رحل مُنفّذ محاولة اغتيال ترامب ملفوفًا بأسراره الغامضة. قنَّاصو جهاز الخدمة السرية تكفَّلوا سريعًا بتحييده فى مَكمنه؛ لينغلقَ البابُ على كلِّ التفاصيل قبل أن يُفتَح أصلاً. إنها عمليةٌ نظيفة للغاية بمعايير تلك الأنشطة القذرة؛ بينما كانت المسألةُ محفوفةً باللغط والشُّبهات فى حالة الرئيس جون كينيدى قبل ستة عقود، بدءًا من توقيف مُتَّهمٍ وحيد، ثمَّ إخضاعه للتحقيق؛ فمَقتله داخل قبوِ الجهة الأمنيّة بعد يومين على يد مالك ملهىً ليلىٍّ، وهو نفسه وافته المَنيَّة أيضًا فى محبسه تحت ظروف مُلتبسة، ولم تُذَع أيَّة خُلاصات عن التسلسل العجيب. والمُفارقة أنَّ ضحيّةَ التجربة الأخيرة مطلعَ الأسبوع الجارى كان مُشتبكًا مع الملف، فَمِن جُملة ما أثاره ضمن قضاياه الخلافية، أنه لو عاد إلى البيت الأبيض سيُفرج عن وثائق الديمقراطى المغدور فى شوارع تكساس خريف العام 1963.
المُتّهم شابٌ أبيض فى العشرين من عمره، وكان مُنتميًا للحزب الجمهورى. وإذا كانت شُبهةُ القصديَّة والمُؤامرة حاضرةً فى الصورة؛ فإنَّ الاحتمال قائمٌ أيضًا، وبدرجةٍ أكبر، فيما يخصُّ المُصادفة البحتة، وأنّه تحرَّك بنوازع شخصيّة تتأسَّس على حالة الجدل بشأن ترشُّح ترامب وملفَّاته القانونية. المُغامرة سهلةٌ فى بلدٍ يتعاطى السلاحَ كما نستهلكُ الخُبز، وله تاريخٌ طويل مع حسم صراعاته داخليًّا وخارجيًّا بوسائل غير سِلميّة؛ لكن حتى مع هذا التصوُّر لا يخلو الأمرُ من إشارةٍ لبَصمة السياسيِّين، وفائض الشَّحْن والاستقطاب الذى يُغلِّف السباقَ الرئاسىَّ منذ إعلان الرئيس السابق نيَّتَه العودة إلى البيت الأبيض. باختصارٍ؛ إمَّا أنها رأسُ جبلِ الجليد الذى يطمرُ تحتَه شبكةً من المصالح وذوى النفوذ العميق ومُتّخذى القرارات النهائية، أو أنه توجيهٌ غير مُباشرٍ ناحيةَ العُنف، بأَثَر الشحن العاطفى والدعايات المُلوَّنة، وقد تضخَّمت فوقَ المُعتاد حتى صار القضاء نفسُه جزءًا منها. صحيح أنَّ ملفَّات الناجي ليست نظيفةً تمامًا، وعليه مُلاحظاتٌ تُوجِب المُساءلة فعلاً؛ لكنّه خارجَ السُّلطة ودوائر الحساب منذ قرابة أربع سنوات، ولم تتسارع ماكينةُ العدالة التى كانت نائمةً؛ إلَّا بعدما رفعَ قبضتَه، وتجهَّز لنزول الحلبة أمام بايدن.
يعرفُ الديمقراطيِّون مُبكِّرًا أنَّ رَجُلَهم أضعفُ من مُنافسة «بلدوزر» بالغ الثِقَل ومُنفلت العيار.. العُرف ألَّا يُسحَب البُساطُ من تحت الرئيس، وله أن يكون مُرشَّح الولاية الثانية دونَ مُنافسة تقريبًا. والسيناريو كان سهلاً أن يسيرَ على عادته؛ لو طرح الجمهوريِّون وجهًا آخر غير ترامب؛ لأنه مهما أُوتى البديلُ من لياقةٍ وخطابة لن يكون عائقًا صعبَ التسلُّق، وقد يكفى فارقُ الشعبيّة لتذويب فوارق القدرات الشخصية؛ لا سيَّما أنَّ الإدارةَ الحالية أحرزت نجاحاتٍ ملموسةً فى الاقتصاد والسياسة الداخلية. هكذا يبدو أنهم اصطبروا طويلاً فى انتظار مُنافسٍ من الصفِّ الثانى، وعندما برز الغولُ فَعَّلوا كاملَ أدواتهم، وخاضوا الحربَ على صيغةِ الامتحان الوجودى. النقد والهجوم والدعايات المُضادّة لم تُخلخل قاعدتَه الجماهيرية، والمحاكمُ تباطأت قليلاً بعد موقف «المحكمة العُليا» بأغلبيّتها المُحافظة، والوسائل النظيفة، أو على الأقل غير الفجّةِ من زاوية القانون والمُمارسة السياسية، يبدو أنها لم تعُد فعَّالةً إطلاقًا.
ما فات لا يعنى إطلاقًا ترجيح أنَّ الجبهةَ الديمقراطية مُتورِّطةٌ فى محاولة الاغتيال، ولا حتى أنها قد تُنسَب إلى الدولة العميقة؛ ولو بدت غير راضيةٍ عن استعادة «الترامبيّة» بأدائها الشعبوىِّ المُزعج. كلُّها مُجرَّد مفاتيح فى مسطرة بيانو واحد، يصعُب الجَزمُ بأيِّها المسؤول عن النَّغَم الصاخب؛ لكنَّ اللحنَ فى النهاية يُنسبُ للآلَةِ فى مجموعها، وليس لجزءٍ واحدٍ منها.. الأكيدُ أنَّ «ترامب» غير مُرحَّب به من قطاعاتٍ واسعة؛ خاصّة مراكز الثِّقَل الخَفيَّة فى المنظومة الأمريكية، وجميعهم يُحبّون شَطبَه من الصورة، أو يتمنّون أن يَحدُثَ بأيّة صورة. كان «أوباما» مثلاً، على حصافته الكبيرة، أقلَّ من مُداراة مشاعره المكبوتة؛ إذ بينما أدانَ مُحاولةَ القتل كان يُرفِقُ رسالتَه بإدانةٍ مُضمَرة للضحيّة، تلميحًا إلى خطابه الاستعراضى الساخن، ومسؤوليته عمَّا آلَت إليه البيئةُ السياسيّة. ربما يُظهرون سُلوكَ الحملان؛ لكنها وداعةُ الذئاب مخبوءةٌ تحت عباءاتٍ من صوف الماعز. وحتى لو أنكروا جميعًا؛ فإنهم كانوا يشتهون لو أنَّ رسائلَهم الاضطراريَّة بعد دَوىِّ الرصاص كانت للتَّعزِية والتباكى، لا للتنديد واستحسان السلامة.
بقدرِ ما يختنقُ المجالُ العام فى بلد الحُرِّيات؛ فإنَّ الدخولَ المُفاجئ على فعَّالية «بتلر» بولاية بنسلفانيا كان فرصةً لفَتح مساراتٍ جانبية على اللعبة الضيِّقة. الديمقراطيِّون غسلوا أيديَهم سريعًا، وحاولوا أن يُدينوا غريمَهم؛ لِخَصم نِقاطِه المُحرَزة من مشهدٍ دعائىِّ يكاد يُلامس حيِّز الأُسطورة، والجُمهوريِّون تسرَّبوا ببُطءٍ ونعومة للقَدح فى التقصير الأمنى، والتلميح إلى ثغراتٍ قد لا تكون عفويَّة، وأبدى بعضُهم، استباقًا، عدمَ الرضا عن تحقيقات الأجهزة الأمنية، داعين لأنْ يتولَّى الكونجرس الملفَّ. هكذا قد تتشكَّل لجنتان فى مجلسى النواب والشيوخ، ويتَّخذُ المسارُ طابعًا صراعيًّا بين دواليب الدولة وأركان سُلطتها. لو كانت الجريمةُ شخصيّةً تمامًا فلن تُفضِى المُداولات لشىءٍ مهما طالت؛ ولو كانت مُرتبّةً فقد أُغلِقَت عمليًّا بوفاة المُهاجِم، وتداخُل الدوائر بين عدّة جهاتٍ لكلٍّ منها خزائنها السوداء؛ إنما سيترشَّح عن الأخذ والردِّ استثمارٌ طويل للحَدَث، وغبارٌ يُثار على رؤوس الناخبين، وحركيّةٌ تُحوِّط الموكبَ الرئاسىَّ فى طريقه الذى ما عاد طويلاً إلى المكتب البيضاوى.
كأنَّ الجميع كانوا يترقَّبون حَدثًا من خارج المألوف، واقتحامًا خَشِنًا للمسرح من الكواليس، وبعيدًا عن عناصره المعروفة والمُعدَّة سَلفًا. الشهورُ الأخيرةُ أَفقَدَت «بايدن» ذخيرةً مُعتَبَرة من قاعدته التقدُّمية ودوائر الشباب والجامعيِّين؛ ويُمكنُ بدرجةٍ أو أُخرى مُعادلةُ تلك الخسارة بصورةِ القاتل الجديد. المعنى؛ أنَّ «ترامب» ليس محلَّ قبولٍ من الأجيال الجديدة، وعليه خلافٌ داخلىٌّ مثلما على مُنافسِه داخل بيته الديمقراطى، كما أنه هَدفٌ للتصويب يستجلِبُ معَه مخاطرَ العجز الكامل أو الغياب الطارئ. عقبةُ العُمر والخَرَف أمام الرئيس ليست بعيدةً عن الخيار البديل، والرفضُ الشعبىُّ حاضرٌ لدى الطرفين بدلائل واضحة؛ بل إنه ناعمٌ فى حالة الأوَّل ودموىٌّ مع الثانى، وأخيرًا فإنَّ الخوف من مَوت «جو» فى ولايته الثانية بأثرِ الشيخوخة وأمراضها، يتساوى مع احتمالات إزاحة «دونالد» من الواجهة أيضًا برصاصةٍ طائشة.. كما لو أنَّ الكفَّتين تتعادلان؛ ولكلِّ رَجُلٍ أعداؤه مثلما لديه أصدقاءٌ وداعمون.
والمُناكفة إن كانت تدورُ بين خصمين داخليِّين بالأساس؛ فإنها تنفتحُ من زوايا أخرى على غُرماء جُدد. لقد سرّبت بعضُ الأجهزة الأمريكية أنباء عن رصد إشاراتٍ على مُخطَّطٍ إيرانىٍّ لاغتيال ترامب، كأنهم يسعون لرَبط العملية بالعداوة القديمة خارج الحدود. وما حدثَ أنَّ بعثةَ طهران لدى الأُمَم المُتّحدة عقَّبَت سريعًا على التقارير، ووصفتها بالخبيثة وغير المعقولة، وأنها إن كانت ترى الرئيسَ السابق مُجرمًا، على خلفية دوره الثابت فى تصفية قاسم سليمانى، القائد السابق لفَيلق القُدس ومُهندس عمليات الحرس الثورىِّ فى الإقليم؛ فإنها تنحازُ لمُحاسبته تحت الأَسقُفِ الشرعيّة، والقصاص منه فى مُساءلةٍ قانونية عادلة. عمليًّا لم يُخْفِ الدبلوماسيِّون الفُرس مشاعرَهم الكارهة، ولا رغبتَهم فى النَّيل منه؛ والحال أنَّ الذين يبحثون عن مخرجٍ لإغلاق القضية تمامًا سيتجاهلون جُزءَ القانون ويُمسكون فى جُملةِ الثأر، ولصالح الديمقراطيين أن يُروِّجوا الروايةَ خروجًا من ضبابيّة تبادُل الاتهامات فيما بينهم، كما لصالح ترامب والجمهوريِّين أن يعتمدوها أيضًا؛ لأنها تستكملُ هالةَ البطولة وتُعزّز سرديَّة البأس واستعادة عظمة الامبراطوريّة. إنَّ الشارع أمام رئيسٍ بلا لونٍ أو طعم، يُنافسُه تاجرٌ يُحسِنُ الدعاية واغتنام الفُرص، كما يُثير الجدلَ بأداء لاذعٍ لا يفشلُ إطلاقًا فى الجذب والتسلية، ويُؤرِّق فريقًا من الأعداء الخارجيِّين، لدرجةٍ تُعوِّض فاقدَ الكرامة فى ساحاتٍ أُخرى، والأمريكيون مُغرمون بصورةِ «راعى البقر» الذى ينثرُ الرصاصَ ويُريقُ الدماء أينما سار.
خرج العجوزُ غير المُعترِف بشيخوخته من بين الركام. قبل أربع سنواتٍ فقط اصطدم بجدارٍ يكفى لإنهاء مسيرة أعتى السياسيِّين، ولشهورٍ طويلة مَضَت يُناضلُ مُنفردًا لانتزاع بطاقة السباق، وغَسْل البُقَع الكثيفة عن ثيابه الباهتة. فجأة يتلقّى هديةً ما كانت فى الحسبان، ولا بإمكانه إخراجُها على تلك الصيغة ولو أراد. المُناوشات داخل الحزب تبخّرت تمامًا، والداعمون ازدادوا ثباتًا، أمَّا المُتأرجحون فقد لعبت التفاصيل المسرحيّة دورًا فى إرساء بندولهم على جهة اليمين، أو قطاعات واسعة منهم على الأقل. لقد صار طريق «ترامب» إلى البيت الأبيض مفروشًا بالورود، وما يتبقّى أقربُ إلى فُسحةٍ قبل مراسم التنصيب؛ وليس سباقًا انتخابيًّا بالمعنى الكامل.. باستثناء خروقاتٍ نادرة على طول التاريخ الأمريكىِّ، كانت تركيبةُ «الواسب» حاكمةً فى مدارج القيادة، والرجلُ مِثالىٌّ تمامًا من تلك الزاوية، ومع مُجتمعٍ يتعاطى الدِّين بكثافةٍ تتجاوزُ بقيّة الساحات الأنجلوساكسونية؛ فإنَّ النجاة ستُقدِّم نفسَها للناس من دون إيضاحٍ أو شروحاتٍ؛ باعتبارها منحةً إلهيّة ومُؤازرةً من السماء لمندوبها المُراد على الأرض. قال ماركو روبيو بعد الحادث مُباشرةً إنَّ الله أنقذَ ترامب، وطُبِعَت صُورُه على القمصان، وصار هتافُه وقتَها، «قاتلوا»، رائجًا للغاية، وكُلَّها أعادت تحرير مشهد الرجل على وجهٍ مُفارقٍ، من الأزمة إلى العطيّة المُقدَّسة، ومن المُطاردة القانونية إلى الحماية فوق البشرية. لقد صار بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها مسيحًا سماويًّا، لا إلى الصليب يسير؛ إنما إلى هالة المجد ومُرتقَى السُّلطة والحُكم.
تتابعَتْ رسائلُ الدعم من قادة حزبه، وارتقت شعبيَّتُه عِدّةَ نقاط. كانت معروفًا أنه سيُغادر مؤتمر ويسكونسن ببطاقة الترشُّح؛ لكنَّ الحَدَث صارَ منصّةً إجماعيَّة لتجديد العَهد والاحتفاء بالبطل؛ بدلاً من تمرير القرار على قبولٍ من البعض وكراهية من غيرهم. إنه مشهدٌ جديدٌ يسوءُ «بايدن» ويطعنه فى مَقتل؛ إذ بينما يتعاطاه الشارعُ بقدرٍ من الحياد والقبول النسبىِّ، يقعُ الخلافُ الأكبر عليه داخل حزبه، ويُنكَر من شُركائه وأصدقاء عُمره الطويل؛ حتى لَيَبدو أنه غير مُقنِعٍ لدائرته اللصيقة، مع ما يُحدثه هذا من أثرٍ على ميولِ الناخبين غير المُلتزمين حزبيًّا. فكأنَّ الرصاصة التى أخطأت «ترامب» قد أصابت مُنافسَه، والجريمة رغم أرجحيّة أنها حقيقيّة وغير مُرتَّبة؛ تأبى إلَّا أن تُستكمَل تفاصيلُها بنكهةٍ ميلودراميّة فيها الكثير من طرافة المسرح ومُفاجآته.
انقضت رقصة الدم؛ إنما ما يزال صداها مُتردِّدًا، وستُلازم الرجل إلى عتبة البيت الأبيض، وفى ولايته الثانية، وإلى مدىً زمنىٍّ أبعد كثيرًا. ربما لن تهدأ النقاشات بشأنها إلى موعد التصويت، وقد تُستَجدّ اتهامات وتنطفئ غيرها؛ لكنها لو كانت أحدثت أثرًا واحدًا على المشهد السياسى الأمريكى، فهو أنها حَسَمت السباق الرئاسى تقريبًا؛ ما لم تقع مُفاجآتٌ أضخم وأشدُّ خَرقًا للعقل والمنطق.. أقل من أربعة شهور سيُحرَق فيها كثير من الكلام، فى الدعايات أو الكرنفالات أو المُناظرة الثانية خلال سبتمبر، وستحضر أوكرانيا وغزة والصين وإيران وكل شتات القضايا والنزاعات المُعلَّقة؛ إنما لن يتغيَّر شىء تقريبًا؛ والخوف على مقاعد الكونجرس وارتدادات تلك الفوضى على حظوظ الديمقراطيين.. لقد أطلق الشابُ العشرينىُّ النارَ على ترامب، ولم يُخطئه فقط؛ بل فى واقع الأمر أصاب بايدن، وربما لا ينفع الآن أىُّ حديثٍ عن إحلال أو استبدال؛ لأنها رصاصةٌ نافذة من صدر الرئيس العجوز، إلى سويداء قلب حزبه، وقد خاضَ اللعبةَ من البداية باستهانة وسوء تقدير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة