أنا من أشد المعجبين بالملك أمنحتب الثالث" الملقب بـ "الباشا" وكان بحق باشا عظيماً بين فراعنة مصر العظام، هذا الملك أعتبره أوفر ملوك مصر حظاً ، ورث إمبراطورية شاسعة بعد جهود أجداده الفراعنة الذين وصلوا بحدود الإمبراطورية المصرية إلى هضبة الأناضول شمالاً وإلى الشلال الرابع جنوباً عند مملكة كوش القديمة.. وقد تمتع أمنحتب الثالث بخيرات هذه الإمبراطورية المستتبة بفضل جهود أجداده، وكانت الجزية والهدايا والنساء الجميلات يأتين من كل أركان الأرض ليعمروا البلاط الملكى فى طيبة، التي أصبحت في أيامه عاصمة تحكم العالم القديم.
ومما لاشك فيه أن هذا الملك نال من حسد الحاسدين ما لم يناله ملك من الملوك، سواء في حياته أو موته أو حتى بعد انقضاء أكثر من ثلاثة آلاف عام على وفاته، وكان من الطبيعى أن يتأثر الباشا بعيون حساده فيعاني أشد المعاناة من آلام الأسنان وظهرت خراريج أسفل اللثة، ولم يكن يستطيع أن يأكل أو يتذوق أى شيء أو حتى يحظى بساعة من النوم.
هذا ما كشفت عنه مومياء الملك الذى لم يترك إلة أو إلهة للطب إلا ولجأ إليه طلباً للشفاء، سواء كانت آلهة الطب المصرية أو الآسيوية.. وهذا هو سبب هذه المئات من تماثيل ولوحات الإلهة سخمت" التي صنعها لها الملك أمنحتب الثالث، وكانت من آلهات الشفاء في مصر القديمة.
بالطبع كانت فرصة رائعة وأنا موجود بوادى القرود أتفقد حفائرى هناك للدخول وزيارة مقبرة الباشا "أمنحتب الثالث" لأستعيد هذه المناظر الجميلة التى شكلها خيالي عن حياة هذا الملك الذى كان يرفل فى العز والنعيم. وقبل أن أحدثكم عن هذه المقبرة الفريدة فلعل القارئ ينتظر تفسيراً لمعنى تسمية الوادى الذي تقع به المقبرة باسم "وادي القرود".. وهنا تتفق الآراء أن السبب هو مناظر المقبرة.. وبها مناظر للقردة داخل مقبرتي "آى" ومقبرة الملك "توت" الساعة الأولى المختصرة من كتاب الإيمى دوات أو ما هو موجود فى العالم الآخر أو الحجرة الخفية – حجرة وهى الدفن.. ولذلك سمى الوادى باسم وادى القرود.
وعلى جدران مقبرة "الباشا" صورت مناظر رائعة للملك مع الآلهة ولبعض فصول كتاب العالم الآخر وأحزنني أن أرى خمس مناظر للملك وقد قطعت الرؤوس منها ، هذه الرؤوس الخمسة موجودة في متحف اللوفر، وكالعادة كنا قد توجهنا بطلب مؤدب لاستعادة مناظر الرؤوس الخمسة لكي نعيدها إلى المقبرة خاصة مع قرب انتهاء المشروع الرائع لترميم المقبرة الذي تقوم به بعثة جامعة واسيدا اليابانية بالتعاون مع اليونسكو.
وكالعادة أيضاً قوبل طلبنا بالرفض سواء من مدير اللوفر أو المديرة السابقة للقسم المصرى كريستيان زجلير وللتذكير فهي نفس السيدة التي اشترت قطعاً أثرية مسروقة من إحدى مقابر الأشراف بالأقصر وهى تعلم أنها قطع مسروقة، واستطعنا استعادتها وكانت من أجمل لحظات الفرح وأنا أرى الرئيس محمد حسنى مبارك وهو يتفقد هذه اللوحات برفقة الرئيس ساركوزى رئيس فرنسا الذى أكد أن فرنسا سوف تعيد اللوحات إلى مصر. وقد تأكد الرئيس أن اللوحات التي سوف ترسل إلى مصر عددها خمسة، وخاصة لأن الرئيس وجد أمامه ثلاث لوحات فقط ولكنه أطمئن من السفير المصري ناصر كامل.
علينا أن نتصور مدى الألم ونحن نرى بأعيننا مقبرة الباشا وقد قطعت الرؤوس من مناظره وتعرض باللوفر .. وضع غير مقبول وسنظل نطالب باستعادة رؤوس الباشا حتى أخر نفس...!
وليست هذه هي المأساة الوحيدة وهناك مآسى كثيرة تنطق بها المقابر والمعابد لدينا وقد سرقت منها قطع ولوحات أثرية تعرض بمتاحف أوروبا وأمريكا.. ولازلنا نحلم بيوم استعادة القناع الجميل للمدعو كا نفر " والذى شرق من منطقة سقارة منذ أكثر من نصف قرن وموجود حالياً بمتحف الفن بسانت لويس بأمريكا ورفض مدير المتحف بعجرفة عودته لمصر رغم كل ما قدمناه من دلائل تؤكد سرقة هذا الأثر ، ولم يكن لدينا سوى أن نكتب عن قضيتنا لرجال الكونجرس الأمريكى، بل ولطلبة المدارس بسانت لويس نقول لهم "لا" تزوروا هذا المتحف الذي يعرض آثار مسروقة..!
ليست الصورة كلها بهذه القتامة فهناك عشاق لهذه الحضارة فى كل مكان يدافعون عنها مثلما ندافع نحن.. ومن العلامات المضيئة نجد أمينة متحف المتروبوليتان أديلا أوبنهايم تكتشف أن جزء من ناووس موجود لدى أحد تجار الآثار، وباقى الناووس لايزال بمعابد الكرنك وبالتحديد داخل معبد الإله "بتاح".
وكان الناووس معداً لكي يوضع فوقه تمثال. وقام لصوص الآثار بقطع جزء من الناووس وزنه حوالي 32ك تقريباً وتهريبه إلى أمريكا، بعدها دمروا الناووس تماماً، وهو من الجرانيت الأحمر وعليه نقوش تثبت أنه يعود إلى الملك أمنمحات الأول" من الأسرة الثانية عشر من الدولة الوسطى.. وقد قام عالم الآثار الفرنسي أوجست مارييت عام 1875 بتصوير الناووس وكان كاملاً لم يسرق منه شيء. ولكن عندما جاء ليجران عام 1903 وقام بنشر صورة لهذا الناووس لم تكن هذه الزاوية به، مما يؤكد أنها سرقت قبل هذا التاريخ..
وقد استطاعت أديلا أن تقنع تاجر الآثار بأن يرسل هذه القطعة إلى مصر لكي تعود وترمم في مكانها الأصلى وفعلاً اقتنع تاجر الآثار الذي لا أعرف اسمه حتى الآن، والمهم أنه سلم القطعة للمتحف الذي أرسل الأثر إلى المتحف المصرى، وقمنا بنقل القطعة الأثرية إلى معبد الكرنك وأمام العديد من الصحفيين قام المرممين المصريين بإعادة القطعة إلى مكانها الأصلى وذلك في حضور الوزير الفنان فاروق حسنى وصفق الجميع لهذه اللحظة التاريخية.
وكانت هذه رسالة إلى العالم كله تقول أننا يجب أن نتعاون جميعاً لكى نوقف سرقات الآثار التي تسلب الأمم من تاريخها وحضاراتها.. وعلينا أن نتعاون لكى تعود آثارنا المصرية إلى وطنها مصر، فلا يعقل أن يكون جسم التمثال في المتحف المصرى ورأسه فى متحف آخر في أوروبا أو أمريكا.
هل يصحو الضمير العالمى.. إننا لن ننتظر الإجابة، بل سنفعل كل ما في أيدينا لكي تعود آثارنا المسروقة إلى مصر .. ولدينا طرقاً كثيرة للوقوف ضد هذه الجريمة..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة