غرار الشيوعية السوفيتية، والرأسمالية الأمريكية، على اعتبار أن الغرب أصبح منارة الديمقراطية المنفتحة، بينما كانت الديكتاتورية أحد سمات الاتحاد السوفيتي، وبالتالي تحول المعسكر المنتصر نحو تعميم المبدأ نفسه بعد انطلاق حقبة الهيمنة الأحادية.
وعلى الرغم من هيمنة واشنطن ومن ورائها الغرب الأوروبي، على مقاليد الأمور في العالم، في التسعينات من القرن الماضي، لم يخلو الطريق لتعزيز الديمقراطية، باعتبارها أداة تعزيز القيادة الأحادية لواشنطن، من المعارك، التي تراوحت بين الانتقادات الحادة للدول المارقة تارة، مرورا بالعقوبات الاقتصادية تارة ثانية، وحتى السقوط في مستنقع الحروب العسكرية، على غرار ما شهدته العراق وأفغانستان، والتي كانت الديمقراطية أحد أهم الأبعاد التي تذرعت بها واشنطن وحلفائها، من أجل إطلاق الحرب عليهما في سنوات الألفية الأولى، تارة ثالثة، ثم اتجهت بعد ذلك نحو إثارة الفوضى الداخلية، على غرار ما حدث في الربيع العربي، والذي لاقى مباركة أمريكا والغرب، تحت شعارات حرية التعبير، والديمقراطية، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن المبادئ التي سعت أمريكا ومن ورائها الغرب الأوروبي، اعتمدت بصورة كبيرة على فرضها بالقوة، على المحيط العالمي، وإن اختلفت درجات القوة المستخدمة، بين الخطاب السياسي العادي، وحتى المعارك العسكرية، وإثارة الفوضى الأهلية.
وهنا يبدو العنف كان بمثابة وسيلة الغرب، بقيادة واشنطن، لتعزيز مبادئها، وتعميمها، وهو ما يبدو ملازما لها، في مرحلة المخاض الحالية، التي تشهدها واشنطن نفسها، في ضوء حرب تكسير العظام، بين أطراف المعادلة السياسية، في الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تجلى في أبهى صوره في محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والمرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري، في الانتخابات الرئاسية المقبلة، في ضوء ما يحمله من نزعة تحمل قدرا من التمرد على الحالة النمطية لمفهوم الديمقراطية الأمريكية، التي سعت بلاده لإرسائها، منذ منتصف الأربعينات من القرن الماضي، وهو ما يبدو في خطاباته التي حملت قدرا من الشراسة، تجاه المهاجرين، وربما بقدر أقل نحو ذوي الأصول الأفريقية، بل وظهر أيضا في علاقاته الخارجية، إبان فترة رئاسته، عبر التقارب مع خصوم واشنطن التاريخيين، على غرار روسيا وكوريا الشمالية، بينما أبدى إعجابه في مرات عدة بالنموذج السياسي الصيني، رغم حربه التجارية ضد بكين.
ولعل محاولة اغتيال ترامب، خلال خطاب انتخابي في بنسلفانيا، أحدث وجوه العنف، المرتبط، ولو ظاهريا، بالديمقراطية، في ضوء ارتباطه بالحدث الدعائي للمرشح على منصب سيد البيت الأبيض، وهو مشهد ربما ليس بجديد، في ضوء محاولات سابقة لاغتيال الساسة في أمريكا، إلا أن شراسة المعارك الانتخابية في الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، وما شابها من ظواهر غير مسبوقة، تعكس طبيعة المعركة التي تجاوزت المنصب، نحو أبعاد أخرى، ترتبط بالمبادئ والمفاهيم التي رسختها أمريكا منذ عقود، وصارت جزءً لا يتجزأ من عقيدتها السياسية.
مشهد محاولة اغتيال ترامب، ربما لا ينفصل بأي حال من الأحوال، عن مشاهد سابقة، تضاهيه في الخطورة على وضع الديمقراطية في الولايات المتحدة، ربما أبرزها محاولة اقتحام الكونجرس في يناير 2021، احتجاجا على ما آلت إليه الانتخابات الرئاسية آنذاك، لتعلن فوز الرئيس الحالي جو بايدن، بالإضافة إلى الملاحقات القضائية التي واجهت ترامب، منذ خروجه من الرئاسة، في سبيل منعه من خوض المعترك الرئاسي مجددا، وغيرها من الخطوات التي تمثل محاولات لإعاقة سلاسة العملية الديمقراطية، سواء من هذا الجانب أو ذاك.
إلا أن محاولة اغتيال المرشح الرئاسي بمثابة ناقوس خطر، ليس فقط على مستقبل الديمقراطية في أمريكا، وإنما انعكاسا صريحا بحالة من الخروج الشعبي عليها، على غرار المشاهد سالفة الذكر، بينما ينذر بما هو أخطر، حال تفاقم الانقسام في المجتمع الأمريكي خلال المرحلة المقبلة.
وهنا يمكننا القول بأن غطاء العنف الذي ارتبط بالديمقراطية التي طالما نادت بها أمريكا، بات يحمل تحولات خطيرة، تتجاوز محاولة فرض نموذج بلاد العم سام، على المحيط العالمي بالقوة، نحو الداخل الأمريكي نفسه، فبعد سنوات من استخدام العنف لتعميم التجربة الأمريكية في العالم، سواء في صورة عقوبات اقتصادية ووصلت إلى حد التدخل العسكري، بات العنف سلاح الداخل لحماية الديمقراطية، في مواجهة من يعتبره قطاع من الأمريكيين عدوا لها.