فخٌّ جديد حفرَه بنيامين نتنياهو؛ عندما أطلق إشارتَه بتنفيذ الهجمة البربريّة الأخيرة على مواصى خان يونس، ما أوقع مئات القتلى والجرحى، ولم يُحرز على ما يبدو صورةَ النصر المطلوبة. قِيلَ إنَّ العملية كانت لاستهداف القائد العام لكتائب القسَّام محمد الضيف، وقائد لواء خان يونس رافع سلامة، وأعلنت إسرائيل نجاحَها فى تصفية الهدفين؛ بينما نفت «حماس» مقتلَ الأوَّل وصَمتت تقريبًا عن تبيان موقف الثانى بشكل قاطع. وبعدما سرّبت أخبارًا عن خروجها من جولة المفاوضات، عادت لتنفى ما تردَّد، مُبدِيةً تمسُّكَها بالمسار المفتوح من خلال الوسطاء، وتحديدًا مصر وقطر، وعليه فالثابتُ أنَّ المذبحة غَرَفت من دم المدنيِّين ما راق لها؛ إنما لم تُحقِّق أثرَها المطلوب فى الميدان ولا فى السياسة.
منشأُ الأزمة أنَّ الخصمين يستعير كلٌّ منهما صورةَ الآخر: السنوار فى «طوفان الأقصى» تعاطى مع وقائع الأرض بقدرٍ من الامتلاء بشعور الهيمنة والاقتدار، ونتنياهو أحبَّ صيغة «قائد الميليشيا»؛ فانفردَ بالمشهد مُلغِيًا الدولة أو مُستتبِعًا مُؤسَّساتها لإرادته الفردية. والحربُ فى شهورها التسعة الماضية لم تنجح فى إقناع أحدهما باستعادة صورته الحقيقية، أو إعادة تكييف مواقفه بما يُلائم السياق وتطوُّراته. فالرجلُ الواقف على أطلال غزَّة يعتصمُ بثابتٍ أيديولوجى يبدو أكبرَ وأهمَّ لديه من فلسطين وقضيِّتها، وغريمه الذى لا يتوقَّف عن التخريب وتعلية كومة الردم والأشلاء يستنقذُ نفسَه؛ ولو على حساب بيئته ومصالحها الاستراتيجية، وهكذا تكتملُ المُنازعة الصفرية بينهما على قاعدةٍ لا يُمكن أن تخمدَ النار أو تُفضى إلى التهدئة.
يقتضى الإنصافُ أنْ نُوزِّع الأنصبةَ على وجهٍ عادل؛ فمهما كانت أخطاء القسَّاميين فى الطوفان أوَّلاً، ثمَّ ما تلاه من إدارةٍ ارتجاليّة مشحونة بالدعايات العاطفية، ومهما بدا حجمُ التنازع بين الجناحين الحماسيِّين: المُسلَّحِين فى خنادق الداخل، والسياسيِّين فى فنادق الخارج؛ لا يُمكن أن نساوى بين يحيى وبنيامين. إنهما مُختلفان فى كلِّ شىءٍ تقريبًا، ومُتطابقان أيضًا، وتلك هى المُفارقة البائسة. نتنياهو خليطٌ من هواجس الصهيونية التاريخية والجديدة، حفيدُ حاخامٍ وابنُ أحد مُؤرِّخى تيَّار جابوتنسكى التصحيحى، ويمينىٌّ قومىٌّ بمَسحةٍ توراتية لا تُخفيها صورته العلمانية، وتحوُّلاته بين الدبلوماسية والبزنس وصولاً لرأس الحكم تحت مظلّة قومية. والسنوار عابرٌ من آلاف العابرين على أرض القطاع، قضى شطرًا عظيمًا من عمره وراء أسوار الاحتلال، فتعلَّم لُغتَه واقترب من أفكاره المُؤسِّسة وانحيازاته الحارقة، وهو أُصولىٌّ أيضًا فى نظرته ومُنطلقاته، يُقاربُ مسألتَه الوطنية من زاويةٍ عقائديَّة مَحضة، ويلتزم تجاه حلفاء بعيدين أكثر من التزامه مع الأشقاء، وعندما تحرَّر من سجنه كان ذلك بتوقيع غريمه؛ ما يُكسِبُ المُنازلةَ بينهما اليومَ بُعدًا شَخصانيًّا؛ وإن لم يُصرِّح به أحدُهما. كلاهما يُقيمُ وزنًا ثقيلاً للآخر، ويُظهر العكس، ولا يعترفُ به شريكًا فى قسمةٍ اضطراريّة.. والإلغاءُ إنْ لم تتوافر أدواتُه الكاملة؛ فإنّه يصيرُ استنزافًا مفتوحًا من دون أُفقٍ أو مساراتٍ واضحة.
فى إسرائيل يجلسُ زعيم الليكود على قمَّة هَرم السلطة، ورغم توظيفه لأجنحة الدولة فى لُعبة المناورة والتفلُّت من الالتزامات؛ فإنّه يعتمدُ آليّةً إضافيّةً تُعينه على إنجاز ما يتعذَّر عليه داخليًّا ومع العالم. إنه يستغلُّ خصومَه بشكلٍ أو بآخر لتمرير أهدافه وتغطية نواياه السيّئة، هكذا يُديرُ اللعبةَ على الجبهة الشمالية مع حزب الله؛ لسحب الحُلفاء الغربيِّين إلى نطاق المُواجهة، وكان قصف القنصلية الإيرانية فى دمشق تحت العنوان نفسه؛ ففاز بما أراده من ناحيتين: تنشيط الدعائيّة المُضادّة لمحور المُمانعة على صِفة الخطر الوجودى الداهم، وإجبار الحلفاء على التقدُّم للعب أدوارٍ مُباشرة كانوا يُحجمون عنها. والتكتيكُ ذاتُه يجرى جنوبًا مع الحماسيِّين؛ إنما من زاوية أنه يستفزُّ الحركةَ أو يُضيِّق خياراتها، ثمَّ يستثمرُ فى ردود فِعلها لإزاحة العبء عن كاهله. صحيحٌ أنه مكشوفٌ للمنطقة، وربما أمام الغرب أيضًا؛ لكنه الانكشاف الذى لا يُحجِّم نزواته هنا ولا يَسلبُه غطاءَ الدعم من هناك.
يستشعرُ العجوزُ المُتمرِّس سياسيًّا أنَّ الخناقَ الأمريكىَّ يستحكمُ حول رقبته؛ فالرئيسُ الديمقراطى أقرب إلى التاجر المُفلس، وهو إذ يُقلِّب دفاترَه لا يجدُ ما يصلح لتعديل وضعه البائس فى سباق البيت الأبيض؛ إلَّا أن يأتى جمهورَه بآيةٍ خارجيّة تنسفُ تهمةَ الرخاوة والإخفاق، وتصبُّ لصالح زعمه امتلاك اللياقة اللازمة لأربع سنوات من تقلُّبات البيت الأبيض العاصفة. يصعبُ عليه التقدُّم فى الجبهة الأوكرانية، كما أنَّ الصدام مع الصين أنعمُ وأبطأُ إيقاعًا من إمكانية تحقيق إنجازات مُعجَّلة؛ لذا لا بديلَ عن البحث فى الشرق الأوسط. ونتنياهو لا يجرؤ على استباق الانتخابات وتقطيع الروابط، فربما تحدثُ المُفاجأة فى أىِّ وقتٍ. لعلّه يُوقن من ارتقاء حظوظ ترامب؛ لكنّه مُضطرٌّ لمُسايرة بايدن فى شهوره الأخيرة.
ليست المُعضلة فى أنَّ حاضنته التوراتيّة ترفضُ الصفقةَ مع حماس؛ فالواقع أنه أكثر رفضًا وتعنُّتًا من بن جفير وسموتريتش. وبينما يصيحُ حليفاه ويُهدِّدان بإسقاط الحكومة؛ فإنّه الحائطُ الأخير الذى لا فرصةَ لديه للتهديد أو الضغط على مستوىً أعلى. وحساباته جاريةٌ فى مسارين: إفساد الاتفاق بكلِّ السُّبل المُمكنة دون وقوعٍ تحت سيف الوقت، أو التحسُّب لأىِّ التفافٍ عارض قد يجبره على التوقيع فى لحظةٍ تستحكمُ فيها الأحوال وتنسدُّ المخارج. وبخبرته الطويلة يلعبُ ألاعيب الحُواة، ويُروِّض الأطرافَ جميعًا بمواعيد مُؤجَّلة، دون أن يمنح شيئًا ماديًّا لأىِّ طرفٍ منهم. يقولُ لأحزاب المستوطنين إنه ثابتٌ على رأيه ومُتشدِّدٌ فى أهدافه الحربية، ويزعمُ أمامَ الجنرالات أنه لا يُمانع الصفقةَ طالما جرت بشروط إسرائيلية، ويُغازل الأمريكيين باحترام إدارتهم ومصالحهم؛ على ألَّا يُمكِّنوا أعداءه من دولته، ثمَّ يُلوِّح لحماس بالورقة والبندقية؛ وكلَّما ذهبت لواحدةٍ منهما يسحبُها ويُقدِّم الثانية.
ضربةُ المواصى للاستعراض لا لحسم الحرب. فما أعلنه مُتحدَّثُ الجيش عن استحالة القضاء على حماس يستقرُّ فى وعى نتنياهو نفسه، والتجربةُ أنَّ تصفية قيادات الصفِّ الأوّل لم تُنهِ فاعليّة الألوية والكتائب؛ إذ على ما يبدو لدى الحركة خزَّان من الكوادر الوسيطة، وآليّة ديناميكيّة للتصعيد والإحلال. قبل خمسة أسابيع تقريبًا أطلقَ الاحتلالُ عمليّةً واسعةً فى مُخيَّم النصيرات، أسفرت عن إسقاط زهاء ثلاثمائة قتيلِ غَزِّىٍّ واستعادة أربعة أسرى صهاينة، وكان ذلك على مسافةِ أُسبوعٍ واحدٍ من إعلان الرئيس بايدن عن ورقته المُقترَحة للتهدئة، ثمَّ تمريرها بقرارٍ دولىٍّ من مجلس الأمن. ولم يكن المقصود وقتها الاستعاضة بالأربعة عن بقية العشرات المحبوسين فى القطاع؛ بل إحراز صورة نصرٍ يُمكن الوقوف عندها تحضيرًا للاتفاق من نقطة الذروة. والحادث الأخير يتدفَّق فى القناة نفسها؛ فقد أراد رئيسُ الحكومة العبرية أن يقبضَ على ورقةٍ تُعزِّز موقفَه تجاه إخوته الأعداء من التوراتيِّين فى الائتلاف، أو تزيح عن كاهله ثِقَلَ الاضطرار للتوافق، فى ضوء ما سيترشَّح عن مواقف قادة حماس الميدانيين والخارجيين.
لقد أراد أن يقتنصَ لحظة مثالية عالية السخونة، تكون مُؤهِّلةً لاتفاق قليق الخسائر من وجهة نظرة، أو تُترجم عمليًّا فلسفتَه المُصرَّح بها عن «التفاوض تحت النار». فإمَّا يُطوِّع «حماس» ويقنع حُلفاءه بأنه المنتصر، مع تمهيد الأرض لمُستقبلٍ يسمحُ له المغامرة واستكمال الحرب وقتما يريد، وإمَّا أن تتمرَّد الحركةُ على ما يرسمه من حدودٍ للتعامل؛ فتنحرف الخطوة ويخرج بريئًا أمام الإدارة الأمريكية. لقد فَطِن الوسيطُ المصرىُّ للخديعة، ونجح مع القطريين فى احتواء الردود الانفعالية من جانب الفصائل الغزِّية، ما يُفسِّر عودة مُتحدِّثى المكتب السياسى لحماس بالخارج عن التصعيد الخطابى، وسحب التسريبات السابقة بشأن تعطُّل المُفاوضات. ومع غموض موقف «الضيف ورافع سلامة»؛ فيبدو أنَّ نتنياهو لم يُحقِّق أيًّا من هدفيه المُخطَّط لهما فى العملية.
لنَقُل إنّه الحظّ؛ أو سوء إدارة بقيَّة الأطراف؛ لكنَّ نتنياهو على بُؤسِه وانكشاف ألاعيبه يُواصل رقصتَه، ولا يسقطُ عن الحَبل. نعم فشلَتْ خطَّتُه لتعليق إفشال التفاوض على مشجب حماس؛ إنما المُحصِّلة أنه ما زال خارجَ أيّة التزامات، وسيذهبُ إلى واشنطن على الأرجح ليجنى كلَّ المنافع، دون أن يُقدِّم شيئًا لبايدن والإدارة الديمقراطية. خطاب الكونجرس فى الرابع والعشرين من يوليو فرصةٌ لغَسل السُّمعة وتنشيط منصَّة الدعم، وسيفوزُ على الأرجح بلقاءٍ مع الرئيس المأزوم، ليعودَ إلى تل أبيب مُستفتحًا مرحلةً جديدة لم يختبرْها منذ أوَّل الحرب. إنها عُطلةُ الكنيست الصيفية الطويلة، وفيها تنتقلُ الصلاحياتُ كلُّها لعُهدته، وتنحلُّ عن خِناقه خيوطُ اللغط والمُناكفة، ومحاولات إسقاط الحكومة أو تقويض الائتلاف من داخله. وفى المُقابل؛ تسير أمور «حماس» من سيِّئ لأسوأ؛ فلم تعُد الحركةُ بكامل عافيتها، ولا فى إمكانها الذهاب فى مُغامرة «النفس الطويل» أبعد من ذلك؛ بينما لا تتّضح فى الأُفق ملامح التهدئة، ولا بشائر تعديل موازين القوى وزيادة جرعة الإسناد من حلفاء المحور الشيعىِّ.
يفلحُ أسوأُ رؤساء الحكومات الإسرائيلية لأنه مُحاطٌ بأسوأ مُعارضة مُمكنة، وربما أردأ جيل من الجنرالات وقادة المُؤسَّسات الأمنية، فضلاً على شارع أخذته لوثةُ اليمين فصارَ بكامله منحازًا لقَرع الطبول ودقّ الأعناق؛ ولو أبدى مَيلاً مرحليًّا إلى صفقةٍ تستعيدُ الأسرى. «بيبى» رجلُ المرحلة المُناسب تمامًا، ويليقُ بالدولة الصهيونية ومشروعها الذى يزدادُ قُبحًا كلَّما ازداد عُمرًا. وهو بكلِّ تاريخه الأسود، من التحريض على «رابين» حتى اغتياله، وصولاً لعملية الغُلاف وفشلها الذريع، وبينهما الاستثمار فى تمكين «حماس» لاستبقاء حالة الانقسام، والمُباهاة بأنه الملكُ اليهودىُّ الذى لم يمنح الفلسطينيين شيئًا، يُوفِّر الوقودَ المثالىَّ للأُصوليَّات السارحة فى المنطقة، وكلاهما لا يُحبًّ أن يستبدلَ مُنافسَه داخلَ الحلبة؛ لأنَّ بقاءهما مربوطٌ بسلسلة حديدية واحدة. كلَّما أوغلت إسرائيل فى تلمودها المكتوب بالدم، ردَّت العمائمُ السوداء بالبُكائيَّات وطقوس التطبير وإدماء الذات. والجنون مناخٌ مثالىٌّ لصعود المخابيل، وازدهار المحارق الهوياتية الموصومة بالانغلاق والدوجما.
إسرائيل بكاملها بلدٌ شديدُ اليمينيَّة؛ حتى يسارها نفسه. ولو اُزِيح نتنياهو فقد يرثُه جانتس أو ليبرمان أو لابيد، وسريعًا ما سيتزحزح الوسطُ كثيرًا إلى اليمين؛ كعادة الماكينة الصهيونية التى تُقَولِب الأيديولوجيا وتُظهِّرُ أسوأ ما فيها. والحال أنَّ «حماس» مشدودةٌ من رقبتها إلى حزب الله، والحزب مشدودٌ لطهران، ولا يبدو أنَّ الإقليم بصدد انتقالٍ سريع من التشويه المُتبادَل بين العقيدة والسياسة. يصعُبُ استخلاصُ وصفةِ التشافى الفعالة لأىٍّ من الجانبين؛ ناهيك عن إقناعهما بالحاجة إلى العلاج، والبحث عن نُقطةٍ لكَسر السلسلة الجنونية أقربُ لاجتراح المُعجزات. لا أملَ من دون تحوُّلٍ إيجابىٍّ فى الجبهتين، ولن تنتقل إحداهما قبل انتقال الأخرى، وكلاهما تُبرِّر جمودها وإلغائيِّتها بخطاب الأُخرى؛ فكأنهما فى صراعهما الضيِّق أمامنا، يخوضان معًا صراعًا عدائيًّا شاملاً ضد المنطقة.. لهذا ينجح «بيبى» بأدائه بانكشاف العميق، وأدائه شديد البؤس، فى أن يظل على خشبة المسرح، وأن يضمن ألّا يسقط عن الحبل؛ على الأقل فى المدى القريب.