عند وصولى للقاهرة قادما من مدينتى الإسكندرية، أدهشنى ما رأيته مكتوبا بشكل عشوائى متكرر على بعض جوانب الطريق: «البشعة»، ثم رقم هاتفى للتواصل!
أزحت دهشتى جانبا وأنا أسترجع ذلك المشهد من مسلسل «حارة اليهود» من إنتاج العام 2015 للفتوة فتحى العسال، الفنان سيد رجب، وهو يتحدى خصمه البلطجى النطاط الفنان وليد فواز، أن يخوض اختبار «البشعة» لإظهار صدقه أو كذبه، وقيام من ارتضياه للتحكيم بينهما بتسخين مطواة إلى حد الاحمرار، ثم قيام النطاط بلعقها بلسانه لإظهار براءته المزعومة.
لا بد أن أبناء جيل الثمانينيات- وهو جيل كاتب هذه السطور- يتذكرون كذلك مشهدا مماثلا من مسلسل «سنبل بعد المليون» إنتاج 1987، للبطل سنبل، الفنان محمد صبحى، وهو يخوض اختبار «لحس الطاسة» لإثبات براءته من تهمة لفقت له.
فما هى قصة البشعة التى تلعب فى عصرنا دور التحقيقات الجنائية وأجهزة كشف الكذب؟
نقلا عن الدكتور محمد الجوهرى، أستاذ علم الاجتماع والمتخصص بالفلكلور فى موسوعة التراث الشعبى العربى، حيث يشرح: إن طقس البشعة أو التبشيع، هو عادة عند البدو لاختبار براءة المتهم، فيقوم المبشع- وهو القاضى المختص بهذا النوع من التحكيم- بجمع مجلسه، حيث يحضر كلا من المدعى والمدعى عليه والشهود، ويقوم بوضع قطعة حديدية تشبه الملعقة الضخمة أو الطاسة فى النار حتى تصل لحد الاحمرار، فيرفعها ويمسح عليها بكفه إثباتا للحضور أنه حكم عاجل مبرأ من الكذب، ويأمر المتهم بإخراج لسانه وعرضه على الشهود للتأكد من أن لا إصابات سابقة به، وبعدها يأمره بلعق الطاسة ثلاث مرات ثم التمضمض بالماء، وإبقاء فمه مغلقا بضعة دقائق ثم عرضه على الشهود، فإن ظهرت باللسان آثار الحرق يقضى المبشع بالكلمة الرهيبة «موغون » أى «مدان»، وإن لم تظهر آثار للحرق يقضى ببراءته بشكل حاسم «أرجو أن يغفر لى أستاذى وصديقى أ.د. الجوهرى هذا الاختصار الشديد ».
يمكننى أن أتفهم دهشة القارئ من أن فى عصر التقدم التكنولوجى المذهل، ودولة القانون ومؤسسات إنفاذه وتطور وسائل التحقيق وجمع الأدلة، ما زال بيننا من يؤمنون بفاعلية مثل تلك الممارسات، إلا أننا لسنا فى سياق التقييم للممارسات الشعبية وإنما أقصد من مقالى تفسير الممارسة نفسها وتتبع جذورها التاريخية، فما هى تلك الجذور؟
الأمر الواقع هو أن التقدم سالف الذكر لم يمنع بقاء بعض المعتقدات الضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ، من تلك المعتقدات «الامتحان بالنار ».
يقال فى المأثورات الشعبية «إن النار لا تحرق المؤمن»، يعارض الواقع تلك المقولة، فلطالما احترق مؤمنون بالنار فى الحوادث والحروب، ولطالما طور الإنسان أدوات الإحراق لأخيه الإنسان، من السهام المشتعلة وقذائف المنجنيق الملتهبة وصولا للقنابل الحارقة الكفيلة بإذابة آلاف البشر فى ثوان قليلة.. فهل كل هؤلاء غير مؤمنين؟
دعنى أقول لك: إن المعتقدين بفاعلية اختبار النار لا يرون تعارضا بين الواقع التاريخى والمعاصر القاسى، ومقولة أن النار لا تحرق مؤمنا، فالنار التى يعنونها بمقولتهم تختلف عن نار الحوادث والحروب فى أن تلك الأخيرة «نار لا تعقل تأكل الصالح والطالح» أما «نار التحكيم»، فهى نار مطوّعة لأداء مهمة بعينها، مما يجعلها لا تأكل سوى المذنب أو المدان.
تعود جذور هذا المعتقد للعصور القديمة، حيث أولى الإنسان اهتماما واحتراما للعناصر الأربعة الأساسية «التراب، الماء، النار، الهواء».
ولأن النقيضين- النار والماء- هما الأكثر خطرا على حياة وممتلكات البشر، فقد نظروا لهما نظرة تجمع بين الرهبة والرغبة.
فإن تأملنا النار لوجدنا أن تطويع الإنسان القديم لها قد عاد عليه بفوائد عظيمة، فاستخدمها لحماية نفسه من الحيوانات المفترسة، وطهى الطعام، والتدفئة، وسباكة الأدوات المعدنية، وحرق الطمى وتجفيفه تمهيدا لاستخدامه فى البناء، ووضع الإشارات للمسافرين فوق المنائر وقمم الجبال، وغيرها.
ولأن العقل البشرى لا حدود لمضمار خياله، فقد أضفى ذلك العقل الجامح على النار قدرات وطبائع ما ورائية، أو خارقة للطبيعة، منها معاملتها أحيانا باعتبارها «كائن عاقل»، ونتيجة لذلك بدأت فكرة استخدامها كأداة لاختبار البراءة، ففى بعض الحضارات القديمة كان المتهم يؤمر بالمرور وسط النيران لتتبين براءته من عدمها، حتى إن البعض ذهبوا فى تفسيرهم التاريخى لمشهد الأمر بإلقاء النبى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى النار أنه لم يكن عقوبة له على تحطيم الأصنام، وإنما إخضاع له لاختبار البراءة أو الإدانة بالنار، والكتابات التاريخية تثبت أن البابليين قد استخدموا «تحكيم قوى الطبيعة» فى المتهمين، مثل «اختبار النهر» بإلقاء المتهم فى النهر، فإذا غرق عد مدانا وإن نجا أعلنت براءته.
وفى أساطير العرب قبل الإسلام، قصة عن نار عاقلة كانت تسيل فتحرق الأنعام، حتى تصدى لها رجل صالح من قبيلة عبس هو خالد بن سنان، وراح يطاردها وهو يضربها بردائه حتى حبسها فى أحد الكهوف، وبالغ البعض فقالوا إنه كان نبيا للعرب قبل محمد عليه الصلاة والسلام.
وفى أوروبا بالعصور الوسطى، اعتادت بعض الشعوب الچرمانية فى شمالى أوروبا أن تمتحن المتهم بجعله يلتقط جسما ثقيلا من قلب وعاء به ماء أو زيت مغلى، أو أمره بحمل قضيب معدنى ملتهب والسير به عددا من الخطوات، ثم فحص كفاه بعد أيام، فإن كانت جروحه وحروقه قد برأت أصبحت هذه علامة على براءته.
وتحت الحكم الرهيب لمحاكم التفتيش الكاثوليكية الأوروپية، كان يقضى بالإعدام حرقا للمدانين بما تعتبره تلك المحاكم كفرا أو هرطقة، باعتبار أن النار من شأنها تطهيرهم وتطهير المجتمع من استحواذ الشيطان عليهم.
وفى المشرق العربى والإسلامى فى العصور الوسطى، بقيت شذرات من معتقد «تحكيم النار» فى معتقدات العامة، ففى واقعة احتراق المسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة، إثر إصابته بصاعقة فى عهد السلطان المملوكى الأشرف قايتباى «حكم من 1468م إلى 1496م»، وكان قد انتهى توا من تجديده، قال بعض المتعصبين مذهبيا إن الله قد أرسل صاعقة النار لحرق المسجد غضبا منه أن السلطان يسمح للشيعة بزيارة الحرمين الشريفين، أما من أرادوا «مجاملة» السلطان فقد قال بعضهم: إن الله قد أرسل الصاعقة لتحرق المسجد تقبلا منه للعمل الصالح للسلطان، كما أرسل فى القصص الدينى لسان النار من السماء لتقبل قربان هابيل بن آدم عليه السلام لإظهار رضاه عنه، وجدير بالذكر أن بعض صياغات قصة قربان هابيل ولسان النار تقول إن هابيل وقابيل تخاصما فى الزواج من فتاة، فأمرهما أبوهما بأن يقرب كل منهما قربانا، فمن نزل لسان النار وأكل قربانه فقد قضى له.
وعودة لفكرة اعتبار أن نار التحكيم «عاقلة مميزة »، فما يؤكد تلك الفكرة فى أذهان المعتقدين باختبار النار هو إساءة فهمهم الآيات التى تذكر جهنم، فتذكر أنها تعقل وتقول «هل من مزيد؟»، فهم يقيسون لا إراديا ذلك على نار «البشعة» فيضفون عليها عقلا وتمييزا مؤقتين، وليت النار فعلا لا تحرق بريئا، إذن لاسترحنا من مشاهد حرق الأبرياء بنار الحروب فى مختلف أنحاء العالم.
وكم فى الثقافة والممارسات الشعبية من أمور مستفزة للعقل لاستحضار القصص المثيرة من الماضى.. فهو بحق منجم غنى بالحكايات المثيرة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة