معضلات الديمقراطية الغربية، ربما لا تقتصر على مجرد الاختلاف في التطبيق العملي، وغياب المرونة، في زمن الأزمات، وهو ما تناولته في مقالي السابق، وإنما أيضا في ارتباطها بالحالة الصراعية، سواء فيما يتعلق بالبعد التنافسي بين أطراف المعادلة السياسية في الدول، والذي غالبا ما يتسم بحدته، وإن كان قد تجاوز الحدة التقليدية، نحو أبعاد أخرى فوضوية في الآونة الأخيرة، تجلت في أبهى صورها في محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والمرشح عن الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات المقبلة، من جانب، أو محاولة تصديرها وفرضها بالقوة على العالم الخارجي، وهو ما بدا في العديد من المشاهد الدولية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من جانب آخر.
ولعل الحديث عن ارتباط الديمقراطية بالصراع، تراوح في العديد من المشاهد، بين المنافسة، والتي طالما روجت لها الدول الكبرى، باعتبارها الصورة الحضارية للسياسة، إلى مشاهد متفرقة من العنف، شهدت تصاعدا تدريجيا، في أعتى الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بين مظاهرات واحتجاجات، مرورا باقتحام المؤسسات، على غرار الكونجرس، احتجاجا على الإعلان عن فوز الرئيس الأمريكي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وحتى محاولة اغتيال ترامب الأخيرة، لتعكس حقيقة مفادها أن الديمقراطية التنافسية، تجاوزت الخطوط المرسومة لها، لتتحول إلى حالة أشبه بالصراع، المرشح للتفاقم، ليضع البلاد في حالة من الفوضى، والحروب الأهلية، بينما تضع دولا أخرى على شفا العجز السياسي، على غرار المشهد الفرنسي، في ظل "التعادل" الراهن بين القوى السياسية الرئيسية، وما قد يسفر عنه من فشل في تحقيق توافقات، يمكنها تشكيل حكومة ائتلافية، لتسيير شؤون البلاد والعباد.
إلا أن غياب المرونة على الحالة الديمقراطية في صورتها التنافسية، لا يعني بأي حال من الأحوال التحول عن المفهوم، نحو الديكتاتورية، ولكن ربما تبقى الحاجة إلى إعادة هيكلته، من خلال التحول تعزيزه بـ"الحوار"، وهو الأمر الذي لا ينقض المنافسة القائمة بين الأحزاب والقوى الفاعلة في الدولة، وإنما يخلق توافقات فيما بينها، حول القضايا الجوهرية، والتي تمثل أولوية قصوى، في إطار ثوابت الدولة، ورؤيتها لمحيطها العالمي، خاصة في القضايا التي باتت ترتبط مباشرة بمصلحة المواطن، في ظل الأزمات الراهنة العالمية، وتداعياتها الممتدة والمتمددة والتي لم تعد تقتصر على منطقة بعينها.
مفهوم الديمقراطية الحوارية، يبدو أكثر مرونة، في التعامل مع الأزمات، في ضوء ما يمكن الوصول إليه من توافقات، من شأنها تخفيف حدة المنافسة، أو على الأقل السيطرة عليها بحيث لا تتحول نحو الحالة الصراعية، وما قد ينجم عنها من فوضى مجتمعية، بحيث يصبح الحوار، مرتبطا بالمفهوم، وآليات تطبيقه، بحيث يساهم في تعزيزه من جانب، بينما يصبح المفهوم في الوقت نفسه بمثابة إثراء للحالة الديمقراطية، القائمة في الأساس على المنافسة.
فلو نظرنا إلى ارتباط الحالة الديمقراطية بفكرة الحوار، نجد أن الأخيرة، تساهم بصورة كبيرة في تسليط الضوء على القوى السياسية البعيدة عن مقاعد السلطة، بحيث يمكنها تقديم رؤيتها للرأي العام، فيما يتعلق بالأزمات المحيطة، والكيفية التي يمكن التعامل بها معها، وهو الأمر الذي يجسد ذروة التطبيق للمفهوم، ويحقق الهدف منه، خاصة إذا كان الحوار حالة مستمرة، لا ترتبط بحدث معين، بينما يخلق حالة من التفاعل المجتمعي معها، سوف ينجم عنها معرفة كاملة لدى الرأي العام بالبرنامج الذي تحمله كافة الاتجاهات السياسية.
ربما يبدو نموذج "الحوار الوطني" في مصر، بمثابة مثالا ملهما، لحالة الديمقراطية الحوارية، عبر ما يقدمه من مساحة مهمة لكافة التيارات السياسية والأحزاب والقوى الوطنية، ناهيك عن منظمات المجتمع المدني، من فرصة لتقديم رؤيتها حول كافة القضايا التي تشغل الرأي العام، وهو ما يساهم في تأهيلها للقيام بدور مهم داخل الإطار الوطني، وليس فقط في نطاق المصالح الحزبية الضيقة.
وهنا يمكننا القول بأن الوضع العالمي الراهن، في ضوء ما يشهده من أزمات متلاحقة، يبدو في حاجة إلى إعادة هيكلة العديد من المفاهيم، وفي القلب منها الديمقراطية، والتي تمثل أحد أهم أدبيات حقبة الهيمنة الأحادية، منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث تبقى المنافسة السياسية أحد أهم أبعادها، ولكن باتت الحاجة الملحة إلى ضبط وتيرتها، لاحتواء تداعيات أية تطورات من شأنها تفاقم الحالة التنافسية وتحولها نحو الصراع، وهو ما يمثل خطورة بالغة على الاستقرار المجتمعي، خاصة مع تنامي الأزمات وتفاقم تداعياتها بصورة غير مسبوقة.